اقتصاد

قراءة في موازنة الدولة في العام 2022.. تسريع نهب دولارات المودعين وتهديد استمرارية صندوق الضمان 2/2

عماد زهير

عطفاً على ما سبق يتضمن المشروع الإجازة للحكومة تحديد سعر تحويل للعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية لاستيفاء الضرائب والرسوم. ويقر” إمكانية إعطاء الموظف الخاضع لشرعة التقاعد في السلك الإداري طلب إنهاء خدماته والاستفادة من تعويض صرف إذا كانت خدماته الفعلية لا تقل عن 15 سنة”. كما حظر تمويل أي مشروع في القطاع العام عن طريق الموازنة العامة إلا بعد دراسة جدوى اقتصادية مفصلة.

صحيح أن الموازنة لا تتضمن ضرائب مباشرة لكنها تتضمن ما هو  أكثر فداحة على قدرة المواطنين المعيشية من خلال تفويض وزير المالية أن يحدد هو سعر تحويل العملات الأجنبية إلى الليرة لغايات فرض واستيفاء الضرائب والرسوم. ما يعني أن بإمكان الحكومة لاحقاً تحديد سعر صرف الدولار لاستيفاء الضرائب والرسوم ومنها الدولار الجمركي والـTVA وباقي الضرائب، التي يتم استيفاؤها حتى الآن وفق سعر صرف الدولار عند 1515 ليرة.

كما نصت عليه المادة 109 لجهة منح وزير المالية، مع الوزير المختص، لمدة سنتين، حق تعديل النسب والتنزيلات والشطور المتعلقة بالضرائب والرسوم. وليس ذلك فحسب، بل تعديل المواد المتعلق باستيفاء الرسوم بالليرة اللبنانية، والتمهيد لاستيفاء بعضها بالدولار. وهذا يعني رفعها بشكل غير مباشر أقله بالنسبة إلى المواطنين الذين يتقاضون في غالبيتهم الساحقة رواتبهم بالليرة اللبنانية.

كما أجاز المشروع نقل اعتمادات لمساعدة الأسر الأكثر حاجة الملحوظة في باب احتياطي الموازنة، والمقدرة بقيمة 150 مليار ليرة لبنانية (100 مليون دولار)، وكذلك مبلغ 200 مليار ليرة لبنانية (132 مليون دولار)  لمعالجة الأوضاع المستجدة بفعل فيروس كورونا، كما تضمنت نقل اعتمادات لتوزيع مساعدات ترميم الأبنية السكنية جراء انفجار مرفأ بيروت والمقدرة بقيمة 100 مليار ليرة لبنانية (66 مليون دولار). وتشير هذه الأرقام إلى محدودية الأموال المنوي صرفها على منظومة الأمان الاجتماعية رغم ما سبق من إغداق الوعود على هذه الفئات بالتخفيف من أعبائها المعيشية.

نهب الودائع بالدولار

يمكن الحكم على الموازنة من بابين هما الودائع لدى المصارف ومصيرها، والثاني قوامه النفقات الاجتماعية فيما الفقر تجاوز نسبة الـ 82 % التي تحدثت عنها الاسكوا . فعلى الصعيد الأول تتجه الموازنة نحو إباحة نهب أموال المودعين، اذ تقدم  المادة (132) تطمينات لأصحاب الودائع الجديدة بالعملة الأجنبية من خلال إلزام المصارف تسديدها بالطريقة عينها التي أودعت بها، وإعفاء الاخيرة من دفع الضرائب على فوائد الودائع الجديدة لمدة 5 سنوات في المادة (96)، ما يعني أنها تعمد إلى تشريع السطو على الودائع القديمة المكونة قبل 17 تشرين الأول 2019. وهو ما أكدت عليه المادة (133) التي نصت على «إعطاء الاجازة للحكومة تحديد سعر تحويل للعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية من أجل استيفاء الضرائب والرسوم»، وهو ما سينسحب أيضاً على الودائع المحتجزة بالدولار

وتنص أيضاً المادة 132، وهي مدخل  فصل النهب الجديد، على الآتي “تُلزم المصارف بتسديد الودائع الجديدة بالعملة الأجنبية التي يتم إيداعها نقداً لديها أو من تحويلات مصرفية خارجية اعتباراً من تاريخ نشر قانون الموازنة بالطريقة عينها التي أودعت لديها، بناء على طلب صاحب العلاقة”. وتحدد دقائق تطبيق هذه المادة بقرار من حاكم مصرف لبنان.

