د. بول طبر
من الواضح أن الطائفية في لبنان لا تزال شائعة كنظام وعلاقات سياسية وإجتماعية وإقتصادية، وحتى ثقافية. وهي تحظى بشرعية وتأييد بين أوساط واسعة من المجتمع اللبناني (هذا ما أكدته بالملموس الإنتخابات النيابية عام 2022). والسؤال الذي يطرحه هذا المقال يركز أساساً على تبيان الحجج والمسلمات التي تجعل من الطائفية في لبنان ظاهرة مقبولة و”شرعية”. وللإجابة على هذا السؤال هناك مداخل عديدة، كالمدخل التاريخي والسياسي وما إلى ذلك من مقاربات أخرى. إلا أن ما أودّ تحليله في هذه الأسطر هو المسوِّغات والفرضيات التي يستخدمها الخطاب الطائفي، ليس بدافع إشهار تهافته بعد إخضاعها للمعايير العقلانية ومباديء حقوق الإنسان، وإنما بهدف إظهار الآليات المنطقية التي يعتمدها الخطاب الطائفي، بما يجعله مقبولاً ومسلماً به في نظر المدافعين عنه (الأمر الذي يجعل الطائفية عنفاً رمزياً).
وقبل القيام بذلك، أسارع للقول إن معالجة هذا الموضوع تنبع من اعتبار أن الطائفية هي ظاهرة إجتماعية وتاريخية تتمثل في مجموعة قيم وسلوك وجماعات ومؤسسات، لها أسباب أدَّت إلى تكوينها وإعادة إنتاجها وتحولها المستمر لغاية الآن. ومن أهم الأسباب التي تفسر وجود هذه الظاهرة هو اكتسابها صفة “الرأسمال” الإجتماعي-السياسي، والتي تمنح المنتسب إليها المكانة والنفوذ لدرجة امتلاك “التفويض السياسي”، الذي يخوله ليكون نائباً أو وزيراً وما إلى ذلك من مناصب في الدولة القائمة. بالطبع، لا تتوزع الطائفية بصفتها رأسمالاً، كما باقي رؤوس الأموال، بالتساوي على الأفراد الذين ينتسبون إليها، ومن هنا تكون العلاقات فيما بين أبناء الطائفة الواحدة تراتبية، فيها مستويات من السيطرة والخضوع. أضف ضرورة لفت الإنتباه أيضاً إلى وجود نزاع دائم بين مالكي رأسمال الطائفية على تحديد مكانة كل منها تجاه مكانة رأسمال الطائفة الأخرى، ومكانة كل رأسمال طائفي تجاه الرساميل الأخرى، كالرأسمال الإقتصادي والثقافي والرساميل الإجتماعية غير السياسية (مثلاً، الرأسمال العشائري والعائلي والمناطقي في لبنان). ولا يجوز تجاهل قدرة كل رأسمال على أن يتحول إلى رأسمال آخر (مثلاً، إكتساب رأسمال سياسي واجتماعي بحكم امتلاكهما لرأسمال اقتصادي كبير، أو العكس)، والصراع المستمر بين مالكي مختلف الرساميل حول “سعر الصرف” الذي يتحكم بعملية التحويل القائمة بينهم.
ومع هذا النوع من فهم الظاهرة الطائفية، نكون قد أسقطنا من تحليلنا اعتبار الطائفية ظاهرة “أوَّلانيَّة” (بِريمورْديلْ)، أي أن الفرد يكتسبها بالولادة، أو أنها مجرد وعي زائف وجهل، وما إلى ذلك من نعوت “ذاتية” وأخلاقية، يمكن معالجتها بالتوعية والتربية (على أهميتهما) لا غير. وكما ذكرنا أعلاه، فإن الطائفية ظاهرة تاريخية واجتماعية لها منطقها الخاص وفعاليتها في بنْيَة المجتمع اللبناني وتأطير ممارسة الأفراد وتفاعلهم في المجتمع الذي يعيشون فيه. وبحكم استثمار الأفراد والجماعات في الطائفية كرأسمال، وكل ما يستدرجه ذلك من مراهنات ومنافع تضفي “معنى” وهدف في حياة المنتسبين إليها، فإن تناول “الخطاب الطائفي” في التحليل بما هو خطاب رمزي، لا يساهم فقط في كشف الطابع العنفي لهذا الخطاب، أي الطابع الذي يتم بموجبه بناء استراتيجيات السيطرة على الأفراد ويمنع دخولهم إلى فضاء المواطنة والإنسانية الرحبة، بل أنه يؤشر إلى المنطق والمسلمات التي “تشرْعن” الإنتساب إلى الطائفية وكيفية اشتغالها.
