ثقافة سياسة محسن إبراهيم منشورات

كتاب الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم عن تسعة قادة ومفكرين لبنانيين هم: جنبلاط وفضل الله والصدر وسعادة والصلح وإبراهيم ومالك والحاج ونصار/3/4

يساهم موقع “بيروت الحرية” بإعادة نشر بحث د. زهير هواري ضمن العمل المشار إليه أعلاه لتعذر الوقوف عند كل الأبحاث المنشورة في الكتاب . . 

محسن ابراهيم وإشكاليات الحرب الاهلية: مفتاح نقدي يكشف كيانات المنطقة 3/ 4 

د. زهير هواري

مقدمات وعوامل الحرب

منذ اصدار محسن ابراهيم كتاب ” الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية ” في شباط / فبراير 1983 مروراُ بمداخلاته أمام اللجنة المركزية للمنظمة بعدها، وإلى النصف الاول من التسعينيات وصولاً إلى ما قاله ابراهيم لمناسبة تأبين رفيقه جورج حاوي في قصر الاونيسكو [1]. كل هذا عبارة عن نهج متماسك يتطور باستمرار في رؤية تلك الحرب ومضاعفاتها .

وكتاب الحرب هو الاول في سلسلة كتب أصدرها محسن إبراهيم وتلاه كتاب: قضايا نظرية وسياسية بعد الحرب (منشورات بيروت المساء، أيار 1984)، ثم كتاب:  آفاق العمل الوطني (منشورات بيروت المساء، أيلول 1984) . وأخيراً كتاب الحرب الاهلية اللبنانية وأزمة الوضع العربي ، (منشورات بيروت المساء، كانون الاول 1985) .  الواضح أنه من أصل أربع عناوين من كتبه هناك ثلاثة منها يبرز من العنوان موضوع الحرب. وهو أمر يعني محورية الحرب في فهم مجرياتها من جهة والمواقف والمواقع التي تفاعلت معها من ضفافها المختلفة. أما الكتابان الباقيان فقد نشر أحدهما بعنوان “في الاشتراكية ” والثاني حول الرأسمالية. وكلاهما كانا أكثرمن ضرورة بعد سقوط  أو انهيار الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، باعتبار ذلك يأتي منسجماً مع  مشروع إعادة البناء الفكري للتنظيم الذي يعمل عليه بعد أن ثبت فشل المشروع الأم.

يطغى على ما عداه في مؤلفاته. دون أن يعني ذلك كله أنه ومنظمته قد حصرا مقاربة الحرب بتاريخ اندلاعها الرسمي، وهو تاريخ اشكالي على أي حال. فالمحطات التي سبقت يوم مقتَلَة البوسطة في 13 نيسان 1975  متعددة ومتلاحقة منذ العام 1969 وبعده. علماً أنه  بين التاريخ الاول والتاريخ الأخير المرسم نهاية لها مع توقيع اتفاق الطائف ودسترته في العام 1990 قرابة ربع قرن. وهي مدة زمنية كافية بالنظر إلى ما حملته من دلالات داخلية واقليمية ودولية محيطة، وما فتحته من جراحات في البنية والكيانات اللبنانية والعربية.

وبهذا المعنى لم تكن الحرب الاهلية حدثاً منفصلاً عن سياق تطورات الاوضاع السياسية العربية ومجريات الاجتماع اللبناني، ليس فقط  بفعل تكرارها في تاريخ البلد منذ الاعوام 1840 و1860         و1864 و1922 و1958، بل لأنها لم تتحول إلى ماض، إذ ما زالت على الصعيد الواقعي قائمة وحاضرة في حياة اللبنانيين تهدد واقعهم وتطغى على مستقبلهم. لذلك ما يزال يروج في أدبيات اللبنانيين الحديث عن حرب أهلية باردة وحرب أهلية ساخنة. بهذا المعنى كانت تلك الحرب لدى صدور هذه الاحاديث في مجلة بيروت المساء بين 13 تشرين الثاني و25 كانون اﻷوّل 1982 ملتهبة، وقد دخلت في معتركها قوى اضافية أبرزها دون منازع تمثل بالغزو الاسرائيلي ومظلته الاميركية والحضور السوري وفضائه السوفياتي، وبطبيعة الحال العامل الفلسطيني الحاضر والمستهدف، والذي وإن كان قد أُرغم نهاية على إخلاء العاصمة بيروت، الا أنه حاول أن يظل حاضراً في البقاع والشمال، وبالتالي فاعلاً في حومة الصراع المفتوح على الساحة اللبنانية. لا شك أن حدث الغزو الاسرائيلي في حزيران 1982 يمثل ذروة من ذرى تلك الحرب كونه بمثابة منعطف تاريخي في حياة لبنان والمنطقة، وحدث من وزن الغزو ما كان له أن يتحقق دون أن تستبقه سنوات الحرب الاهلية مع كل ما تخللها من تآكل في قدرات المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية على الصمود واستنزاف للوضع العربي. وهذه تبدأ مما استبق هجوم آلة الحرب الاسرائيلية  في 5 حزيران 1982 من اقتتال بين حركة أمل وكل من القوات المشتركة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في الجنوب وأحياء العاصمة في اطار الصراع على السلطة فيضوء طموحات حركة أمل للدخول فيها؛ ناهيك بالجبهات التقليدية للحرب الاهلية الممتدة من مرفأ بيروت إلى كفرشيما والحدث وغيرها من ميادين قتال. حتى ضاق الاهالي ذرعاً بما يعيشونه من استنزاف يومي.  والأهم هو ما عاشته المنطقة العربية بعد خروج مصر من المشاركة في المواجهة. كل هذا  يدفع إلى قراءة واستخلاص ما عبرت عنه تلك الاحداث المتسارعة بقواها وتناقضاتها من دروس . وهو أمر ليس بجديد لدى ابراهيم والمنظمة التي قاد، ففي العام 1977 وبعد  عامين على اندلاع الاقتتال أي في عامي 1975 – 1976 صدر تقرير عن اللجنة المركزية للمنظمة يحمل مراجعة نقدية لمواقف المنظمة سواء عبرت عن نفسها في تقارير أو وثائق وبيانات[2] .