والواضح من خلال هذا النص أن التمييز قائم بين الأموال المودعة لدى المصارف نقداً والتحويلات الخارجية اعتباراً من نشر قانون الموازنة وتلك المحولة سابقاً، ما يعني أن الودائع والتحويلات التي جرت وستجري قبل إقرار القانون المذكور لن يتم سدادها بالعملة الأجنبية، وربما سيتم تحويلها إلى الليرة، وبصرف النظر عن السعر الفعلي للدولار كما يحدث حالياً . فبعد سنوات من تسعير الدولار على 3900 ليرة جرى رفعه قبل حوالي الشهر إلى الـ  8000 ليرة للدولار، ما يعني أن سعر صرف الدولار “القديم ” لن يتجاوز ثلث سعره الأصلي أو ربعه فعلياً بالمقارنة مع ما هو عليه في السوق الموازية لدى الصرافين.  ورفعت الموازنة  قيمة الضمانة على الودائع الجديدة إلى 50 ألف دولار، على أن تحدد دقائق هذه المادة بقرار من حاكم المصرف المركزي. كما تقترح المادة 118 تعديل قيمة ضمان الودائع المصرفية المشمولة بضمانة مؤسسة ضمان الودائع المصرفية ورفعها إلى 600 مليون ليرة.

ثغرة أخرى في المادة نفسها تكمن في تحديد آلية تسديد الودائع الجديدة أو التحويلات “بالطريقة عينها التي أودعت بها”. ما يعني أن التحويلات الواردة من الخارج لن يكون متاحاً أمام أصحابها سحبها نقداً بالعملة الأجنبية والتصرف بها داخل لبنان. بل يمكن سحبها بالعملة اللبنانية أو التصرف بها للتحويلات إلى الخارج فقط. في المقابل الأموال المودعة نقداً لن يعود بالإمكان تحويلها إلى الخارج، وسيكون متاحاً فقط التصرف بها محلياً. بمعنى آخر، التحويلات بالدولار تصرف كتحويلات، والودائع النقدية تُصرف نقداً بالدولار. ومن دون ذلك، سيتم بالعملة المحلية.

ولتجنب سحب المؤسسات أموالها المحولة بالدولار نقداً وسداد رواتب موظفيها، فرضت موازنة 2022 التوطين الإلزامي للرواتب. وتنص المادة 115 على الآتي “يُعتمد التوطين لدى المصارف بصورة إلزامية من أجل دفع رواتب المستخدمين وسائر التعويضات والبدلات مهما كانت تسميتها في المؤسسات والشركات كافة”. هذا الأمر من شأنه أن يمنع الموظفين في لبنان من الاستفادة من الدولار الوارد من الخارج عبر مؤسساتهم.

وتؤكد الخبيرة القانونية والرئيسة التنفيذية لمؤسسة  juriscale، سابين الكيك أن المادة 132 من الموازنة تجيز تعديل مفهوم الودائع. بمعنى أنها لا تمنع من أن تصبح الودائع الجديدة في موازنة العام 2023 هي الأموال التي أودعت بعد العام 2023. علماً أن مصرف لبنان في تعميمه يقول أن الودائع والحسابات الفريش في العام 2020 تُدفع من دون قيد أو شرط. بمعنى ان موازنة 2022 جاءت لتضيف على الأزمة هاتين السنتين. أي أنهم أضافوا على تاريخ الأزمة السنتين 2020 و2021 . وتسأل الكيك: ما المانع من إضافة العام 2022 لاحقاً إلى سنوات الأزمة؟ وتذكر الكيك بان مشروع الكابيتال كونترول الذي تم إسقاطه كان يشمل المضمون نفسه والقيود عينها. وتشدد على اصرار صندوق النقد أن يكون كل إصلاح مطلوب مدرجاً بقانون واضح مشرع بكل مفاعيله القانونية والدستورية والتشريعية، ولا يمرّر خلسة في الموازنات. لأن الموازنات العامة في كل دول العالم مدتها سنة واحدة، وليس من صلاحيتها التشريع.

وتعلّق الخبيرة الاقتصادية، علياء المبيّض، على الموازنة بالقول “إنها تقونن عملية تليير الودائع بشكل غير مباشر، وخلافاً لأحكام القانون، عبر خلق نوعين من الودائع، من خلال إلزام المصارف بتسديد الودائع الجديدة بالعملة الأجنبية التي يتم إيداعها نقداً، أو من خلال تحويلات مصرفية خارجية بالطريقة عينها التي أودعت لديها من تاريخ نشر هذا القانون. وتعطي لحاكم مصرف لبنان سلطة تحديد التفاصيل”. وحسب المبيض، فإن هذه الصيغة تسمح للموازنة بقوننة تحميل الخسائر لأصحاب الودائع ما قبل هذا التاريخ، ضاربة عرض الحائط مبدأ المساواة أمام القانون. وتقول: لا شك أن تليير جزء من الودائع سيكون جزءاً من الحل في المستقبل، فلا مهرب من ذلك، نظراً للكمّ الهائل من الخسائر المتراكمة داخل النظام المصرفي والنقدي. ولكن لا يجوز اتخاذ هكذا قرار خارج إطار متكامل ومتعدد الأبعاد لتأمين توزيع عادل للخسائر يقبل به اللبنانيون واللبنانيات، ويؤسس لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، واستعادة الثقة فيه مستقبلاً. كما ويؤسس لنموذج اقتصادي مستدام وسليم.

