محمد العزير*
من البديهي أن تفيض الصحف والمواقع الإخبارية ومنصّات الإنترنت بالمقالات والآراء والتعليقات حول رحيل هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، الذي توفي في عمر المئة سنة، فهو مفكر وأكاديمي بارز، وصانع سياسات مثيرة للجدل تتراوح بين الإنفتاح الدبلوماسي التاريخي مع الصين، والذي كرّس الإنقسام الشيوعي الدولي وصولًا الى انهيار الإتحاد السوفياتي، وبين الجرائم الموصوفة التي ارتكبتها الإدارة الأميركية في فيتنام وشرق آسيا وأميركا الجنوبية. يغيب عن هذا الفيض من التغطية محور شديد الأهمية وهو عن كيسينجر الصهيوني الذي لم يغير سياسة أميركا الخارجية وحسب، بل غيّر طبيعة علاقاتها مع إسرائيل لتصبح أهم كيان سياسي خارجي يتمتع بأولوية مطلقة في أروقة القرار في واشنطن.
لم يكن وصول كيسنجر، الذي هاجرت عائلته اليهودية الثرية من المانيا الى أميركا عشية الحرب العالمية الثانية، الى سدة المسؤولية عام 1969، كمستشار للأمن القومي لريتشارد نيكسون كأول يهودي في البيت الأبيض، رمزيًا ولا شكليًا، فالصبي الذي كان معجبًا بوزير خارجية النمسا الشهير في القرن التاسع عشر الأمير فون مترنيخ، والذي نشأ في ظل انتشار مفاهيم الدولة القومية في أوروبا، والتي قادت الى حربين كونيتين مهولتين في النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن قادرًا رغم دراسته ودرايته وإطلاعه وحلوله في أهم منصب بعد الرئاسة في أميركا على رؤية الأمور بواقعية على الرغم من أنه يُوصف بأهم الواقعيين، خصوصًا بعدما صار رئيسًا للدبلوماسية الأميركية في لحظة صعودها الكاسح.
لم ينس كيسنجر هويته الأولى كصهيوني عندما أصبح مستشار نيكسون للأمن القومي، عمل بجهد وتصميم على افشال مبادرة وزير خارجية نيكسون الأول وليام روجرز للتوصل الى حل للقضية الفلسطينية بالتنسيق مع الإتحاد السوفياتي، كان يعتقد، وفق ما ورد في كتبه والكتب التي نشرت عن تلك الحقبة، أن ليس لأميركا مصلحة في تسوية سريعة لأنها تحتاج الى إطالة أمد الأزمة خصوصًا بعد إثبات إسرائيل قدرتها على إخضاع الأنظمة العربية المجاورة لفلسطين. لكن كيسينجر وجد فرصته الذهبية في حرب تشرين 1973، عندما فاجأت مصر وسوريا إسرائيل بالهجوم الذي لم تكن تل ابيب تتوقعه، فقد تلكأ في امداد إسرائيل بالجسر الجوي الذي تحتاجه لأن موقفه المعلن لاحقًا تمثل في أن عل إسرائيل أن “تنتصر بكلفة باهظة” والسبب هو أن تكون إسرائيل إمتدادًا لوجستيًا “ُثابتًا” لأميركا، لا أن تقدم خدماتها بالقطعة كما حصل في فيتنام ولاوس.
انطلق كيسينجر في مقاربته هذه من ضرورة أن تتخلى إسرائيل عن الإستثمار في علاقاتها الأوروبية الغربية والإكتفاء بالعلاقة الاستراتيجية مع أميركا التي “اكتمل التحول الدولي نحوها ما بعد الحرب العالمية الثانية”. وكانت حرب تشرين/ أكتوبر المنصة الأولى لتمكين اليمين الإسرائيلي الذي لم يكن له حضور مؤثر في الخريطة السياسية الإسرائيلية. هنا تقاطعت توجهات كيسينجر الدولية مع ميوله المحافظة، فحتى ذلك الحين لم يكن الإسهام اليهودي (الصهيوني) الأميركي يصب خارج الحزب الديمقراطي الذي يحتل اليهود الأميركيون فيه أبرز المناصب الإدارية والتنظيمية. ولم يكن دور كيسينجر مقتصرًا على عمله الرسمي، بل كان نشيطًا في الأوساط اليهودية الأميركية ويقدم بديلًا محافظًا للواقع الليبرالي، وحقق في ذلك نجاحًا جعله مقصدًا دائمًا للحزب الجمهوري وكان أهم مستشاري دونالد ترامب.
على خط موازٍ لوحدانية الإستناد الإسرائيلي على أميركا، عمل كيسينجر على تحويل إسرائيل الى أداة قذرة للسياسة الخارجية الأميركية وخصوصًا في أفريقيا وأميركا الجنوبية، حيث كان للموساد دور مهم في الكثير من الإنقلابات والإضطرابات التي جرت في القارتين، لأن هذا الدور سيجعلها ضرورة لا غنى عنها. وهو في ذلك لم يخيب المبزتين الأساسيتين الملازمين له. فهو كأبيض من أصل أوروبي يرى ما تبقى من العالم ملعبًا له، وهو كصهيوني يؤمن بأن ما أثبت فشله في كل العالم وتسبب بحربين عالميتين شنيعتين، قد يكون مناسبًا لشعب الله المختار.
في آخر مقابلة له بعد أيام على طوفان الأقصى، دعا كيسينجر الى تصفية حركة حماس بشكل كامل، لأنه لا يمكن لإسرائيل أن تسمح لمنظمة” إرهابية” بأخذها كرهينة. واعتبر أن غزة كانت دولة منحتها إسرائيل استقلالها عندما انسحبت منها! وانتقد المانيا لأنها استقبلت الكثير من اللاجئين، وهو اللاجئ الى أميركا من المانيا، لكنه لم يجد ما يلوم الشعب الألماني عليه.
حتى الرمق الأخير أثبت كيسينجر أنه صهيوني… لكن ما لم ينتبه اليه هو أن وصوله الى سدة القرار قبل أكثر من نصف قرن كان قمة صعود الصهيونية، وأن أيامه الأخيرة قد تكون شاهدًا على الإنحدار.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأحد 2023/12/03
Leave a Comment