وبديهي لدى الحديث عن الحرب أن يتم التطرق إلى العوامل التي قادت إلى انفجارها. وهي هنا في أدبيات المنظمة مكررة وسابقة على تاريخ اندلاع القتال في 13 نيسان 1975 . فقد اثبتت المنظمة من خلال مواقفها أن عوامل نضوج انفجار الحرب الاهلية تسارعت بين أواخر الستينيات والنصف الاول من السبعينيات. بهذا المعنى كانت كانت تلك الحرب هي الابنة الشرعية لهزيمة حزيران 1967, وبهدف كسر إرادة القتال لدى الفلسطنينيين الذين جرى حشرهم في الجغرافيا الطبيعية والسياسية الضيقة للبنان. هنا يصبح السؤال المطروح هو : لماذا هذا التشديد الواضح على مسألة الحرب الأهلية: عناصرها، عواملها، مقدماتها، أبطالها، اللاعبون فيها، أحداثها، نتائجها على البنية اللبنانية، لماذا يفترض أن تكون المراجعة اساسية لكي تكون في مستوى إدعاء طرف أنه بات صاحب موقف حاسم ضد الحرب الأهلية. فمنذ العام 1984 باتت تتكرر على صفحات “بيروت المساء” عبارات من نوع ” الحرب العبثية ” والحرب الانتحارية ” والحرب الطائفية من كل الضفاف ” وما شابه. وهي مصطلحات مختلفة جذرياً عن تلك التي سادت مع بداية الحرب، إذ اعتبرتها بأنها ممر إجباري لإحداث التغيير الوطني الديمقراطي – العلماني وللقضاء على النظام الطائفي وإحلال نظام سياسي قابل للحياة محله متفاعل مع مجريات الاوضاع العربية. ثم جرى التمييز بين عامي الحرب الأولين 1975 – 1976 وما بعدهما. إقترن هذا المنحى المستجد بقرار الانسحاب من جبهات القتال في سوق الغرب وخطوط القتال في سائر المناطق، والاقتصار على المساهمة في عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي دعا إليها اللبنانيين كل من ابراهيم وجورج حاوي في 16 أيلول 1982.

كان ابراهيم يشدد خلال تلك المرحلة على أن هدف المراجعة هو بالضبط تكريس الخروج من المحرقة ورفض اعتبار الحرب الاهلية بوابة للتغيير في لبنان. لاسيما وقد تبين أنها أخذت تدر خسائر صافية على كل ما حققه الاجتماع اللبناني من تقدم في غضون العقود السابقة، عندما ارتد إلى مجرد بنية طائفية متقوقعة على نفسها. فباتت المناطق الشرقية مسيحية خالصة والغربية اسلامية على نحو شبه كامل . ثم جاء الغزو الاسرائيلي ليشحن البلد بكميات وقود إضافية من القوى الميليشياوية. سينطلق ابراهيم من اعتبار نفسه وتنظيمه صاحب مسؤولية في البلد لانه الطرف الحاسم في اليسار ومن الحركة الوطنية الذي يطمح إلى صوغ خطاب معاكس لمنطق الحرب الأهلية، كما فعل عكس ذلك بداية. يقول ابراهيم:” هذا هو الوضع الحالي الخاص، ومعه، فخطاب معلن ضد الحرب الأهلية، ينطلق من أن مصطلح الحرب الأهلية بالمعنى السياسي الفكري السوسيولوجي لا يتحدد بالقتال بالسلاح. الحرب الأهلية هي احتقان البنية وانفجارها بشكل من الاشكال. ومثلما هناك سلم اهلي بارد، كذلك هناك حرب اهلية باردة. هناك حرب أهلية بسلاح وحرب اهلية بلا سلاح” [3].. من خلال هذا المبحث في مقاربة الحرب الاهلية التي يعتبرها ابراهيم مفتاح المفاتيح للقصر كونها تفتح مغاليق كل الغرف خلاف سواها التي تفتح على غرفة من الغرف أو جناح من الأجنحة ، تستعيد المنظمة دورها السياسي – الفكري – النقدي، لأنها ومنذ سنين تكافح من أجل أن تراکم موقعا خارج منطق الحرب الأهلية، وتكافح من اجل ان يكون لها ما يتماسك فكرياً ونظرياً وبرنامجياً وسياسيا في مواجهة ما هو مستتر وما هو محتمل من الحرب الأهلية. وأكثر من ذلك، يفرض هذا المدخل نفسه بشدة من أجل قراءة ما العمل مستقبلاً، وذلك لأن الحرب الأهلية مستمرة بأشكال مختلفة. ويعتبر ابراهيم أنه والمنظمة اصحاب رأي يتطلب تجديد حيثياته بان الإدارة الخارجية للوضع اللبناني هي إدارة حرب أهلية [4].

