اقتصاد

كارثة الكساد تضرب مواسم الفواكه الصيفية: سوق التصدير معطل والاستهلاك المحلي متراجع

زهير هواري

بيروت 22 تموز 2023 ـ بيروت الحرية

لا تنفع الفصاحة التي تصدر عن وزيري الزراعة والاقتصاد في تغطية ما يعانيه مزارعو الأشجار المثمرة في عموم المناطق اللبنانية من بوادر بوار مواسمهم التي يراهنون عليها في تأمين حاجياتهم، مع انفلات الضرائب وأسعار مختلف الحاجيات الاساسية منها وغير الاساسية. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل تلك الوعود التي قطعها المسؤولان في فتح الاسواق العربية أمام المنتجات اللبنانية. والعكس هو ما يحصل تماماً، اذ المزيد من الاسواق تبدو مقفلة أو شبه مقفلة إلى هذا الحد أو ذاك. أكثر من ذلك بات طموح هؤلاء المزارعين ينحصر في تأمين استرداد ما دفعوه من أكلاف، حتى الوصول إلى ما حملته أشجارهم من فواكه. وعلى الرغم من حركة عودة المغتربين إلى بلادهم، وما يرافقه من استهلاك من قبل مئات ألوف اضافية، الا أن ذلك لا يعوِّض تعذر التصدير إلى الاسواق العربية التي تبدو شبه مقفلة أمام تصدير الفائض اللبناني إليها. خصوصاً وأن موسم الحرارة المتتابع منذ أسابيع أدى إلى نضوج المواسم الزراعية دفعة واحدة ما قاد إلى إغراق للاسواق وهبوط حاد في أسعارها.

فالدول الخليجية ما تزال تتمنع عن استقبال المنتجات اللبنانية، بعد أن باتت تجارة الممنوعات تعتمد حشو الفواكه ( رمان ، ليمون وملفوف وسواها) بحبوب الكبتاغون وما شابهها من مخدرات على أيدي شبكات منظمة، تدار بطريقة تجعل من هذه التجارة تدر مئات الملايين بل المليارات من الدولارات على أربابها، ولو على حساب تعب عشرات الألوف من الفلاحين والمزارعين، ناهيك بتدمير حياة ومستقبل ملايين الشبان العرب المستهلكين – المدمنين. ولم تنجح الجهود التي تبذلها وحدات الجيش اللبناني في مداهمة معامل الإنتاج، والجمارك اللبنانية والعربية على المركز الحدودية، سوى في الحد من تدفق تهريب المخدرات نحو أسواق الخليج الذي ما زال ناشطاً. ما دفعها إلى اعتماد اجراءات حاسمة في رفض استقبال المنتجات السورية واللبنانية، بعد أن باتت معظم المنتجات بما فيه السلع الصناعية مصدر توريد للمخدرات بوسائل مبتكرة سعياً لإيصالها إلى المحطات المستهدفة. ومن المعلوم أن هناك إتهامات اميركية وأوروبية وعربية لكل من سوريا وايران وحزب الله بإدارة هذه التجارة المدمرة. وقد دخلت قضية تهريب الممنوعات في صلب المفاوضات السياسية العربية والدولية على مستوى عالٍ دون أن تنجح في الحد منها. وهكذا خسرت الصادرات اللبنانية أسواقاً رئيسية كانت معتمدة لامتصاص الفائض من المنتجات، ولا سيما الزراعية وبالأخص الفواكه. أما السوقان اللذان ما زالا متاحين فهما العراق ومصر. ويشهد السوق العراقي فائضاً من المنتجات الايرانية التي تدخل إلى البلاد دون رسوم تذكر، ما جعلها شبه متعذرة أمام الإنتاج اللبناني الذي يتوجب عليه أن يدفع لوصول الشاحنة المبردة إلى السوق العراقي ما لا يقل عن خمسة الآف دولار اميركي، يذهب أكثر من نصفها ضرائب وخوات على الحدود مع سوريا وداخلها، أما ما يتبقى فيتمثل بأجرة الشاحنة وثمن الوقود وأجر السائق وما شابه. ووصول السلعة اللبنانية بعد هذه الأكلاف المرتفعة، يعني أنها غير قادرة على المنافسة في سوق له صعوباته. مع ذلك يظل هذا السوق بمثابة النافذة المفتوحة على تصدير الفواكه اللبنانية لاسواق بغداد وكردستان العراق. لذلك يجوب ضمَّانون لبنانيون وعراقيون البساتين بحثاً عن المنتجات التي تلائم طلبات زبائنهم.

