أدهم مناصرة
ثمّة حرص لافت من الماكينة الإعلامية الإسرائيلية، خلال السنوات العشر الأخيرة، على إثارة ملف الواقع الديموغرافي والإثني (القومي، والطائفي) في الدول العربية، خصوصاً تلك المجاورة لفلسطين المحتلة، بطريقة دعائية تُبرّئ دولة الإحتلال مما يجري في المنطقة من جهة، وتُسوّغ الصبغة اليهودية للدولة العبرية من جهة ثانية.
ولعلّ ما جاء في مقال الباحث والمستشرق الإسرائيلي، إيال زيسر، الذي نشره في صحيفة “إسرائيل اليوم” اليمينية، يثبت المساعي لدعم البروباغندا الإسرائيلية، والتي عكسها عنوان المقال، ومفاده: “كل ما يحدث في الشرق الأوسط ليس مرتبطاً بالضرورة بإسرائيل ولا نزاعها مع الفلسطينيين”.
ويركز المقال على ما سمّاها التحولات الديموغرافية والسكانية في العقد الأخير، نتيجة الأحداث التي عصفت بالدول العربية، وما أنتجت من موجات من اللاجئين، إضافة إلى تزايد العدد السكاني في مقابل احتدام الصراع على الثروات. فتحدث عن التطور الذي طرأ على حجم الطوائف والأصول الوطنية في لبنان وسوريا والعراق، وأيضاً الأردن. ويقول زيسر: “عاد الحديث في السنوات العشر الأخيرة عن الديموغرافيا، وعن عدد الولادات وحالات الموت والهجرة في منطقة الشرق الأوسط، غير أنه لم يعد يدور حول الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، بل حول الصراع السُّني- الشيعي”، على حد زعمه.
يُقرّب المقال الإسرائيلي المجهر على لبنان، محاولاً أن يرسم شكلاً جديداً أو مستقبلياً للدولة اللبنانية، في خضم أزمتها ووضعها الصعب اجتماعياً وإقتصادياً، بعيداً ممّا يُميّز بلد الأرز بتعدديته الفسيفسائية.. ووفق زيسر، فإن التوزيعة الديموغرافية للطوائف اللبنانية، قد سلبت، حالياً، من المسيحيين الأغلبية، عبر إدعائه بأنّ الشيعة أصبحوا الطائفة الأكبر في الدولة وباتوا يشكلون ثلث عدد السكان، في مقابل المسيحيين الذين فقدوا الأغلبية التي تمتعوا بها، وباتوا ربع السكان فقط، فيما يشكل السُّنة والدروز أيضاً نحو ثلث السكان. ويُضيف زيسر تحوّلاً آخر وقع في لبنان، خلال الأعوام القليلة الفائتة، غير المتغيرات الديموغرافية سالفة الذكر، ألا وهي اللجوء السوري الذي أضيف للجوء الفلسطيني، لتكون النتيجة الآن، بأنّ واحداً من كل ثلاثة لبنانيين، هو لاجئ فلسطيني أو سوري، أي بواقع “مليوني لاجئ إلى ستة ملايين لبناني”.
تبدو هذه القراءة الإسرائيلية للتوزيعة الديموغرافية والطائفية في لبنان، وكأنها تُعبّر عمّا هو مأمول من دولة الإحتلال، وذلك بأن تقود، في المحصلة، بإتجاه تقسيم بلد الأرز إلى دويلات طائفية، كنتاج لحالة الإنهيار السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي يكابده البلد على نحو غير مسبوق. وربما، يُمكن إستقراء هذا، عبر جملة وردت في مقال زيسر، ألا وهي: “كل هذا قبل أن نذكر الزيادة الطبيعية المتسارعة، في مقابل تناقُص الثروات الطبيعية؛ بسبب أزمة المناخ التي تحكم على السكان في منطقة الشرق الأوسط عموماً بالخضوع للضائقة والنقص والفقر”.