ولذلك تسترجع المنظمة قراءتها للأزمة الاجتماعية المستفحلة نتيجة بنية الاقتصاد الحر التي تتحكم بالبلاد،  وانعدام التوازن بين المناطق والطوائف والقطاعات، وتبعيته المطلقة للسوق الرأسمالية العالمية .إضافة إلى الأعباء الباهظة التي بدأ  يحملها  للطبقة العاملة والبورجوازية الصغيرة المدينية والريفية ولسائر الفئات الاجتماعية الكادحة والمسحوقة والمحرومة والهامشية. فضلاً عن تحميله شرائح من البورجوازية الوسطى أعباء بدأت تضغط عليها هي أيضا… وبهذا المعنى لم تكن الاضرابات والتظاهرات الحاشدة التي شملت العمال والمعلمين ومزارعي التبغ والمستخدمين والموظفين والطلاب سوى تعبير عن حدة الصراع الاجتماعي المحتدم.. وهي الفترة التي شهد فيها اليسار نمواً لا سابق له من حيث الوزن والاتساع في جميع الاوساط .. وترافق ذلك مع ظهور الحركات المطلبية بقوالبها الطائفية ونمو حركات المطالبة الطائفية بالحقوق المحرومة وإزالة الغبن عنها كطوائف [5]. وفي المقلب الموازي كانت الاحزاب الطائفية المسيحية وفيمقدمها حزب الكتائب تستثمر في مناخ الأزمة الاجتماعية من خلال تحميل مسؤولية تأزم الوضع من جوانبه الاقتصادية والاجتماعية للعمل الفدائي الفلسطيني واليسار اللبناني، وتضغط من أجل كبح نشاطهما السياسي والميداني. وترفض بالتالي تقديم أي تنازلات تساعد على تهدئة الوضع عند حدود معينة. وهو ما لم يحدث على أي حال. العامل الوطني خلال تلك المرحلة تضاعف تأثيره، وبات الجنوب ميدان عدوان يومي مع ما ينتج عنه من تهجير ونزوح  وخسائر بشرية ومادية.  ولا ننسى أن ذلك كله كان مسبوقاً باستمرار قضية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين معلقة وتشتيت شعبها . مضافاً إليها نتائج حرب الخامس من حزيران، وما تخللها من هزيمة طالت ثلاثة جيوش واحتلال أراضي ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا والاردن . علما أن مضاعفاتها تجاوزت أراضي الدول العربية الثلاث لتصل إلى مجمل الاوضاع العربية. وأبرز ما تمخض عنها كان ظهور المقاومة الفلسطينية على خشبة مسرح الصراع في 1 / 1 / 1965 ، ثم تضخمت تلك الظاهرة كرد على هزيمة الجيوش العربية، وخروج قضيتها من قمقم المصادرة العربية، وما عرفه الشعب الفلسسطيني في حينه من ضبط في اطار سياسات كل من مصر وسوريا والاردن وجامعة الدول العربية . باختصار فتحت تلك الحرب الباب أمام تحولات كبرى،  وأهالت التراب على اتفاقات الهدنة العربية مع اسرائيل، ومن بينها لبنان الذي لم تتعرض أراضيه للاحتلال، وإن كانت حدوده قد أخذت دورها في جبهات الصراع العربي – الاسرائيلي بعد أن تمركزت فيها وحدات من المقاومة الفلسطينية قبل عقد اتفاق القاهرة وبعده. وإذذاك كانت الدول العربية الرسمية ترفع شعار إزالة آثار العدوان وتطبيق القراراين 242 و338 . ما جعل لبنان ينضوي رغماً عن إرادته في دائرة صراع مفتوح، ومن دون ضوابط كتلك التي حددتها الدول العربية الثلاث. وفي المقابل ظل النظام السياسي يصر على التشبث بنهجه التقليدي في الانسحاب من الصراع، ومتابعة إدارة علاقات لبنان بالمنطقة بمنطق العروبة الاقتصادية والانعزال السياسي عن قضاياها. أي إن لبنان يريد الاستمرار بجني الفوائد من دورحلقة الوصل بين السوق الرأسمالي والمنطقة العربية، ووضع نفسه بمنأى عن هذا الاحتدام في مستوى الصراعات التي أعادت حرب حزيران تفجيرها بالحدود القصوى المعروفة [6] . هذا هو المنطق والمنطلق الذي غلّف نظرية المنظمة للوضع الاجتماعي في البلاد.

اختلال التوازن اللبناني

إذن انطلقت المنظمة من اعتبار انفجار الحرب الاهلية قد حدث نتيجة تقاطع عاملين كبيرين رئيسيين تقع مسؤوليتهما أساساً على عاتق الطبقة المسيطرة القيمة على الكيان والنظام اللبنانيين في آن، وهذا العاملان كما يحددهما ابراهيم هما:

1-     الاختلال في نقطة التوازن التي يقع الكيان اللبناني عندها، وهي التي لطالما عينت له علة استمراره واستقراره النسبي في الإطار العربي بصفتها نقطة الانضمام الى المحطة العربية الاجمالية. الخلل الأول، الذي لم يكن الأول بالمعنى الحرفي، معطوفاً على سوابق منذ الاستقلال، ومستنداً على الدوام الى ما استجد بفعل قيام إسرائيل في المنطقة العربية، هو استعادة الكيان اللبناني لوناً من الانعزال أو الانعزالية المغلقة على مستجدات الوضع العربي، تحت وطأة الصراع العربي – الاسرائيلي، ما أخذ يهدد بإطاحة منطق تسوية الاستقلال الأولى عام 1943. وقد اعتبرت المنظمة أن الكيان اللبناني ولد وهو يحوي في احشائه نزعتين: نزعة انعزال وانعزالية حيال المنطقة العربية أولاً ، ونزعة انفتاح وسعي إلى تواصل واسع مع المنطقة العربية ثانياً . ومن توازنهما تألف هذا الكيان وأرسي ميثاقه واجتاز محطاته، وظهر خلال ربع القرن الأول على قيامه بأن الكيان يهتز اذا ما اهتز التوازن المحيط به إقليمياً ودولياً[7]… وفي هذا المجال ظهرت ادبيات مكررة حملت هذا المعنى ، تتعلق بما تولد عن هزيمة حزيران 1967 في صفوف الطبقة المسيطرة على البلد كياناً ونظاماً (ما معنى قيام الحلف الثلاثي، كيف نظر إلى الهزيمة العربية عام 1967، ماذا ترتب على إلحاقه الهزيمة بالشهابية). وبالتالي امام أي امتحان ومحنة بدأت الطبقة القيمة على شؤون هذا الكيان، على علة وجوده، بدأت تدفع؟ هذا عامل اول.

