سياسة

لبنان بين الاستقلال المفقود وطريق جهنم.

كتب زكــي طــه

لم يبق  للبنانيين من رمزيات الاحتفال بالاستقلال مع إلغاء مراسم الاستقبال في القصر الجمهوري سوى الذكرى، ومعها كل القلق  حول مصير الوطن بعد ما نجحت قوى السلطة  في محاصرة وتهميش الذين ملأوا الساحات العام الفائت، وقد راودهم الأمل باستعادته من براثن الطبقة السياسية التي فرطت بكل حصانته الوطنيه، ووضعته امام مصير مجهول. الأمر الذي يستحضر  تقدير أحد القادة الملهمين عشية انتخاب العهد الحالي قبل أربع سنوات، من أنه سيوسم بالأسوأ منذ تأسيس لبنان، وسيكون الأكثر خطورة على مصير الكيان والخشية أن يكون العهد الأخير. والتقدير أتى في سياق  استشراف مستقبل البلد في  ضوء المعطيات والوقائع الداخلية، من انقسامات وتعطيل للاستحقاقات والمؤسسات الدستورية، وارتباطها بمعادلات الصراعات الإقليمية والدولية  في المنطقة وأزماتها المتفجرة، التي أتت تسوية الانتخابات الرئاسية في امتدادها.

وهي التسوية التي انحكمت إلى الواقع اللبناني المازوم  وتحكمت به  في ظل ما رافقها من اختلالات في موازين القوى المحلية، ومن أوهام ورهانات ومصالح فئوية، طوال أربعة أعوام معطوفة على ما سبقها قادت البلد واللبنانيين إلى ما هم فيه راهناً، من كوارث ومآسٍ ومخاطر، حيث لا شيء يعاكس التقدير المشار إليه.  خاصة مع انفلات الانقسامات الأهلية، وشلل مؤسسات الدولة وأجهزتها ومواقع الحكم فيها، وبلوغ الفساد السياسي مستويات من الفجور لا سابق لها في تفسير الصلاحيات والمواد الدستورية، للإستئثار بالسلطة وتكريس المصالح الفئوية باسم الدين والمذهب والطائفة والأعراف والميثاقية، ودفع البلاد والعباد إلى نفق الانهيار الكارثي  وتوالي الانفجارات المدمرة بكل المقاييس، وعلى مختلف المستويات دون رادع وطني أو انساني.

ومما لا شك فيه أن الانقسامات الأهلية، أطاحت بما تبقى من عناصر استقلال لبنان. خاصة مع إصرار العهد وشركائه من الحكام والمسؤولين، على تشريع  ابواب البلد امام منوعات التدخلات الخارجية والارتهان لها والرهان عليها في آن، وتعريض السلم  الأهلى لأشد الوان الفوضى السياسية والاجتماعية والأمنية، في موازاة الإنهيار الاقتصادي والمالي، ووضع  الكيان امام خطر الزوال، أو على طريق جهنم وفق وصف صاحب العهد “القوي”.

    وخلافاً لرهانات البعض على دعم الخارج لهذا الطرف أو ذاك، وعلى مفاعيل الضغوط والعقوبات التي تطال قوى أو رموز في السلطة بذرائع وحجج مختلفة. فإن أكثرية اللبنانيين يعرفون جيداً أن  تلك الدول والجهات تنطلق من مصالح بلدانها أولاً وأساساً. أما حقوق اللبنانيين وتطلعاتهم ومصالح وطنهم فلا تعدو سوى غطاء يُستغل لتبرير التدخلات، بينما  تشكل سياسات حكامهم وفسادهم ذرائع لإطلاق التحذيرات ووضع الشروط وإنزال العقوبات. أما القوى التي طالتها الاتهامات والعقوبات فلا تتردد في وصفها بالمؤامرة الدولية التي تنفذ  بالتواطوء مع خصومهم الذين تتشارك معهم الحكم والممارسات عينها.

   ولأن قوى الحكم والسلطة  التي تتحكم بالبلد تتحصن بمواقعها لحماية مكتسباتها، وترفض  تقديم التنازلات  للمصلحة الوطنية أو تنفيذ الاصلاحات لضمان حقوق من تحكم باسمهم. فإنه أيضاً من غير الوارد بالنسبة لهم الإيفاء بالوعود التي تنال من مصالحهم الفئوية،  ولذلك تراوغ هذه القوى بشأن التزاماتها أمام رؤساء وموفدي الخارج أو في مؤتمرات دولية تحت راية دعم لبنان، وتمعن في التهرب من تنفيذ أية اصلاحات. يجري ذلك في موازاة الاستهتار بحقوق  اللبنانيين ومصيرهم، والاستخفاف بالطلبات التي تضمنتها المبادرة الفرنسية وشروط المؤتمرات والصناديق الدولية، والإستهانة بالعقوبات الأميركية ومفاعيلها الكارثية على الاقتصاد ومصادر عيش المواطنين، بالتزامن مع  ارتهان البعض لسياسات النظام الإيراني المحاصر بالعقوبات وسط استسهال ربط البلد بأزمات الجوار من البوابة السورية المتفجرة. 