أما سوريا، فقد زعم زيسر أن أبناء الطائفة السُّنية شكلوا أغلبية نحو 60% من عموم سكان الدولة، عشية نشوب الحرب الأهلية، في مقابل العلويين الذين تنتمي إليهم سلالة رئيس النظام بشار الأسد، حيث لم يبلغوا سوى نحو 12%. لكن تحوُّلاً كاملاً حدث بفعل النظام السوري وحلفائه في روسيا وإيران، على خلفية نزوح أو طرد نحو 8 ملايين سوري من البلد، غالبيتهم الساحقة من أبناء الطائفة السُّنية من المناطق الريفية التي نشبت فيها الثورة ضد الأسد ونظامه. وبقي في المنطقة الخاضعة لسيطرة الأسد، اليوم، نحو 10 ملايين سوري، وتضاعف عدد العلويين، بحيث اقترب من الربع وربما أكثر، حسب زيسر.
وكذلك الحال بالنسبة للعراق، ذهب زيسر إلى توصيف العراق، ضمنياً، بـ”الشيعي”، وذلك نتيجة ما وصفه بـ”انعطاف” عقب الإحتلال الأميركي الذي أدى إلى إسقاط صدام حسين المنتمي للطائفة السنية كما أسلافه في الحكم. ونتيجة لذلك، ارتفعت نسبة الشيعة المسيطرين في الدولة إلى نحو 65%، وينقسم الباقون بين الأكراد والعرب السُّنة الذين أصبحوا طائفة “هامشية”، وكثيرون منهم فرّوا إلى الأردن وسوريا، حسب زيسر الذي يخلص في مقاله، إلى إبراز دعاية إسرائيلية، ومفادها أن الهلال الخصيب لم يعد سُنِّياً كما كان على مدى ألف عام، معتبراً أنه “أمر يخدم في الظاهر تطلعات الهيمنة الإيرانية التي تسعى لتعزيز مكانتها في المنطقة بواسطة تأجيج التوترات الطائفية”. وأضاف أنه يُستشف من ذلك، أنه “ليس كل ما يحدث في الشرق الأوسط سيرتبط بالضرورة بإسرائيل ونزاعها مع الفلسطينيين”.
وبالنظر إلى قراءة زيسر الإثنية للدول العربية المتاخمة لدولة الإحتلال الإسرائيلي، ومروراً بالتفسير الديموغرافي لمعضلات هذه الدول، فإن كلّ هذا يضيء على الذهنية الإسرائيلية، والوقائع التي تخدم مُرادها، عبر تعميق الشك بين الطوائف في هذه الدول وتغذية النزاع في ما بينها، وبالتالي نزع أي إمكانية للتناغم والإنسجام بين المكونات الإثنية والطائفية.. في مقابل تمتين الغالبية اليهودية في فلسطين المحتلة، وهو ما أكده زيسر بقوله “إن الغالبية اليهودية متينة أكثر من ذي قبل بسبب موجات الهجرة من روسيا وأثيوبيا، ونتيجة زيادة نسبة الولادة في أوساط اليهود الحريديم (المتشددين دينياً)”.
والحال أن إثارة إسرائيل لمسألة تباين موازين القوى بين الطوائف في لبنان وغيرها من الدول العربية، من منطلق حجم كلّ طائفة، يعيد إلى الأذهان ما تحدثت به أقلام إسرائيلية سابقاً عن الحل المستقبلي للفلسطينيين، ويقوم على أساس توزيع الضفة الغربية إلى مناطق، بحيث تحكم العشيرة القوية منطقة نفوذها. ولا يبتعد، كثيراً، تقييم إسرائيل للمشهد الديموغرافي-الطائفي في الدول العربية، عن هذه الرؤية التي تدفع نحو تقسيم لبنان إلى مناطق نفوذ حكم لطوائف. وهذا، بالنهاية يخدم الوجود الإستراتيجي لإسرائيل، عبر انشغال هذه الطوائف عن الدولة العبرية، والتركيز على صراعها ضد بعضها البعض.
المصدر مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نشرت في موقع المدن يوم الثلاثاء11/01/2022، مع ملاحظة أنه جرى تعديل العنوان ليتلاءم مع المضمون.
Leave a Comment