2-     يتمثل العامل الثاني بانتقال النظام اللبناني بأساسه الاقتصادي وتركيبه الاجتماعي وبصعيده السياسي، وبمجمل مؤسساته الى طور من القصور الشديد عن استيعاب واستقبال مجمل التطورات الحاصلة في البنية اللبنانية على مختلف مستوياتها، مما جعله هذه المرة نظاما مغلقا على انتاج تسوية تضبط الازمة الاجتماعية بمختلف مفاعيلها الداخلية، أي الازمة الاجتماعية التي تطال بنية النظام [8]. والفكرة نفسها وردت في كتاب الحرب وتجربة الحركة الوطنية، وإنما بصيغة أكثر تحديداً . ففي الفترة ما بين 1967 والعام 1974 شهد لبنان مغالبة عنيدة من جانب الطبقة المسيطرة حول أزمة وطنية سياسية اقتصادية اجتماعية كانت تلف البلاد ككل. وهي مغالبة اتخذت شكل اللجوء المتمادي إلى محاولة كسر النهوض الوطني الديمقراطي الشعبي بالعنف الرسمي المنظم الذي كانت الطبقة المسيطرة تملك كل أدواته. .. وعندما بدأ يتضح أن طوفان الأزمة الوطنية السياسية والاجتماعية من الضخامة بحيث لم تعد أدوات القمع الرسمي المنظم قادرة على صده ، بدأنا نشهد ولادة مشاريع القمع الأهلي المسلح على أرضية نمو التيار الفاشي الطائفي [9].

وعندما يدخل ابراهيم  في تعيين المسؤوليات عن انفجار الحرب الاهلية، فإنه يجدد قناعته، انطلاقاً مما سبق وشدد عليه دائما من أن الطبقة أو التحالف الطبقي الإجمالي السياسي الذي كان قيِّما على شؤون البلد منذ إعلانه كيانا مستقلا عام 1943 حتى العام 1975 قد اثبت أنه كان المسؤول الأول والاكبر في تحمله للعبء التاريخي من جعل الحرب الاهلية ممراً اجبارياً. لكن  من خلال متابعة ما يرد حولها يتبين أن دور اليسار كان حاسماً في إيقاد نارها. أيضاً ينبغي إعادة إدخال الجانب العربي في سياق هذين العاملين المحليين. فالحرب الاهلية لم تكن منقطعة السياق عن المناخ الاجمالي التي تشهده المنطقة العربية. والذي قاد في المحصلة إلى حصار العامل الفلسطيني في المسرح اللبناني . صحيح أن مصر تخلت عن إلتزاماتها العربية، ودخلت في مسار مفاوضات سلمية ستستعيد بموجبها أراضيها المحتلة في سيناء مقابل خروجها من دائرة الصراع، لكن الاراضي المحتلة في كل من سوريا والاردن ظلتا أسيرتي محصلة ونتائج حرب العام 1967.

ولعل الأهم هو أن حصار المقاومة الفلسطينية في البقعة اللبنانية هو ما سيقود حكما إلى الانفجار، عندما تتفاعل عوامل الاقليم مع عوامل الداخل بكل ما يحملانه من تناقضات ومواد قابلة للاشتعال. فالأزمة الوطنية التي كانت تعبر عن نفسها بالهجمات الاسرائيلية اليومية التي يتعرض لها الجنوب فاقمت من حدة الأزمة الاجتماعية. إذ إن نزوح عشرات الألوف من قرى ومدن الجنوب نحو العاصمة سيقود إلى عجز السلطة المطلق عن استيعاب خسائر هذه الهجمات سواء أكانت بشرية أو مادية. ما زاد الطين بلة أن ما نؤشر إليه ليس مجرد أزمة أو مأزق موضعي. فالاقتصاد اللبناني برمته كان ما يزال يحصد نتائج أزمة بنك انترا عام 1966، والقطاعات الخدماتية التي تستأثر بـأكثر من 70% من حجم الاقتصاد الكلي تأثرت بمناخات المنطقة، وتحويل جزء مهم من مقدراتها المالية النفطية لمساندة دول المواجهة العربية ودعم مجهودها الحربي. والقطاعان الصناعي والزراعي ظلا في موقعيهما الهامشي، وبديا أعجز عن استيعاب الفائض البشري الذي تقذف به حركة النزوح إلى الداخل و تعويض خسارة قطاع الخدمات. والعاملان معاً لم يكن لدى النظام وأهله ما يقدمانه علاجاً لأوضاعهما. فليس باستطاعتهما حل المشكلة الوطنية المتصاعدة انطلاقاً من بوابة الجنوب، ولا في مقدرتهما مواجهة المعضلات الاجتماعية والمعيشية المتفاقمة [10]. ما يعني أن تفجيرالحرب الاهلية بات معطى له مقوماته الفعلية، خصوصاً بعد أن باتت عدة الحرب الاهلية شبه جاهزة، بما هي مناخ متبادل من التعبئة والتحريض السياسي والطبقي والطائفي وتسليح ومخيمات تدريب واعداد تشكيلات شبه نظامية قادرة على حمل السلاح، وممارسة الضغط على القوى السياسية التي تمارس حماية أو دفاع عن حق المقاومة بالانطلاق من لبنان نحو الاراضي الفلسطينية المحتلة. ففي غضون تلك الفترة بات الصراع على الهوية والسلطة في ذروته، واندرجت في مجراه إن لم نقل كل القوى السياسية فالفاعلين منها على الأقل، وكان لكل جهة وطائفة محاججاتها ومطلعاتها ورؤيتها لمسائل الكيان والسيادة والاصلاح وعلاقاته العربية فضلاً عن تراتبية قواه داخلياً [11]، وبديهي أن يستحضر كل من اطراف المعادلة في نطاق دعم وجهة نظره تفسيره للميثاق الوطني والدستور والمستندات التاريخية التي يعتمدها في تغليب منطقة على الآخر.

