.. أما بعد أن باشرت شركة توتال الحفر في المياه البحرية اللبنانية، يكون قد آن الأوان لإنهاء «الوضع الشاذ» في قطاع النفط والغاز. والبدء فوراً بإنشاء إدارة مؤسسية لهذا القطاع. بدل إدارة «تركيب الطرابيش» في إطار التوظيف المذهبي والنكد السياسي. ومن ضمن عشرات المهام المنوطة بهذه الإدارة نكتفي بالإشارة إلى مهمتين: الأولى إنشاء شركة نفط وطنية لإدارة الموارد البترولية. والثانية، إنشاء هيئة وطنية لإدارة ملف ترسيم الحدود البحرية.
من يدير ملف الموارد البترولية
الجواب: لا أحد. والمسؤوليات بحكم الدستور والقوانين، مبعثرة بين وزير الطاقة والهيئة الناظمة «التابعة له»، ومجلس الوزراء «مجتمعاً». اما بحكم الأمر الواقع فهي خاضعة لميزان القوى بين الأحزاب والطوائف والمذاهب.
وغالباً ما يرتكب أحد التيارات السياسية خطأ توظيف أي إنجاز لتحقيق مكاسب سياسية. ليقابله تيار آخر بخطيئة تعطيل الملف ونسف الإنجاز. كما حصل حين تم تعطيل إصدار مراسيم اتفاقيات الاستكشاف والانتاج لمدة أربع سنوات كاملة.
ولكن السؤال الملح الآن مع احتمال تحقيق أول اكتشاف تجاري، هل التركيبة المؤسسية الحالية ممثلة بوزارة الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول تمتلك القدرات الفنية والبشرية والمالية لإدارة الملف. والأهم من ذلك كله هل يجوز للهيئة بحكم قانون تأسيسها كهيئة ناظمة تولي مهام إدارة الاكتشافات البترولية. ونسوق بعض الأمثلة للتوضيح.
الارتباك والحيرة في التعامل مع ملابسات انسحاب شركة «نوفاتك» الروسية من اتفاقيتَي الاستكشاف والإنتاج بتاريخ 13 سبتمبر 2022. وتأخر المفاوضات مع شركة قطر للبترول. فقد أضطرت الحكومة يومها إلى نقل حصة الشركة إلى هيئة إدارة قطاع البترول تفادياً لنقلها إلى شركة تابعة لشركة توتال. وذلك أمر مناقض لقانون تأسيس الهيئة ولدورها.
مع تحقيق أي اكتشاف تجاري في البلوك 9، سيكون على لبنان ممثلاً بهيئة إدارة قطاع البترول التصدي لعشرات المهام المعقدة التي تنص عليها اتفاقية الاستكشاف. ومن بينها على سبيل المثال: دراسة ومراجعة أربع خطط رئيسية تعدها الشركات. وهي خطط الاستكشاف والتقييم، ومن ثم خطط التطوير والإنتاج. وتتطلب دراسة هذه الخطط كوادر بشرية عالية الكفاءة. وتعمل ضمن فرق متكاملة ومتناغمة. ويشمل نشاطها المجالات الجيولوجية والهندسة البترولية والاقتصادية والمالية والبيئية الخ. ولا تستهدف هذه الدراسة رصد الثغرات الحسابية أو الأخطاء الطباعية، بل مقارنة السيناريوهات المختلفة لكل نشاط. والتوصل إلى قرار بالموافقة على الخطط أو تعديلها أو رفضها. ولترفع توصية بالقرار إلى وزير الطاقة لكي يحيله إلى مجلس الوزراء.
ولتوضيح دقة وخطورة هذه الدراسات، نسوق مثالاً يتعلق بحصة إسرائيل من عائدات حقل قانا. صحيح ان اتفاقية الترسيم تنص على أن تدفع شركة توتال “مستحقات” إسرائيل من حصتها. ولكن الصحيح أيضاً أن على لبنان أن يكون قادراً على المشاركة في تحديد كمية الغاز المستحقة لإسرائيل، وعلى تحديد حصة إسرائيل في تكلفة الاستكشاف والإنتاج التي تقتطعها توتال من البترول المستخرج تحت بند “بترول الكلفة”. الأمر الذي يضمن أن لا تكون توتال “عم تربحنا جميلة من كيسنا”
الهيئة غير مخولة وغير مؤهلة
لما كانت هيئة إدارة قطاع البترول غير مخولة قانوناً القيام بهذه المهمة. كما أنها غير مؤهلة لا إدارياً ولا فنياً لذلك. فالخوف أن يؤدي تحقيق أي اكتشاف بترولي، إلى “اكتشاف” ما يتم إعداده، من خطط لتناهب الثروة قبل استخراجها. ومن هذه الخطط تكليف شركات خدمات بترولية وشركات استشارية وخبراء للقيام بمهمة مراجعة وتقييم خطط الاستكشاف والتطوير والإنتاج. ما يفتح مجالاً واسعاً لتركيب الصفقات على صعيدين. الأول اختيار الشركات وتحديد أتعابها. والثاني وهو الأهم الموافقة على خطط قد لا تكون في مصلحة لبنان خاصة في الجوانب المتعلقة بالتكلفة التي ستقتطع من قيمة البترول المستخرج قبل احتساب حصة لبنان والشركات. وليشكل ذلك تعويضاً للطبقة السياسية بعد فشلها في وضع اليد على جزء من عوائد النفط والغاز من خلال “بدعة صاحب حق غير مشغل”. التي تضمنها قانون الموارد البترولية لفرض مشاركة هذه الطبقة في عوائد ثروة الغاز من خلال شركات قائمة أو وهمية تم تأسيسها على عجل.