وتتشارك مصر مع العراق في انهيار سعر صرف العملة الوطنية، فالدينار والجنيه يخسران من قيمتهما على نحو يومي ما يقلص من قدرة المواطنين الواسعة على الاستهلاك. وهكذا ترافق انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية الذي كان من المتوقع الإفادة منه في زيادة كمية التصدير  مع انهيار مماثل في قيمة النقدين العراقي والمصري. وتمثل مصر سوقاً للإنتاج اللبناني الزراعي وأبرز صادراته هي التّفاح والدراق، وتستحوذ السوق المصرية على 60% من صادرات التفاح اللبناني بقيمة بلغت 67 مليون دولار في العام 2022. وقد فرضت السلطات المصرية مؤخراً حظر استيراد على 23 سلعة من بينها الفواكه والأطعمة لمدّة ثلاثة أشهر، وقبلها زادت رسوم تنمية تُراوح بين 10% و29% على لائحة كبيرة من السلع المستوردة ومنها التفاح والدراق. ومع اقتراب موسم تصدير التفاح والدراق سيؤدي القرار المصري إلى كارثة محققة. خصوصاً وأن موسم قطاف التفاح يبدأ أواخر الشهر المقبل، أي إن الأزمة ستنكشف في شهر أيلول عندما لا تتأمن طريقة أخرى لتصريف الإنتاج، فيُرمي المحصول، لأنّ تصديره إلى مكان آخر ليس أمراً يسيراً، نظراً إلى طبيعة الأسواق التجارية، وآلية التبادلات القائمة على الاتفاقيات وتعقيداتها. علماً أن الاتفاقات مع مصر تنص على تبادل المنتجات الزراعية بين البلدين. وهكذا تكتمل حلقة الحصار على الإنتاج الزراعي اللبناني من الفواكه من دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية إلى مصر.

