سياسة صحف وآراء

خليفة بوتين… ماذا عن توقعات الغرب؟

سعيد طانيوس ـ موسكو

تبدو الدوائر البحثية الغربية، عطفاً على الأجهزة الاستخباراتية، في حالة انعقاد دائم تطلعاً للخليفة الآتي من بعيد، حيث الرهانات تتفاوت بين صديق للغرب أو عدو له.

من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما نقلته مجلة “نيوزويك” الأمريكية عن خبير بارز في الشؤون الروسية من أنه من المرجح أن يكون خليفة بوتين في حال خروجه من السلطة، مثله أو أشد خطورة منه.

المجلة الأمريكية الشهيرة أبرزت تصريحات المحلل السياسي الأمريكي كيير جايلز، في يوليو /تموز عام 2022، أي قبل عام تقريباً، والرجل معروف عنه عمق معرفته بأوضاع روسيا الداخلية، فهو مؤلف كتاب “قواعد روسيا”.

جايلز يشير إلى وجود كثير من المرشحين لخلافة بوتين بعد انتهاء عهده، لكن معظمهم سيجعلون علاقة روسيا بالغرب أسوأ مما كانت عليه خلال السنوات القليلة الماضية من حكم بوتين.

تنقل “نيوزويك” عن جايلز كذلك قوله إن روسيا تبتعد منذ مدة عن التقارب الذي انتهجته بعد الحرب الباردة وتعود إلى عدائها له.

يبدو سؤال الخليفة حقاً مقلقاً للغربيين، ففي أكتوبر /تشرين الأول الماضي كانت مجلة “بوليتيكو” الأمريكية بدورها تقطع بأن الفوضى والاضطرابات هي السيناريوهات المرجحة في روسيا، حال رحيل الرئيس بوتين عن السلطة، وبحسب مقال لـ”لي لي باير” فإن خروج الرئيس الروسي من السلطة سيجلب حالة خاصة من الفوضى.

تلفت الكاتبة الأمريكية إلى وجود إجماع على شيء واحد وهو أن عملية انتقال السلطة لن تكون نظيفة، مما يطرح معضلات لا تعد ولا تحصى يمكن أن توتر الحلفاء الغربيين، وأن التوتير يتعلق بتساؤلات مثل: إلى أي مدى يمكن أو يجب التأثير في عملية الخلافة؟ ماذا يجب أن يفعلوا إذا انفصلت جمهوريات روسيا؟.

قطعاً قبل نحو عام كان قليلون يتحدثون علناً عن عالم ما بعد بوتين، قلقين من تصور التدخل في السياسة الداخلية، لكن في السر يخطط محللون ودول غربية للسيناريوهات التي يمكن أن تتكشف عندما يرحل بوتين حتماً.

يتفق مع الرأي السابق ما تذهب إليه السفيرة البريطانية السابقة في موسكو، لوري بريستو، التي تقول “يجب أن ننحي من أذهاننا أي أوهام بأن ما سيحدث بعد ذلك على الفور هو الديمقراطية، المرحلة التالية هي الاضطرابات”.

من بين أهم الأصوات الأمريكية رفيعة المستوى، والتي تكلمت صراحة عن إشكالية خليفة بوتين، وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، والذي أكد حذر بلاده من خليفة بوتين.

غيتس قطع بأن أمريكا معنية بالمحافظة على وحدة روسيا وبوجود حكومة قوية في موسكو لتستمر في السيطرة على الترسانة النووية للبلاد.

غيتس وفي تصريحات لصحيفة “واشنطن بوست” في فبراير /شباط الماضي، صرح قائلاً “آخر شيء نريده هو وجود روسيا متفككة مع مصير غير واضح لكل هذه الأسلحة النووية. نحن في حاجة إلى دولة روسية موحدة، ونحتاج إلى حكومة قوية في موسكو للحفاظ على السيطرة على كل هذه الأسلحة”.