بدل تغطية السموات بالقبوات وتحميل هيئة إدارة قطاع البترول تلك المسؤولية الجسيمة، فلتبادر الطبقة السياسية بكل تلاوينها إلى حل مشاكل الهيئة وفي مقدمتها استقالة أعضاء مجلس الإدارة واحداً تلو الآخر. والتركيز على تعزيز دورها كهيئة ناظمة، خاصة وأنها حققت نجاحاً كبيراً بإعداد منظومة تشريعية وتنظيمية متقدمة، وفقاً لأعلى المعايير الدولية.
ولتبادر الطبقة السياسية إلى فتح ملف شركة النفط الوطنية. ووقف التذرع بحجة الانتظار حتى تحقيق أول اكتشاف تجاري كما تنص المادة 6 من قانون الموارد البترولية. أو بحجة ان تأسيس الشركة سيكبد الدولة مصاريف كبيرة ويحملها تكاليف مخاطر المشاركة. فهذه التكاليف وتلك المصاريف ستدفعها الدولة أضعافاً مضاعفة «لتأسيس» مزاريب مبتكرة للتناهب والهدر.
من يدير ملف الترسيم البحري:
الجواب مرة ثانية: لا أحد. فالملف ينتقل تبعاً لتغيير ميزان القوى والتحالفات بين المذاهب والأحزاب، من وزارة الأشغال العامة والنقل وضمناً رئاسة الحكومة، إلى رئاسة مجلس النواب، إلى رئاسة الجمهورية. مع دور دائم للجيش اللبناني الذي يتم اللجوء إليه إذا استدعت الظروف إضفاء المصداقية على أحد القرارات. أو لإعداد الخرائط التي قد تعدلها السلطة السياسية كيفما شاءت.
وللتوضيح نتساءل، هل يعرف أي لبناني من تولى فعلاً لا قولاً ملف المفاوضات مع إسرائيل التي انتهت بتوقيع اتفاقية دولية لترسيم الحدود البحرية؟ وبأي صفة دستورية تولي هذه المهمة؟
وهل يعرف أي لبناني من سيدير ملف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع سوريا بكل تعقيداته السياسية واللوجستية. وكذلك ترسيم الحدود مع قبرص وهي مسألة أكثر تعقيداً وصعوبة نظراً للنزاع القبرصي التركي على المياه البحرية المتاخمة للبنان. ومن سيكمل ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بما يكفل تحرير البلوك رقم 10، الذي تم تأجيل البت بترسيم حدوده.
وليبقى الحل هو تأسيس هيئة وطنية لترسيم الحدود البحرية تتمثل فيها كافة الأحزاب والطوائف. ويتم التوافق سلفاً على “الحدود” السياسية والتنظيمية لعملها. على أن يتم اعتماد الترسيم الذي يعده الجيش اللبناني كمرجعية وحيدة بدون أي تدخل. وليبقى من صلاحية ومسؤولية السياسيين تقديم التنازلات لإتمام عملية الترسيم. علماً ان الجيش اللبناني كان قد طالب بإنشاء مثل هذه الهيئة منذ العام 2012.
وبدون ذلك، فكل ما يحكى عن دورة تراخيص ثانية واستغلال موارد النفط والغاز في بقية البلوكات البحرية. هو ذر للرماد في العيون، فهناك 6 من أصل ثمانية بلوكات هي موضع نزاع حدودي.
مرة ثانية أنه الوقت المناسب ليبادر النواب إلى “التباري” في إعداد وتقديم مشاريع قوانين لتأسيس الهيئة الوطنية لترسيم الحدود على غرار ما فعلوا لإنشاء الصندوق السيادي.
*نشرت على موقع https://taqamena.com/ بتارخ 21 آب / أغسطس 2023
Leave a Comment