 أما إطمئنان القوى الحاكمة  فمرده إضافة  إلى عدم وجود معارضة ذات وزن مؤثر، سياسات الخارج التي لم ولن تستهدف الخلاص منها، او إنهاء أدوارها الثمينة التي تشكل مرتكزات  لتدخلاته.  خاصة أنه يتقاسم دعم أطراف الداخل  كذلك الخصومة معها وادعاء العداء لبعضها، في إطار المواجهة الدائمة والمفتوحة على  الحصص والنفوذ والمصالح. وما يؤكد ذلك اعلانات رؤساء ومسؤولي  تلك الدول حول سياساتهم  وما تنطوي عليه من شروط  دعم وضغوط وعقوبات، باعتبارها لا تستهدف تغيير الأنظمة أو القوى الحاكمة في هذه الدولة أو تلك، بما فيه لبنان، لكنها  تطالبها بأدوار وممارسات تجعل التعاون معها ممكناً. في ما الأوطان ومجتمعاتها وشعوبها وحقوقها ومصالحها ومصيرها، لا تشكل سوى ذرائع للاستغلال ورايات لتنظيم الصراعات.

هذه هي الحال مع المبادرة الفرنسية كما قدمها صاحبها، ومع الشروط الاصلاحية لمؤتمرات الدعم، كما  بالنسبة للعقوبات الأميركية. الهدف والغاية ضمان أموال الاستثمارات والمصالح المتنوعة الكامنة خلفها، حتى لو اقتضى الأمر تأبيد حكم وسلطة قوى الطبقة السياسية الفاسدة بكل المقاييس القانونية والدستورية  والوطنية والانسانية. ولا يختلف الأمر مع أنظمة الاستبداد في دول الجوار الإقليمي والعربي، التي تدّعي تقديم الدعم والمساعدة  لغايات سياسية خارج اطار الدولة لهذا الطرف أو ذاك، سواء اتى من ايران  وتركيا أو دول الخليج أوغيرها. 

   ورغم تسارع  الانهيار وتآكل مقومات الدولة وتعطيل مؤسساتها وتفكك أجهزتها، ومع  اقتراب أكثرية اللبنانيين من المجاعة  الزاحفة، بالتزامن مع الانتشار الكارثي للوباء،  والتراجع المريع للخدمات الصحية وبدء فقدان الأدوية، بالتوازي مع عجز وشلل سائر قطاعات الخدمات وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهجرة،  فإن أطراف السلطة لا تزال تمارس ترف الصراع على الصلاحيات والمكاسب الفئوية، بين رئيس عهد يخوض معركة توريث صهره وتعويمه بعدما طالته العقوبات، ورئيس مجلس نيابي مشكوك بشرعيته شعبياً.  في ما رئيس الحكومة المكلف يفتقد للحلفاء ودعم الخارج، وعاجز عن التأليف ومحاصر بشروط الخصوم،  يخشى تجرع كأس الاعتكاف وخسارة التكليف. في المقابل حزب مدجج بفائض قوة وقدرة على التحكم بمسارات الاستحقاقات، وفق شروطه وسياسات الأمر الواقع وفرضها على الجميع، ما  يعطل تشكيل الحكومة ويضع البلد ومؤسساته أمام الفراغ القاتل.

أما اللبنانيون الذين ينشدون الانقاذ وبقاء الوطن، وقد باتوا أسرى عوامل الانهيار المتمادي تحاصرهم حواجز الداخل وقيود الخارج، فليس أمامهم سوى الصمود ومواجهة المخاطر والتحديات بما تبقى لديهم من امكانات، ورفض التسليم بجهنم أو خطر الزوال قدراً حتمياً. وذلك من خلال  تجديد التحركات المطلبية، والتواضع في وضع الأهداف الواقعية  القابلة للتحقيق وفق مسار تراكمي،  وعدم التلهي بالشعارات الكبرى، واستنساخ البرامج البديلة التي  تفتقد لمن هو قادر على تحويلها مرشداً لحركة  قادرة على الفعل المتنامي.

Leave a Comment