دور اليسار في تفجير الحرب الاهلية

لم يقتصر الأمر على ثنائية اليمين – اليسار مع التباساتهما الطائفية، بل كانت كل القوى الاسلامية والمسيحية – المارونية تحديداً- شريكاً في مناخ الاستقطاب الثنائي. لكن ما يعنينا أكثر من سواه هو موقع اليسار. فالقراءة التي تجدل اللبناني بالعربي بالدولي والسياسي بالاقتصادي بالاجتماعي هي من صياغة اليسار. وعليه، فإنها تفتح على سؤال مواز يتعلق بمسؤولية اليسار عن اشتعال هذه الحرب. إذ لا يكفي هنا تبرئة الذات وتحميل المسؤولية إلى اليمين، أو التحالف الطبقي كي يتم غسل الايدي من آثامها وما شهدته من شرور وكوارث. فالواقع أنه كان يمكن أن يشحذ اليمين كل أسلحة الحرب هذه،  داخل مؤسسات الدولة وفي المجتمع الاهلي، لكنها كان يمكن أن تمر كل تلك الوقائع باضطراب أمني نسبي وتقتصر على تصعيد في القمع الرسمي – الطائفي دون الوصول إلى استعار الحرب، واستغراقها هذا الكم من السنوات المتلاحقة، وتداخل كل الاطراف الدولية والاقليمية في خضمها. وهنا ينطرح السؤال الذي طرحه محسن ابراهيم على المنظمة عندما قال : وهل كان فكر اليسار أو الحركة الوطنية والمنظمة هو فكر حرب أهلية؟؟

وقبلاً وبالعودة إلى أدبيات حزب الكتائب والجبهة اللبنانية، نجد أن الحزب بدأ التسلح منذ العام 1969 ، وبـ” التحديد منذ أُرغمت الدولة اللبنانية على الاعتراف بالوجود الفلسطيني المسلح وبحقه في التحرك في اتفاق القاهرة الشهير، فمنذ ذلك الحين بدأت الكتائب تعد نفسها لمقاومة بدت بالنسبة إليها لا بد منها بعد تعطيل الجيش وإقصائه عن مسؤولياته العسكرية..”[12]،اذا كان التسلح قد بدأ في العام 1969 كما ورد بقلم جوزف أبي خليل، فما تلاها من بيانات وتصريحات ومواقف يومية كان يطلقها رئيس الحزب الشيخ بيار الجميل  إلى تاريخ 13 نيسان 1975 تؤشر إلى المسؤول عن تفجير الحرب، وبما يتجاوز ما ذهبت إليه المنظمة والحركة الوطنية من مسؤولية النظام، الذي لم يكن متوافقاً بجناحيه المسيحي والمسلم عليها بدليل شل محاولات استعمال الجيش أكثر من مرة. ففي المواقف اليومية كانت جريدة “العمل”[13] عبر تصريحات متواترة تصدر عن الشيخ بيار الجميل وقادة الحزب تؤكد على إتهام “العمل الفدائي غير الشريف واليسار المخرب” [14] بالمسؤولية عما تعيشه البلاد من ويلات وأزمات متداخلة وعلى سائر المستويات. وأن الحلول وعودة الهدوء ممكنة اذا ما تم وضع حد لهما. وهو ما لم يتحقق بواسطة القوى النظامية التي جرى تعطيل دورها وقدرتها على الحسم، ما استدعى مشاركة القوى الاهلية الميليشياوية في مطحنة ميادين القتال. هنا نحن أمام قراءتين وكل منهما نقيضة للأخرى. فالكتائب تحمّل اليسار والصف الوطني الذي أدخل البلاد في أزمة سياسية انتهت بتوقيع اتفاق القاهرة مسؤولية مآلات الوضع بمضاعفاته كما يعرض ابو خليل لتفاصيله، بما فيه العلاقات التي أقامها الحزب مع كل من سوريا واسرائيل. واليسار بدوره يحمل مسؤولية فتح أبواب جهنم على مصراعيها في البلاد لليمين وقواه وسلطته وحزب الكتائب الذي قام أولاً بإعداد ميليشيا عسكرية، ثم  بتشريع الحدود للتدخلات الاقليمية سورية واسرائيلية بداية ، يضاف إلى العامل الفلسطيني بثقله ووزنه ودوره الاقليمي. كل هذا أدخل المشهد اللبناني في تعقيدات كبرى خرجت به عن نطاقه المحلي إلى مستوى الصراعات الاقليمية والدولية .