غيتس الذي بدأ عمله محللاً في الشؤون السوفياتية في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، يؤكد بدوره أن “خليفة الرئيس بوتين قد يكون متشدداً أكثر في مواقفه”. ويرى أنه “إذا ترك بوتين المسرح السياسي غداً، فأعتقد أنه سيحل محله صقر أكبر وليس شخصاً مهتماً بالتوصل إلى تسوية أو مفاوضات في أوكرانيا”.

أما آخر الأصوات العالية في هذا السياق فكان من نصيب إيلون ماسك، الفتى الغامض، أو رجل الأعمال المثيرة، والذي اعتبر بدوره أنه لا ينبغي التعويل على أن من سيخلف الرئيس بوتين سيكون أكثر ميلاً نحو الغرب.

يقول ماسك “أولئك الذين يريدون عزل بوتين ينطلقون من اعتقاد خاطئ أن من سيخلفه سيكون أكثر ميلاً إلى السلام أو الفلسفة الغربية، لكنني أعتقد أن هذا غير مرجح، فالكرملين ليس أولمبياد الرجال اللطفاء”.

هل الروس قلقون بدورهم من الخليفة؟

يبدو الروس بدورهم قلقين من تبعات غياب بوتين، حتى وإن كانت أصواتهم خافتة، ربما بسبب الأوضاع الشمولية الداخلية، والخوف من الاتهام بالمعارضة، والتعرض لمصائر مثل كافة المعارضين التي فبركت لهم تهما جنائية، وما نالوه من عسف وخذلان شديدين.

ليس سراً أن السنوات الأخيرة قد شهدت حالات من التوتر السياسي الداخلي في روسيا، وجرت حملات قمع للمواطنين الروس، بالتوازي مع العداء المتصاعد ضد العالم الخارجي.

على أن الأوضاع الصحية لبوتين ربما هي الشغل الشاغل للروس في الداخل وأكثر من أي قضية أخرى، وهو ما توقفت معه صحيفة “تايمز” البريطانية في مايو /أيار 2022، والتي ذكرت في تقرير لها أن الرئيس بوتين مصاب بسرطان الدم، وخضع لعملية جراحية في ظهره مرتبطة بهذا المرض قبل وقت قصير من إصداره الأمر بغزو أوكرانيا.

في الوقت عينه كانت مجلة “نيولاينز” الأمريكية تنقل عن أحد كبار الأثرياء الروس (الأوليغارشية)، المقرب من الكرملين قوله في تسجيل له مع أحد كبار المستثمرين الغربيين، إن بوتين “أصيب بالجنون”، وإن هناك استياءً عميقاً في موسكو في شأن حالة الاقتصاد، مضيفاً “نأمل جميعاً في وفاة بوتين”.

لكن حديث مرض بوتين، وإن كان يزعج المواطنين الروس، إلا أن النخبة الروسية تنكره، وتعتبره تنبؤات تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها، أي السعي إلى تحقيق شهوات قلب الغرب والناتو تحديداً، لا سيما أولئك الذين يتمنون أن يصحوا ذات يوم ليجدوا بوتين وقد تبخر من فوق سطح الكرة الأرضية.

من هذه النخبة وزير الخارجية سيرغي لافروف، والذي نفى بعد أيام من نشر التقرير التكهنات المتعلقة بمرض بوتين، قائلاً إنه لا توجد أي إشارات تدل على إصابته بأي مرض.

ورداً على سؤال بهذا الشأن من محطة “تي أف 1” الفرنسية، قال لافروف “لا أعتقد أن الأشخاص العقلاء يمكن أن يروا في هذا الشخص علامات مرض أو اعتلال”.

هل المرض وحده الذي يمكنه تغييب بوتين، أم أن مؤامرات داخلية يمكنها أن تقوده إلى المصير المحتوم؟

في مارس /آذار 2022 كشفت صحيفة “برافدا” الروسية عن أن مجموعة من الشخصيات الروسية المؤثرة يخططون لاغتيال الرئيس بوتين، بينهم رجال أعمال كبار وسياسيون نافذون، وفقاً لمديرية الاستخبارات بوزارة الدفاع الأوكرانية.

