ثقافة

كل هذا الانحياز السياسي والإعلام المضلّل في فرنسا

ولاء سعيد السامرائي*

لم تشهد فرنسا استقطابا سياسيا حادّا بين أحزابها المختلفة، مثلما تشهده اليوم منذ بداية عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب عز الدين القسّام ضد دولة الاحتلال. يعود هذا الوضع الاستثنائي، وربما التاريخي، في الحياة السياسية الفرنسية لموقف الرئيس إيمانويل ماكرون وخطابه بعد أيام من العملية التي هزّت العالم، بدءا من الكيان المحتلّ إلى حلفائه في أميركا وأوروبا المساندين له. فقد وجّه ماكرون خطابا إلى الشعب الفرنسي، يقول فيه ان فرنسا تقف بدون شرط مع دولة الاحتلال ضد ما سمّاه “إرهاب حماس”، من دون التطرّق إلى الاحتلال ولا إلى الشعب الفلسطيني ومعاناته. لم يكن نواب حزب الرئيس وحدهم من أيدوا وقوف فرنسا بدون قيد أو شرط مع دولة الاحتلال، بل الجديد والمستغرب أن اليمين التقليدي، إرث الجنرال ديغول والرئيس جاك شيراك الذي غالبا ما كان معتدلا ومتوازنا، بل ترميه أقلام صهيونية في فرنسا “بسياسته العربية”، قد انحاز إلى موقف ماكرون مع دولة الاحتلال بدون أي قيد. وقد التحق بهذا الموقف الحزب الاشتراكي الذي قرّر يوما بأغلبية أعضائه في عهد الرئيس فرانسوا هولاند الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن هولاند شطب هذا الاعتراف. أما المفاجأة الأهم في هذا الاستقطاب فقد جاءت من وقوف الحزب الشيوعي أو “بقاياه”، والتي اتّخذت، ولأول مرّة، موقفا منحازا لدولة الاحتلال، رغم تاريخ الحزب المشرّف مع الحقوق الفلسطينية دائما. أما اليمين المتطرّف فقد كان الانحياز الحكومي للكيان هديةً قدّمت له لينتهز الفرصة، ويعيد ترديد أطروحاته عن الإسلام والمسلمين والمهاجرين. ووجد إريك زيمور، المعروف بعدائه الإسلام والمسلمين والعرب والمساند لليمين المتطرّف، الفرصة لإعادة طرح مقولة “صدام الحضارات”، وتسويق أفكار المحافظين الجدد التي مهّدت لغزو العراق، عن الإرهاب الإسلامي. يقول نائب اليمين المتطرف “فيليب تانجي” في تصريح لراديو واسع الانتشار: الإسلاميون عدونا المطلق أما إسرائيل فهي أختنا وحليفتنا وتجمعنا معها القيم نفسها”.

بيد أن حزب “فرنسا الأبية” رفض خطاب الرئيس ماكرون وموقفه “الداعم من دون شرط” واعتبار حماس “منظمة إرهابية”، لحكومة الاحتلال جملة وتفصيلا، واعتبره مسيئا لفرنسا ولدبلوماسيتها وللحقوق الفلسطينية التاريخية. وقد عقد جان لوك ميلنشون رئيس حزب “فرنسا الأبية” سابقا، والمرشح الرئاسي السابق، أكثر من مؤتمر وأمام مئات من الحضور ليرد على خطاب ماكرون وبقية الأحزاب بقوة بالقول إن “حماس” هي منظمة تحرّر وطني، مثلها مثل كل منظمات التحرّر التي عرفها العالم في الدول المستعمرة، منها الجزائر وفيتنام، وأضاف “كل هذه المنظمات استخدمت العمليات العسكرية لكي تتحرّر”. متسائلا: ما هو الغريب في ذلك؟ لماذا لا تُدان جرائم قصف المدنيين في غزّة أم أن الأحزاب وجدتها “فرصة مناسبة لها” لتظهر تضامنها مع موقف الرئيس. وفي البرلمان رافعت النائبة ماتيلد بانو رئيسة كتلة الحزب عن موقفهم بقولها للنواب في المجلس “لن تتمكنوا من تغيير موقفنا، منذ أسبوعين ونحن نطالب بوقف إطلاق النار، تتّهمونا بمعاداة السامية وتصلنا تهديدات بالموت، لأننا دعونا إلى السلام وإلى إدانة كل جرائم الحرب. فيما تحدّث نائب آخر، هو أمريك كارون، من منصة المجلس الوطني، دان قتل المدنيين، وبدأ بتعداد جرائم حرب جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الأطفال والنساء وغزّة. وقال: يبدو أن هناك معيارين للغضب هنا في المجلس! هناك أصوات غير موجودة لإدانة المصير الذي يواجه الفلسطينيين في هذه اللحظة كما لو أن حياة فلسطينية لها قيمة أقل من حياة إسرائيلية؟ وقد جاء تساؤل النائب أمريك كارون في الصميم، لأن عملية طوفان الأقصى قد أسقطت الأقنعة، حتى عن بعض الأحزاب والشخصيات التي كانت تقليديا مع تطبيق القانون الدولي، ومع الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطينية سواء في اليمين التقليدي أم في اليسار.