كل ما ورد أعلاه يضع البلاد في دائرة انكشاف الداخل اللبناني والتقلص الشديد لحيز الاستقلال، مما ساهم في اجتياح فلسطيني دفاعي للحفاظ على الموقع القتالي الوحيد المتاح، وهجومي لإثارة الالتفات إلى ضرورة إيجاد حل للشعب الفلسطيني وقضيته سياسياً أمام المحافل الدولية في الوقت نفسه . وقد اجابت عليه اسرائيل بأكثر من اجتياح 1978 و1982 . وما بينهما التحقت القوى اللبنانية، شاءت أم أبت  بهذا الاستقطاب من ضفتيه، وباتت هناك عملياً سلطتان مهيمنتان إحداهما في المناطق الشرقية والثانية في الغربية. ولذا يقول ابراهيم “ليس صحيحا القول إنه مقابل الهيمنة المارونية ذات التاريخ الفعلي على البلد، كنا طارحين وممارسين شکلا من أشكال المشاركة الديمقراطية – المقصود هنا الحركة الوطنية – ، نحن شكلنا حاملة لهيمنة فلسطينية، وهذه نقطة حقيقية للنقاش: هل كان هناك هيمنة فلسطينية ام لا؟ ليس صحيحا أن قرارنا وقرار یاسر عرفات متكافئان ويقرران سوية. أما أن يطلع معنا في مخاطبة الهيمنة المارونية أنها تتمسك بالامتيازات حتى آخر لحظة، وليست على استعداد للنقاش مع أي فريق لبناني مسلم، او اي طرف معتدل لفكه عن اليسار. انتهت هذه المارونية السياسية بإيقاع الشطر الأخر تحت هيمنة الفلسطينيين، أي أنها أوصلت البلد الى أفدح ما كان يمكن أن تدفعه لو انها قدمت بعض التنازلات. المارونية كانت تريد حلا بلا خسائر، كل ذلك عندما يقرأ بعد العام 1982، لأنه بعد هذا التاريخ استمرت الحرب الأهلية”[15] . لكن الامور كانت أشد وضوحاً حول مسؤولية اليسار عن حرب لبنان الذي رأى بالحرب الاهلية ممراً اجبارياً لتحويله إلى الحلقة الأقوى في الصراع العربي الاسرائيلي، وسرعان ما حولت المنظمة هذا الشعار إلى تقرير سياسي للجنتها المركزية وجعلت منه ممارسة يومية لنشاطها . لقد بات المضمر واضحاً بما هو تغيير النظام الطائفي المهيمن على البلاد، وبعدما أصبح يملك وثيقة سياسية معلنة هي البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية، الذي لم تستجب له التنظيمات اليمينية المسيحية، ما دفع إلى اطلاق حرب الجبل لإرغامها على القبول بما جاء فيه من بنود اصلاحية. ويقال أن مصدرالخلاف خلال لقاء بشير الجميل وكمال جنبلاط كان رفض جنبلاط كممثل للحركة الوطنية التخلي عن المقاومة الفلسطينية، مقابل موافقة الجبهة اللبنانية على ما تضمنه البرنامج من اصلاحات.

مقابل هذا الانغلاق على كل تطور في مسلك التحالف الطبقي الحاكم، ليس صحيحا القول إن اليسار بمختلف فرقه وانتماءاته آنذاك كان يحمل برنامج تسوية يعين فيها نقطة التوازن التي يجب أن يتحصن بها الكيان. ومشروع التسوية هذا، من شأنه أن يرسم ما يمكن اعتباره الجواب الديمقراطي ولو الى حين. يقول ابراهيم هنا “إن مراجعة نقدية لخط اليسار الذي توجته صيغة الحركة الوطنية والتزامه مقولات وأفكار المنظمة التي شكلت هذه الأفكار والمقولات المستند السياسي للممارسة اليومية للحركة الوطنية، يثبت أنه كان خارج نطاق التسوية. لقد كان خطنا الأسبق في تشكيل الصدى القومي الأكثر راديكالية جوابا على هزيمة حزيران وما تلاها من بروز الثورة الفلسطينية، وكان خطنا المراهن على تثوير المقاومة الفلسطينية للوضع العربي، وقارعنا في حينها برنامج الأنظمة ومعه قوى عديدة من أطراف اليسار، والداعي إلى إزالة آثار العدوان ببرنامج بديل عنوانه حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد. وكلنا يعرف الموقع الذي احتله طرحنا هذا من هيمنة على فكر اليسار اجمالا”. [16]