وتخلو الموازنة من أي نفقات اجتماعية وصحية، وتقلّص من  اعتمادات الجامعة اللبنانية ووزارة الصحة. كما تشمل الموازنة تسويات ضريبية وتسوية الغرامات المفروضة بموجب قوانين الضرائب، وحسومات ضريبية للمؤسسات منها الصناعية والسياحية، ولم تستثن كبار المكلّفين. وتضمنت حسماً للضرائب على الأرباح للشركات الناشئة وغيرها. كما تفرض المادة 40 الإخضاع لأحكام قانون ضريبة الدخل بمعدل 10 في المئة على فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدائنة كافة، المفتوحة لدى المصارف، بما فيها حسابات التوفير وحسابات الائتمان والسندات وغيرها.

وفي الوقت الذي تنتظر فيه مئات آلاف العائلات اللبنانية المساعدة الاجتماعية الموعودة (البطاقة التمويلية بقيمة 559 مليون دولار لنحو 500 ألف عائلة ) نصت المادة 15 من مشروع الموازنة على توزيع مساعدات اجتماعية بقيمة 150 مليار ليرة، أي ما يعادل 6.5 ملايين دولار بحسب سعر صرف منصة صيرفة. وهو رقم أعجز من أن يساعد على تأمين أبسط متطلبات الحياة لأكثر من 80 في المئة من الأسر التي ترزح تحت خط الفقر.

تهديد مصير ومستقبل صندوق الضمان

على خط مواز وبدلاً من تحصين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يفيد من خدماته حوالي ثلث الشعب اللبناني، نصت المادة (124) على تقسيط الديون والفوائد كافة المتوجبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على الدولة لغاية نهاية 2021 على أقسام متساوية لمدة 10 سنوات، على ان يبدأ التقسيط قبل نهاية شهر أيلول من العام الحالي. واذا اعتبرنا أن الديون المتراكمة على الدولة هي بحدود 5000 مليار فان كل سنة سينال الضمان منها 500 مليار ليرة. هذا الرقم الذي لا يساوي اليوم أكثر من 22 مليون دولار، وقد لا يعود يساوي 10 ملايين دولار عند الدفعة رقم 10.

لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، ففي خلال جلسات مناقشة الحكومة لهذه المادة برزت توجهات لدى العديد من الوزراء ترفض الالتزام بالتقسيط، ما يعني أن أموال ومصير الضمان بات في مهب الريح في حال تقرر حذف هذه المادة . وفي كل الحالات، وعوضًا عن وضع خطّة عاجلة لسداد هذه الالتزامات من قبل الدولة لمصلحة الضمان، لإنقاذ الصندوق من الإفلاس المحتم، ذهب مشروع قانون الموازنة  إلى تكريس وقوننة حالة التعثّر التي يعاني منها الصندوق، نتيجة عدم سداد الدولة لالتزاماتها له. وتجدر الإشارة إلى أنّ الدولة سبق وقامت بجدولة التزاماتها لمصلحة الصندوق مرّتين على هذا النحو بالتحديد، حين تم استعمال هذه الجدولة لتأجيل التعامل مع أزمة هذه الالتزامات، من دون أن تلتزم الدولة بالدفعات المتفق عليها. ومن المعروف أن الصندوق يستدين ما يعجز عنه في تغطية أكلاف صندوق المرض والأمومة المتوجبة عليه من صندوق نهاية الخدمة، وهو ما يعني تهديد حقوق المستفيدين منه في تعويضات نهاية عملهم.