في حقيقة الأمر، جرتْ عملية تطْييف سياسي للمجتمع في لبنان على مراحل منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر، إلى أن أصبح لبنان يعرَّف ببلد الطوائف (شيحا)، ويصعب تعريفه بغير هذه الصفة الطائفية لدى أبناء كل طائفة. ومع هذا التعريف المسلم به والراسخ في وعي الناس السائد وعلى مستوى ما دون وعيهم أيضاً (أي في أنه أصبح مكوناً من مكونات “هابيتوس” الأفراد والجماعات)، أصبح الهاجس السياسي لدى الطوائف والناطقين باسمها هو العمل من أجل بناء “وطن” يؤمِّن في الدرجة الأولى مصالح الطائفة في وجه الطوائف الأخرى، والقبول بمشاركة “الآخرين”، شرط أن لا تنتقص هذه المشاركة من نفوذ واستقلالية كل طرف من الأطراف الطائفية المكوِّنة ل”المجتمع اللبناني”. ومع الإقرار بعدم إمكانية توفير “المساواة” في ظل سلطة تراتبية (أي مراكز ونفوذ متباينة بحسب الموقع السياسي والصلاحيات الملتصقة بكل موقع)، يمسي الهدف المنشود لدى ممثلي الطوائف هو امتلاك الموقع الأفضل والنفوذ الأكبر في وجه الطرف الطائفي المنافس (كما هي الحال الآن بين “ممثلي” الطائفة المارونية والشيعية والسنية)، وإلّا يتحول لبنان إلى بلد غير آمن للطرف المستبْعد وصاحب الدرجة الأدنى من النفوذ. وبين المطالبة بالاحتفاظ بـ “حصة الأسد” والصراع للحصول على موقع نفوذ أفضل لدى الطوائف الأضعف، تتم دائماً الدعوة للإعتصاب الطائفي طريقاً حتمياً لحصول كل طرف من الأطراف على مطلبه، وإلّا يكون مصير الطائفة التي تتراخى عصبيتها وتتلاشى الخضوع للأقوى والتشرذم والمهانة. من هنا، فإن النتيجة الحتمية للذي يسلم بأن لبنان هو بالتعريف “بلد طوائف” تكون إنتاج عصبيات طائفية متناحرة ومتنافسة دائماً وأبداً، وخوض حروب أهلية باردة حيناً وساخنة أحياناً.
وحين تفشل، كما هو متوقع، القوى السياسية الطائفية والراعية لِهذا النظام، إن لم نقلْ المندمجة مع، نظام رأسمالي ريعي ونيو- ليبرالي، في تأمين العيش الكريم والخدمات العامة والحد الأدنى من الحرية والإستقرار السياسي، وتطبيق القانون في ظل سلطة قضائية مستقلة، يقوم كل طرف طائفي بإلقاء اللوم على الطرف الآخر، وبذلك تكون النتيجة ليس فقط شدّ العصب الطائفي في وجه الآخر “المانع” أو”الفاسد” والقاصر في حق تأدية واجباته في السلطة والحكم (مقولة “ما خلّونا” التي شاعت في لبنان في الآونة الأخيرة)، وإنما الأخطر عدم المساس بأسس النظام الطائفي ككل وشرعيته في نظر جميع القوى الطائفية. إذْ أن الخطأ واللوم هو دائماً في إداء الطرف المنافس، وليس في طبيعة النظام الطائفي (والرأسمالي المتفلت).
في إطار هذه اللعبة الطائفية التي تؤدي إلى شدّ العصب الطائفي وعدم الشك في شرعية النظام الطائفي وطرحه على محك التساؤل، يرتسم العالم الذي ينتمي إليه أبناء الطوائف (أنطولوجيا الطوائف)، إنه العالم الذي يرسم لهم أدوارهم ومطالبهم وأمنياتهم وهوياتهم ومراهاناتهم على المستوى السياسي والإجتماعي. بكلام مخْتصر ومكثَّف، إنه الإطار الذي يمنح المعنى والمغزى لوجودهم الإجتماعي والسياسي.
أقول هذا الكلام مع التأكيد على أن أسس تكوين ما أسميته بـ “أنطولوجيا الطوائف” هو تحوّل الطائفية إلى رأسمال إجتماعي وإجتماعي – سياسي. فمن دون هذا التحوُّل لا مجال لبقاء الظاهرة الطائفية منتشرة وسائدة في المجتمع والسياسة في لبنان. وينبغي أن نضيف أن قدرة “الرأسمال” الطائفي على أن يُسْتبدل بـ”رأسمال” إقتصادي (لاحظ كم من ممثلي الطوائف السياسيين قد أثروا بعدما أصبحوا أصحاب مراكز في الدولة)، وقدرته على وضع بعض الضوابط على حركة هذا الرأسمال (توزيع المنافع الإقتصادية أو منعها على أسس طائفية وحسب موازين القوى فيما بينه وبين باقي القوى الطائفية)، يشكل شريان إضافي تتغذى منه الطائفية في لبنان كنظام وعلاقات وممارسة يومية.
Leave a Comment