لقد كانت المنظمة باعتبارها التنظيم الأكثر راديكالية وتنظيراً بين سائر قوى الحركة الوطنية اللبنانية في طروحاتها وبرنامجها، خارج البحث عن رؤية نقطة التوازن حول ما يستطيع لبنان احتماله، وبين ما يجب التمسك به وعدم النزول عن سقفه. وكانت بنيويا في نشأتها وما تلاها عبارة عن ملحق لبناني للمناخ والتوجه العروبي الثوري في أبرز حلقاته، أي منظمة التحرير  الفلسطينية. وهو توجه يتجاوز ما طرحته الناصرية وسوريا البعث حول إزالة آثار العدوان، وقد وجدته المنظمة في أفضل الاحوال يكتفي بتحرير كل من سيناء والجولان والضفة الغربية، بينما المطلوب هو كسراندفاعة المشروع الاسرائيلي المدعوم اميركياً وبناء السلطة الفلسطينية على جزء من الارض الفلسطينية، ضمن أهداف مرحلية تنتهي بإسقاط الكيان الاسرائيلي وهزيمته. فقد ربطت المنظمة بين ما طرحته خلال تلك المرحلة مع ما تصورته أنه الشروط المطلوبة لقيام ثورة عربية نسخة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وهي شروط وجدتها تتقاطع مع الثورة الفلسطينية من خلال حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد التي كانت رائجة ثورياً في حينه انطلاقاً من جنوب شرق آسيا. من هنا كانت الشعارات التي رفعتها تتلاقى مع هذا التوجه، سواء مما طالبت به من فتح كل الجبهات أمام العمل الفدائي لممارسة عملياته القتالية، أو تقديم كل الدعم له للنهوض بالمهمة المركزية التي يجب أن ينهض بمهامها، بما هي مهمة تحرير كل فلسطين، وليس مجرد تحرير ما انتهت إليه حرب الخامس من حزيران من خسارات عربية إضافية[17]. إذن لم تعبأ المنظمة بمضاعفات مثل هذا التوجه على توازنات الكيان اللبناني، وكأن أمره لا يعنيها من قريب أو بعيد . فقد كانت تنطلق من توجه عروبي لا مشكلة لديه من المقامرة بكل الكيانات العربية، وليس الكيان اللبناني وحده. خصوصاً ما دام الحديث عن الكلفة التي يجب دفعها للرد على العدوان الاسرائيلي بنسختيه الأصلية عام 1948 والمستجدة عام 1967 . نظرت المنظمة إلى فلسطين والصراع العربي – الاسرائيلي كقضية مركزية، وحولها وبشأنها يجب أن يتمحور الجهد والتوجه والثمن والخسائر مهما كانت على الاقطار العربية المواجهة التي جرى النظرإليها بمثابة ساحة، وليست أوطانا أو دولاً لها سيادتها وأنظمتها وقوانينها ودساتيرها وشبكات علاقاتها. ويعبر استقرارها عن جملة مصالح لفئات وشرائح اجتماعية فقيرة ومتوسطة وعليا. كان الموضوع الفلسطيني بما هو صراع وجودي هو الطاغي على المشهد السياسي العربي، ومنه تفرعت قضية سيناء والجولان والضفة الغربية. وبالعودة إلى لبنان تمت مقاربة الموقف من خلال رفض محاولة النظام الاستمرار بموقف العزلة عن محيطه، مقابل محاولة اليسار دفعه إلى المزيد من الانخراط في المواجهة. وهو إن كان يعني أمراً، فهو يعني تعذر التسوية من كلا جبهتي الصراع . فلا الجبهة اللبنانية تقبل بأقل من حسم الموقع اللبناني بإخراجه من المساهمة في صراع رأت أنه لا يخصه من قريب أو بعيد، ثم إنه يغريها أن تكون الحلقة الثانية بعد مصر في توقيعها اتفاقية سلام مع اسرائيل. ولا الحركة الوطنية على استعداد للتضحية بالعامل القومي متجلياً في لبنان بالعمل الفدائي الفلسطيني، الذي رأت فيه عنصر تثوير للوضع في المنطقة بأسرها، وتصرفت إزاء لبنان كونه مجرد ساحة للفعل النضالي الفلسطيني ولو قاد ذلك إلى خرابه. ولهذه الغاية ناضلت بشراسة من أجل فتح جبهة الجنوب أمام قواته الفدائية قبل أحداث الاردن عام 1970 وبعدها. إذن لا يتعلق الأمر بوجود أو غياب اتفاق القاهرة الذي جرى التوصل إليه في العام 1969 ووقعه قائد منظمة التحرير الفلسسطينية ياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني، وقائد الجيش العماد أميل البستاني عن الجانب اللبناني، وهو الاتفاق الذي أباح ليس مجرد قيام مواقع عسكرية وخطوط إمداد في ما بات يعرف لاحقاً بـ ” فتح لاند” في الجنوب فقط، بل الإشراف على المخيمات الفلسطينية وتدريب أبنائها، والحفاظ على أمنها وإدارتها على نحو يقود إلى نوع من الأمن الذاتي، معطوفاً على انخراطهم في مواجهة العدو وتحريرالاراضي الفلسطينية المحتلة انطلاقاً من بوابة الجنوب اللبناني.

من خلال نص لابراهيم في كتاب “الحرب وتجربة الحركة الوطنية” يقدم مرافعة مكتملة العناصر عن موقف الحركة الوطنية عندما يقول:” لم يكن أمام الحركة الوطنية من خيار سوى الاستجابة لتحدي الحرب الاهلية الذي فُرض عليها. إن كل اللبنانيين مسؤولون بقواهم السياسية الرئيسية، مسؤولية مشتركة عن الحرب الاهلية في النهاية. لكن لا بد من التمييز بين مسؤولية الفعل، ومسؤولية رد الفعل… لقد غالبت الحركة الوطنية طويلاً إمكان تحول لغتها وشعاراتها إلى لغة وشعارات طائفية، وبالتالي خسارة ما راكمته من وعي سياسي ووطني واجتماعي لدى جماهيرها وكارثة ارتداده إلى وعي طائفي . ويشهد على صحة ما أقول إن الحرب الاهلية عرفت انفصالا واضحاً بين الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط، وبين الكتلة السياسية الطائفية المتشكلة من مجموع قيادات وزعامات المناطق الاسلامية[18] . ما أشار إليه ابراهيم من استجابة الحركة الوطنية لتحدي الحرب الاهلية ، يبدو واضحاً من نص آخر متقاطع، يعترف أن الحركة الوطنية حمَّلت لبنان فوق طاقته على الاحتمال، فانتقال الثقل الفلسطيني إلى لبنان كان ينطوي بالفعل على مفارقة كبيرة بين الحجم الهائل لهذا الثقل، وبين قدرة لبنان وطناً وتركيباً وحياة سياسية على التحمل. لكن ابراهيم في الوقت نفسه يرفض وصف الواجب الملقى على عاتق الحركة الوطنية تجاه القضية الفلسطينية بأنه بلا حدود [19]. وهو أمر يستند إلى خط التقنين والموازنة الدقيقة الذي كانت تحاول حمله الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط ، الذي يتوازن بين ضرورات واحكام الاستقلال النسبي للوضع اللبناني عن الوضع العربي، وبين موجبات انتماء لبنان إلى هذا الوضع العربي والتي لا يمكن التحلل منها[20].