باختصار، سيكون الضمان الاجتماعي على موعد مع بند من داخل الموازنة، يشرّع تملّص الدولة من سداد مستحقاتها كما جرت العادة في السنوات السابقة بدليل تراكم الديون على الدولة ووصولها إلى 5000 مليار ليرة ، وهو ما يفتح الباب أمام تأجيل المؤجل خلال الفترة المقبلة، من دون أن يضمن الصندوق التزام الدولة بسداد الدفعات السنويّة خلال السنوات العشر الموعودة. وعليه ، يمكن القول إنه بمجرّد إقرار الموازنة كقانون في مجلس النوّاب، سيتبرأ المسؤولون من جريمة افلاس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ونهب ما تبقى من موجوداته وتشريع البلاد وصحة وتعويضات العباد إلى شركات التأمين الخاصة ، استناداً إلى نص تشريعي يسمح لها بعدم دفع المستحقات في الوقت الراهن.

وخلال فترة السداد القانونيّة هذه المحددة بعشر سنوات، ستتلاحق عملية المضي في مشاريع استعمال أصول الدولة ومصرف لبنان لسداد فجوة خسائر القطاع المصرفي، عبر مشاريع الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص، كما تنص الخطة الماليّة الجديدة، من دون أن تكون الحكومة عرضة للمساءلة عن سبب المضي قدماً في الإنفاق من المال العام لإنقاذ المصارف، مقابل عدم التعامل مع إلتزاماتها المتوجبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. مع العلم أن ترحيل التزامات الدولة للصندوق لمدّة 10 سنوات، كما تنص الموازنة ستعني تعريض هذه المستحقات لمخاطر أي تدهور إضافي في سعر صرف الليرة اللبنانيّة.

وتبدو خطورة هذا المنحى مضاعفة في ضوء ما يعانيه المستفيدون من تعاونية الموظفين وبقية الصناديق الضامنة الذين يضطرون للاستشفاء راهناً بما هو أكثر من 85 % من حسابهم الخاص، بعد أن رفعت المستشفيات الخاصة والحكومية من أسعار خدماتها الطبية للمرضى ممن كانوا يدفعون ما مقداره 15 %  فقط. والأمر أكثر انطباقاً على أسعار بدلات الخدمات الطبية. فمعظم الأدوية تضاعفت أسعارها عشرات المرات، كما أن المفقود من أدوية مدعومة يضطر المرضى للحصول عليه من الخارج بأسعار باهظة. ويدخل في هذه الأكلاف ألمستلزمات الطبية وأجور الأطباء وما شابه من خدمات. علماً أن نزيف الأطباء والممرضين جرى نتيجة تأخير دفع حقوقهم وتلاعب مزدوج من الوزارة من جهة وأصحاب المستشفيات من جهة ثانية . وهو ما يقود ومن خلال الموازنة إلى وضع المضمونين والمستفيدين أمام خسارة ما تبقى من حقوق لهم ولو بنسبة متواضعة من صندوق الضمان وغيره، إن لم يكن خسارة الضمان كمؤسسة اجتماعية يفيد منها العمال والموظفون والأجراء.

كما تضمن مشروع الموازنة تأجيلاً للبدء بتطبيق قوانين البرامج الممتدة على سنوات متعددة وفي مجالات مختلفة، ومن ضمنها قانون برنامج لإنشاء نظام اتصالات معلوماتية بين المدارس الرسمية والإدارة المركزية لوزارة التربية والتعليم العالي. وكذلك قانون لإنشاء وتجهيز أبنية مدرسية.

أما الطامة الكبرى التي تتضمنها موازنة 2022، فتتمثل بالمادة 78 التي تفرض رسماً مقطوعاً بقيمة 3 في المئة على السلع المستوردة الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة، باستثناء البنزين والمعدات الصناعية والمواد الأولية للصناعات الزراعية. وكذلك المادة 81 التي سيُفرض بموجبها رسم جمركي على السلع والبضائع التي يتم استيرادها، ويصنع لها مثيل في لبنان، 10 في المئة. وهذا يعني أن الغالبية الساحقة من المستوردات الغذائية ستخضع للرسم الجمركي الجديد والرسم المقطوع.

باختصار شديد ودون المزيد من الإطالة يمكن القول إن موازنة العام 2022 بما تضمه من الضرائب والرسوم ستنعكس بالضرورة مزيداً من تدمير قدرات المواطنين الشرائية من خلال ما نفرضه من الأعباء والاكلاف المعيشية التي ستضاعف من مشقات حياتهم اليومية ، علماً أن الملايين باتوا عاجزين عن الوصول إلى هذا الحد الأدنى ويباتون مع أطفالهم خاوي البطون يعانون الصقيع. والأدهى أنها ستطيح ما تبقى من ودائع الناس، وفي طريقها ستقود إلى إلغاء الضمان الاجتماعي ما يضاعف من حياة الجحيم على أكثرية  الشعب اللبناني من المستفبدين من خدماته وخدمات الصناديق الضامنة.

Leave a Comment