لم يقل التوتر في المشهد الإعلامي الفرنسي عن مثيله السياسي إذا لم يتجاوزه، فمجرّد مشاهدة بعض القنوات الفضائية واسعة المشاهدة مثل قناة BFMTV وقناة CNEWS يشعر المشاهد بخطورة ما يدور وما سيدور ليس فقط في غزّة، بل في فرنسا، وكأن البلد هي نفسها في حالة حرب لكسب معركة الرأي العام الإعلامية فيه لوجود جالية عربية هي الأهم في أوروبا وجالية يهودية هي الثانية في العالم. بدت هذه القنوات وأخرى غيرها مصرّة على انتزاع توصيف “حماس” منظمة إرهابية كبداية لكل نقاش مع مدعويها، ما يرجّح أن ذلك يعود تنفيذا لتعليمات الإعلام العسكري الإسرائيلي الذي أكد على صحافييه وإعلامه ربط حماس بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في كل ما يقولونه، وهو ما ينشره في إعلانات واسعة على الإنترنت باللغة الفرنسية وللجمهور الفرنسي.

أول ما تمت ملاحظته من المتابعين للأخبار في هذه القنوات المملوكة من كبار الأغنياء من أصدقاء الرئيس ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، الذين اشتروا غالبية الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية الفرنسية بعد الانتفاضة الثانية وتهشّم صورة دولة الاحتلال في العالم بعد اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرّة في غزّة في العام 2000، هو محاولة نزع إنسانية الفلسطيني مقابل الإسرائيلي “الإنسان”، والتقليل من فظاعة القتل الجماعي والمجازر واستخدام الأرقام ومفردات مثل “موت” و”وفاة” للفلسطيني، كما لو أن الفلسطيني لا يملك اسما ولا قصة ولا صورة ولا عائلة أو أصدقاء، وتحويلهم إلى مجرد أرقام، وسط صور تقتصر على مشاهد الدمار، تمر وتعبر تحت البصر من دون أن تحظى بالاهتمام أو التضامن والدعم. فيما حفلت سردية قتلى الإسرائيليين بصور الأطفال وفيديوهات وقصص عنهم وعن سيرهم، وصور للشابّات وقصص حياتهن وعملهن وهواياتهن وعطلهن وأصدقائهن. وخصّص هذا الإعلام صفحات وأحاديث عن شباب حفلات المثليين وتشابه ثقافتهم معهم ومع قراءاتهم وأسفارهم. ورغم سيل تلقته هذه القنوات والمواقع الإعلامية الواسع من الانتقادات عبر وسائل التواصل، بسبب هذا التعاطي المنحاز والتشويه المقصود لصورة الفلسطيني، تستمرّ هذه الأجهزة في سياستها التحريرية التي تنقل سرديات جانب واحد، لأنها فضاءات تم شراؤها لمثل هذه الأوقات لكسب معارك الرأي العام وشيطنة الفلسطيني والعربي والمسلم الذي يقف بوجه الاحتلال.

رغم انتشار هذه القنوات ومتابعتها من ملايين الفرنسيين، فإن بعض محطات الإعلام الرسمي الحكومي وعددا من الصحف والمواقع الإلكترونية المستقلة لشخصيات معروفة بالتزامها بالمهنية وبالقيم الموضوعية والإنسانية رفضوا الانجرار إلى سردية قنوات أصدقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي، وعادوا من جديد، رغم مناخ الشيطنة والاتهام والتسقيط للكلام عن القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني ومعاناة الفلسطينيين تحت نظام عنصري، بعد أن منعوا بعد الانتفاضة الثانية وخسارة الكيان وقتها المعركة الإعلامية عالميا، من نشر أي شيء يخصّ فلسطين. ولعل أجمل ما رأيناه منذ 7 أكتوبر هنا هو التضامن الكبير لنواب حزب “فرنسا الأبية” الذين أنشأوا قنوات شخصية، واستدعوا مختلف الشخصيات، للحديث عن قضية الشعب الفلسطيني، وهم من بادر إلى تنظيم تظاهرة لدعم المقاومة، حضرها أكثر من ثلاثين ألف شخص، ودعوا إلى أخرى، لأن وزير الداخلية الذي يرى في كل مسلم وعربي وداعم للقضية الفلسطينية معاديا للسامية قد منع التظاهرات والتضامن مع غزّة لتكون فرنسا ووزير داخليتها الدولة الوحيدة التي تمنع حرية التعبير والتضامن مع غزّة، رغم تعارضها مع القانون والدستور وبالأخص مع حقوق الإنسان! وما يزال نواب من حزب “فرنسا الأبية” يحملون بشدة على موقف الرئيس الفرنسي وموقف الحكومة من تجاهل حقوق الفلسطينيين، ويدعون إلى احترام هذه الحقوق ووجود الفلسطينيين وتطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن قضيتهم.

*نشرت في العربي الجديد في 06 تشرين الثاني / نوفمبر 2023

Leave a Comment