موقف ابراهيم مفتوح على تناقض إشكالي لا يحل الا عبر تسوية غير مطروحة من كلا فريقي الصراع المحليين، أو باندلاع الصراع وبلوغه نهايته وحسمه عند مداه الاقصى. فهناك كما هو واضح من النص قوة تحلم بعزل لبنان عن محيطه القومي، وثانية تعمل على تشريع الكيان اللبناني على نحو كامل أمام الخارج الفلسطيني، و”هذا يعني أننا لم نكن في التسوية، لم نكن في الوسط، كنا على احدى الضفتين” [21]. ربط لبنان على هذا النحو بمعركة الصراع العربي – الاسرائيلي ومع المستقبل العربي الذي تتشابك فيه معركة التحرير القومي لفلسطين مع التحرر الوطني للأقطار العربية مع التقدم الاجتماعي مع الديمقراطية مع الوحدة مع .. مع .. هو ما جعل من لبنان في المحصلة بمثابة ساحة. فإذا اقتضت الأمور أن يكون هذا الكيان ساحة فليكن ساحة. وكما يقول ابراهيم : هذه مناسبة للقول إن برنامجنا كان برنامجاً يتعاطى مع الكيان اللبناني على انه ساحة[22]. يأخذ  ابراهيم كمعبر عن موقف الحركة الوطنية على  الجوار العربي أنه لم ينصرها كفاية على الفريق الأخر. الان نسمع لغة أن العدو اللبناني محسوم أمره، ولا جدال في امکان عقد التسوية معه، فيما الحليف العربي هو عربي غير الجاهز. كل النقاش المرير مع سوريا من البداية الى النهاية هو أنها لم تقف مع الثورة الفلسطينية، ومعنا في برنامج الحد الأقصى على الساحة اللبنانية. مرة اخرى هذا ليس تبرئة لسوريا من خطتها، كان لسوريا خطة نشهد الآن نتائجها وثمراتها، هي مع هذا الاجتياح للوضع اللبناني ولكن بما يحقق حلم سوريا الكبرى [23].

[1]    –   صدر كتاب الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية عن مننشورات بيروت المساء في شباط  / فبراير 1983 ، وحدث بعد صدوره بأسابيع قليلة أن داهمت قوة من الجيش اللبناني مقر مجلة “بيروت المساء” في منطقة وطى المصيطبة وصادرت معظم النسخ . أما خطاب تأبين حاوي فقد ألقاه في 7 آب 2005 من على مسرح قصر الاونيسكو – بيروت.

[2]   – راجع كتاب الحرب وتجربة الحركة الوطنية، مرجع سابق ،  ص — 9

[3]     – دورة اللجنة المركزية بتاريخ 20 و21 تشرين الأول 1994  موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية، الوضع اللبناني، ص 14

[4]   – المرجع نفسه، ص 16

[5]   – مقابل حركة المحرومين التي أنشأها الامام موسى الصدر للمطالبة بحقوق الشيعة، كانت الطائفة السنية نتيجة تهميشها ترفع شعار المشاركة في القرار السياسي، ما أدى إلى مزيد من شحن الأجواء المحتقنة وأزمات متداخلة أبرزها استقالة أو اعتكاف رؤساء الحكومات احتجاجاً على تفرد رئيس الجمهورية بالقرار ، عبد الرؤوف سنو ، حرب لبنان 1975 – 1990 ، تفكك الدولة وتصدع المجتمع ، مجلد 1 ، الدار العربية للعلوم – ناشرون ، ص 125 – 126 .

[6]   –  راجع كتاب الحرب وتجربة الحركة الوطنية، مرجع سابق ، ص  25

[7] – يمكن اعتبار ما شهده لبنان في العام 1958 عندما حاول الرئيس كميل شمعون الإنضواء في حلف بغداد بمثابة نموذح عن مدى تأثر لبنان بالاوضاع العربية المحيطة . ولم تتوقف الاحداث التي عاشتها البلاد إلا بعد عقد صفقة مصرية – اميركية جاءت بقائد الجيش الجنرال  فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ، راجع موقع الجيش اللبناني، وللاطلاع على إنجازات الرئيس شهاب أنظر موقع النهار الالكتروني في 25-10-2022 .

[8]  – موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية – الوضع اللبناني  – 1 بتاريخ 23 /٩/١٩٩٤،  ص 5.

[9]  –  كتاب الحرب و… ، مرجع سابق نفسه ، ص 26

[10]  – عبد الرؤوف سنو  ، مرجع سابق ، ص 122 – 123

[11]  – زهوة مجذوب ، الصراع على السلطة في لبنان ، جدل الخاص والعام، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر2011، الفصلان الاول والثاني ص 59 – 115)

[12]  – جوزيف أبو خليل ، قصة الموارنة في الحرب – سيرة ذاتية ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، بيروت ، لبنان ، ط1 ،1990 ، ص17

[13] – جريدة العمل الناطقة بلسان حزب الكتائب منذ العام 1939 وأبرزرئيسي تحرير لها هما الياس ربابي وجوزف أبو خليل، الذي كان يكتب افتتاحيتها يومياً تحت عنوان ” من حصاد الايام”.

[14]  – جوزف أبو خليل ، المرجع السابق ،ص 18

[15]  – الوثائق الفكرية ، مصدر سابق ، لبنان -1 ص 13

[16]  – المصدر نفسه ، ص 6   .

[17] –  راجع الوثيقة البرنامجية – لبنان 1 – ، مرجع سابق ، ص  6

[18]  –  الحرب وتجربة الحركة الوطنية، مرجع سابق ،  ص33 – 34.

[19]  – الحرب وتجربة الحركة الوطنية، مرجع سابق ،  ص37 .

[20] – المرجع نفسه ، ص 38 .

[21] – راجع الوثيقة البرنامجية حول لبنان – 1 ص 8 .

[22] – المرجع نفسه والصفحة.

[23]  – الوثيقة البرنامجية حول لبنان -1 ص 9.

Leave a Comment