أما الهدف الذي تسعى وراءه هذه المجموعة، فيدور حول إزاحة بوتين من السلطة في أسرع وقت ممكن وإعادة العلاقات الاقتصادية مع الغرب التي دمرتها الحرب في أوكرانيا.

هل ينبغي علينا أن نصدق ما تدعيه كييف للروس وللعالم بالمطلق؟

ربما تكون محاولات أوكرانية لشق الصف الروسي مرة وإلى أجل بعيد، بمعنى أنها محاولات مزيفة لدس معلومات مكذوبة.

تبدو قضية خلافة بوتين متصاعدة في الداخل الروسي في كل الأحوال، وليس أدل على ذلك مما حفلت به حلقة من أحد العروض السياسية التي لا تعد ولا تحصى على التلفزيون الروسي الذي تديره الدولة، فقد أعلن السياسي الليبرالي بورس ناديجين، وهو من بلدة “دولغويرودني” بالقرب من موسكو وعضو سابق في مجلس الدوما، أنه من أجل استعادة العلاقات الروسية مع أوروبا سيكون من الضروري تغيير قيادة الكرملين خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة لعام 2024 وإنهاء الحرب الجارية في أوكرانيا.

هل في الأمر تعبير عن واقع حال كثير من داخل النخبة الروسية حتى وإن لم يكونوا من جماعة العسكريتاريا المحيطة ببوتين، وغالبهم من التكنوقراط الروس؟

قد يكون ذلك كذلك بالفعل، والدليل ما صرح به أوائل يونيو /حزيران الماضي كونستانين زاتولين، العضو الحالي في الدوما المعروف بآرائه المتشددة حول السياسة الخارجية، من أن “موسكو قد فشلت في تحقيق أهدافها في الحرب ضد أوكرانيا”.

هل الحراك الروسي لاختيار خليفة لبوتين حقيقي، وهل تسارعت عجلة الاختيار بعد حرب أوكرانيا، أم قبلها؟

في مايو /أيار 2019 أجرى مركز “ليفادا” السوسيولوجي الروسي دراسة على مجموعات مركزة مؤلفة من أشخاص يقطنون موسكو ومن مختلف الأعمار والمواقف تجاه بوتين.

المثير أن النتيجة جاءت لتشير إلى أن الغالبية مستعدة لرؤية بوتين حاصلاً على ولاية رئاسية جديدة.

يميل المؤيدون لبوتين إلى المبالغة في التداعيات السلبية لاستقالته على المستوى الدولي، وبرأيهم أن بوتين وخلال العقدين الماضيين اللذين أحكم فيهما قبضته على روسيا، اكتسب سلطة كبيرة في الشؤون الدولية بحيث يصبح أي رئيس جديد ضعيفاً بالمقارنة معه.

في الوقت عينه أظهرت نتيجة الدراسة أن قلة واضحة من مؤيديه تعتقد أن روسيا قد تنهار من دونه، لكن معظمهم يتفقون أن الأمور ستصبح “أسوأ” بعد بوتين لكن ليس إلى حد كارثي. وبالطبع إن المناهضين لبوتين لم يعبروا عن أسى إزاء احتمال رحيله.

هل يتوارى بوتين لأسباب صحية حقيقية؟

ربما يختلف الروس حول تقديراتهم لبوتين، وإنجازاته من جهة، وإشكالياته من جهة ثانية، وبين هذه وتلك يقف المؤيدون والمعارضون.

لكنه حكماً عند نقطة بعينها، سيجد الروس أنفسهم أمام اختيار إجباري، تلك النقطة الموصولة بالحالة الصحية للرئيس بوتين… ماذا عن ذلك؟

المتابع المحقق والمدقق لشؤون بوتين الصحية، يدرك أن هناك مجالاً بالفعل، لأن يكون هناك عارض صحي كبير وخطر يعتري بوتين.