وبالعودة إلى المحلي من المشكلة، كان من يضمنون المواسم الزراعية يجوبون البساتين مع مطلع شهر تموز عند ظهور كميات الإنتاج ونوعيته. ويضمن هؤلاء المواسم بطريقين. الاول منهما عبر معاينة الموسم ودفع سعر إجمالي تقديري للحصول عليه، أو شراءه بالكيلو. والملفت أن الضمَّانين هذا العام لم يبادروا إلى ما درجوا عليه من معاينة المحصول وطرح الاسعار، بالنظر إلى تخوفهم من جمود الاسواق وتعذر عمليات التصدير. أما أولئك الذين جازفوا فقد طرحو أسعاراً “محروقة” لما يعرض عليهم من ثمار وفواكه. فمثلاً طرح هؤلاء سعر35 سنتاً للكلغ من الكرز والخوخ (كانتا العام الماضي 70 سنتاً) و 20 سنتاً ثمنا للكلغ من الإجاص، ولم يقترب أحدهم من التفاح وعنب المائدة. ومثل هذه الأسعار لا علاقة لها بما يدفعه المواطنون ثمناً للكلغ في السوق المحلي، باعتبار أن الحلقات المتعددة لوصول الإنتاج إلى المستهلك تتكفل بمضاعفته مرتين أو ثلاثة على أقل تقدير، علماً أن ما يرسل للتصدير أعلى جودة مما يعرض في السوق المحلي. وبالقياس إلى كلفة الإنتاج يتبين أن ما يمكن أن يحصل عليه الفلاح ثمناً لمنتجاته لا يعادل كلفة الإنتاج من تقليم وفلاحة وري وأثمان مبيدات حشرية وأسمدة وأجور قطاف وصناديق وما شابه (متوسط كلفة الدونم الواحد حوالي 400 دولار اميركي، وفي حال كان الفلاح ليس مالكاً للارض يضاف إليها 100 دولار فيصبح الإجمالي 500 دولار) . ما يعني أنه أمام خسارة مؤكدة. خصوصاً اذا كانت كمية الإنتاج متدنية عن 3.5 طن للدونم الواحد. أما توريد المنتجات إلى الاسواق المحلية فهو بدوره مشكلة بالنظر إلى تدفق البضاعة إليها دون قدرة لديها على امتصاصها. خصوصاً مع موسم الحرارة المرتفع ونتائجه في تسريع نضوج المحاصيل. يضاف إليه الانهيار المعيشي للمواطنين الذين يمثلون الأكثرية الساحقة، الذين يعتمدون على تفضيل الحصول على الضروريات الحياتية ( خبز وحبوب وخضار وألبان وأجبان وسلع ومواد للطبخ)  بدلاً من هذه “الكماليات”. ففي العام الماضي مثلاً عمد بعض الفلاحين إلى توريد التفاح إلى طرابلس بعد أن رفض سوقا الخضار في بيروت وقب الياس استقبالها. لكنها لم تجد من يشتريها في عاصمة الشمال أيضاً، فقاموا بتوزيعها على المواطنين في باب التبانة وبعل محسن مجاناً  لقاء استرجاع صناديق البلاستيك التي وضعت فيها الفاكهة. ما يعني أن ألمزارع خسر أجرة القطاف والنقل فوق خسارته الاصلية. وعليه، فقد شهدت المواسم ترك العديد من أصحاب بساتين الأشجار المثمرة تساقط محصولها من على الاغصان لتعذر دفع أكلاف لا مجال لتغطيتها كالقطاف والنقل والصناديق. وكان بعض الفلاحين يعمدون في العادة إلى قطاف إنتاجهم ووضعه في البرادات ريثما تعبر مرحلة كثافة المُنتَج المعروض، وبالتالي تخزينه حتى تتحسن أسعاره قرابة نهاية الخريف وخلال فصل الشتاء. لكن هذا المنحى تبين أنه هو الآخر محفوف بالمخاطر، باعتبار أن لا أحد يضمن تحسن الاسعار من جهة، وبالتالي تأمين الاكلاف الإضافية بما فيه التبريد، الذي بات خارج قدرة الكثيرين بالنظر إلى ارتفاع أسعار المحروقات وأكلاف العَرْب والتوضيب وغيرها من جهة.ثانية.

ومع أن المشكلة تبدو موسمية، إلا أن مخاطرها الفعلية تتجاوز العام الحالي لتطال مصير عشرات ألوف الدونمات من هذه الأشجار، ما يطرح على مزارعيها سؤالاً حول الجدوى من بقائها وسط مخاطر سوق لا يقيم اعتباراً لما تستلزمه من أكلاف على صعيد تعطيل الارض لما لا يقل عن عشر سنوات كي تصبح الشجرة منتجة، مع ما يرافق ذلك من مدفوعات للحفاظ على ديمومتها وحمايتها مما تتعرض له من آفات حشرية وضربات طبيعية. لذلك يتجه البعض نحو اقتلاع بساتينهم وبيعها حطباً لمواقد الشتاء، واستبدالها بزراعات أضمن وأقل كلفة، وإن كانت في العادة أقل مردوداً من الفواكه بالتأكيد.

هذه المعاناة التي تتجدد سنوياً تؤكد الحاجة إلى عمل نقابي زراعي يتعامل مع الأزمات المفروضة، ويعمد إلى تنظيم أوضاع العاملين فيه ودعوتهم إلى ممارسة الضغط من أجل إرغام المسؤولين على التحرك من أجل العثور على ألاسواق، ودعم عمليات التصدير كما كانت تفعل “إيدال”، وتشجيع معامل ومحترفات عمل المربيات بما فيها البيتية، وصناعة العصائر، والعمل ما أمكن على تخفيض الاكلاف الضرورية كأثمان الادوية والمبيدات والأسمدة ودعم أسعار المحروقات للإنتاج الزراعي. خصوصاً وأن هناك عشرات ألوف العائلات التي تعتمد على ما تجنيه عند بيع ثمارها لتأمين الطعام والمدرسة والثياب والتدفئة و…. أما الحصول على الطبابة والإستشفاء فقد دخل لدى أكثرية الأسر اللبنانية في باب الاستحالة !.

Leave a Comment