في أواخر عام 2016 تحدث البروفيسور الروسي الشهير فاليري سولوفوي، الأستاذ في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الخارجية، عن السبب المؤكد الذي يجعل بوتين يرحل، وأجمل في غموض واضح قوله “الظروف الصحية”.

لم يذكر سولوفوي وقتها أية تفاصيل، لكنه أضاف “دعوني لا أقول شيئاً جديداً مثيراً، ما قلته يكفي”.

في ذلك الوقت كان بوتين يبلغ من العمر 64 سنة، وقد راجت كثير من الإشاعات حول مرضه بأحد أنواع أمراض الدم الخطرة.

وعلى رغم سبع سنوات قد انقضت منذ رواج تلك الرواية، فلا يزال بوتين قائماً في مكانه، لكن من غير قطع ما إذا كان بوتين قد تعرض لأزمة صحية خطرة وتم شفاؤه منها.

هنا ينبغي أن نشير إلى أن الروس هم ملوك السموم في العالم، وخبرتهم مع تصفية عملائهم السابقين في عموم أوروبا تشير إلى أن بوتين ربما تعرض بالفعل لمحاولة تصفية.

خلال العامين الماضيين طفت على سطح الأحداث في روسيا أنباء عن نوع جديد من مرض بوتين، لا سيما في ظل المائدة الطويلة والغريبة التي درج على أن يلتقي حولها ضيوفه الأجانب، وكما ظهر للعيان في لقائه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

مرة جديدة وبعد محاولة انقلاب بريغوجين، ظهر بوتين شاحب الوجه، ناظراً إلى الأرض، تائهاً بعض الشيء، وغير حاسم أو حازم كعهد الروس والعالم به، مما دعا إلى أن تطفو على السطح تساؤلات عميقة حول أوضاعه الصحية، والتي باتت تشغل الجميع.

يتساءل البعض: هل الأزمة الأوكرانية تركت تأثيرها الواضح في صحة بوتين؟ بمعنى هذا الإرهاق النفسي والعصبي، من جراء ما يراه البعض من انكشاف الوهم، حيث كان الكل في الداخل الروسي في الأقل يتصور أن بوتين سيقود روسيا إلى النصر السريع والمؤزر في بضعة أسابيع، فإذا به دخل مستنقعاً يواجه فيه حرباً مع الناتو بالوكالة، ولولا صواريخه النووية، ربما كان قد فقد مكانه ومكانته، في تاريخ الروس؟

تبدو كل الاحتمالات مفتوحة بالفعل، غير أن هناك تساؤلات مهمة بدورها، وفي المقدمة منها من تراه مرشحاً لأن يكون الخليفة، وبين هؤلاء المرشحين من يحوز على دعم بوتين كي يكمل مسيرته، وهل هذا الدعم يعزز من مكانة مرشح ما أم ينتقص منه لحساب آخرين؟

هل سيكون الخليفة من نخبة العسكريتاريا المحيطة ببوتين اليوم، أم من رجال الأوليغارشية والتكنوقراط القائمين في الكرملين بدرجات متفاوتة النفوذ؟

التساؤلات ممتدة حول علاقات المرشح الخليفة مع الغرب، وهل سيكون صديقاً للدوائر الغربية أم عدواً لها.

يتساءل المراقبون: لماذا نشر موقع المكتبة الرئاسية لبيل كلينتون قبل بضعة أعوام نصوص محادثات بوريس يلتسين مع بيل كلينتون في سبتمبر /أيلول من عام 1999 التي ناقشا فيها خليفة يلتسين في ذلك الوقت فلاديمير بوتين؟

هل في الأمر رسالة للروس مفادها أن أمريكا ليست بعيدة عما يجري في الداخل الروسي.

ثم هل مخاوف الغرب مما بعد بوتين حقيقية أم مغالى فيها وجلها بروباغندا إعلامية.

وكيف يجهز الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية بخاصة لروسيا ما بعد بوتين؟

منطقيا تبقى التساؤلات أهم وأوسع وأعمق من الإجابات.

Leave a Comment