عمر كوش*
يحمل فوز لولا دا سيلفا في انتخابات الرئاسة في البرازيل أكثر من معنى ودلالة، إذ تشكّل عودته إلى الرئاسة مجدّداً سابقة في تاريخ هذا البلد، وذلك بعد أن اُتّهم بالفساد، وسجن 580 يوماً في (2018-2019)، ثم أخلي سبيله بعد إثبات براءته، وقبلها حكم البرازيل منذ نهاية عام 2002 وحتى مطلع العام 2011، بوصفه أول رئيس يساري يحكمها منذ نشأتها في عام 1889، وأضحت قوة عالمية خلال فترة حكمه، وحظي بشعبية واسعة، إضافة إلى إشادات دولية، حيث منحه منتدى دافوس في 2010 لقب “رجل الدولة العالمي”.
إذاً، تمكّن لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بعد عودته إلى الحياة السياسية، من الوصول مجدّداً إلى كرسي الرئاسة، وهزم الرئيس اليميني الشعبوي، جايير بولسونارو، مسطّراً بذلك حدثاً بارزاً في الحياة السياسية في البرازيل، وفي التحوّلات السياسية التي تشهدها دول أميركا اللاتينية والعالم، إلى جانب أنه قدّم دليلاً على قدرته في استرجاع شعبيته وجاذبيته. وسبق وأن وصفه الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بأنه “الشخص الأكثر شعبية في العالم”. ولكن معاني فوزه تمتدّ إلى أبعد من ذلك، خصوصا أن البرازيل، ومعها معظم دول أميركا اللاتينية، تعاني مشكلات كثيرة، تجسّدها الأزمات الاقتصادية، واتساع الهوّة بين الطبقات الاجتماعية، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وعوامل سياسية واجتماعية أخرى، أسهمت في تنامي صعود قوى اليسار فيها خلال السنوات الماضية.
والأهم أن فوز لولا دا سيلفا يعكس إخفاق بولسونارو وفشله في التعامل مع الأزمات الاقتصادية ومع أزمة فيروس كورونا التي عصفت بالبلاد، وأودت بحياة حوالي 700 ألف إنسان، نتيجة لامبالاته وتقاعسه في مكافحة الجائحة، وتستّره على المتلاعبين بشراء اللقاحات بغرض تحقيق الأرباح، إضافة إلى غطرسته وصلفه، وسياساته التي أفضت إلى استشراء الفساد، حيث احتلت البرازيل في عهده المرتبة 96 بين 180 دولة في مؤشّر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، وإلى انتشار جرائم السرقة والمخدّرات والقتل التي بلغت في البرازيل معدّلاتها الأعلى بين دول أميركا اللاتينية، وأفضت كذلك إلى تدمير جزء كبير من الغابات المطيرة في حوض نهر الأمازون، نتيجة الحرائق المفتعلة التي أضرمها أصحابه وحلفاؤه الأغنياء، أصحاب شركات التعدين، والذين يريدون توسيع أراضيهم الزراعية، لذلك لجأ إلى إنكار تحذيرات أنصار البيئة من الكارثة المناخية التي باتت تهدّد العالم، نتيجة ارتفاع كميات غاز ثاني أوكسيد الكربون التي كانت تمتصها تلك الغابات.
وتمكّن دا سيلفا من توظيف رصيده في الإنجازات التي حققها خلال فترتي رئاسته السابقتين، حيث استطاعت البرازيل، بفضل سياساته الاقتصادية والاجتماعية، الوصول إلى مرحلة ازدهار اقتصادي، والارتقاء باقتصادها إلى المرتبة السابعة في العالم، وكان لذلك أثره الواضح في تحسّن الأوضاع المعيشية لملايين المواطنين، فيما كانت البرازيل قبل وصوله إلى الرئاسة في نهاية 2002 بلداً منهاراً اقتصادياً، ويعاني من مفاعيل أزمة مالية واقتصادية، جعلته مديناً للخارج بحوالي 175 مليار دولار، لكنه تمكّن خلال رئاسته من الدفع بالاقتصاد البرازيلي نحو زيادة الإنتاجية في مختلف القطاعات، وكبح التضخّم والتقليل من نسب الفقر، وتحقيق نسب نمو مرتفعة، الأمر الذي مكّن البرازيل من تسديد ديونها. وترافق ذلك مع حضور قوي لها على المستوى الدولي، يتوافق مع إمكانات وقدرات دولة تعداد سكانها 214 مليون نسمة، ومساحتها 8.5 ملايين كيلومتر مربع، وتمتلك ثروات كبيرة.
في المقابل، يمثل فوز دا سيلفا رفضاً شعبياً لسياسات اليمين الشعبوي وممارساته في البرازيل والقارة الأميركية بشكل عام، وخصوصا بعد هزيمة دونالد ترامب، في الولايات المتحدة، والذي تعاطف معه بولسونارو بشدة في مناسبات مختلفة، وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والبيئية. وفي المقابل، لم يتوانَ ترامب عن دعم بولسونارو، ودعا علانية إلى إعادة انتخابه، ووصفه بأنه “أحد أعظم الرؤساء في العالم”، لذلك يتخوّف محللون ومراقبون من أن بولسونارو قد يواصل حالة الإنكار، ويرفض الإقرار بالخسارة، خصوصا وأنه كان يشكّك في نظام الاقتراع الإلكتروني، ولمّح، في أكثر من مناسبة، إلى عدم قبوله بالهزيمة، ومهد لذلك عشية الجولة الثانية من الانتخابات باشتراط اعترافه بنتائجها في حال “عدم حدوث أي شيء غير طبيعي” في أثناء التصويت، وبالتالي، قد لا يتورّع عن رفض الاعتراف بهزيمته مثلما فعل ترامب من قبله، لذلك هناك تخوّف من أن يدفع الملايين من أنصاره، الذين أشرف على تسليحهم حتى باتوا أقوى من أجهزة الأمن، الى الشوارع والساحات، وإلى احتلال بعض المقارّ الرسمية، مثلما فعل أنصار ترامب في هجومهم على مبنى الكابتول الأميركي في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، لكن ما يطمئن أنصار الديمقراطية في البرازيل أن غالبية المواطنين لا يريدون العودة إلى تكرار تجربة الديكتاتورية العسكرية، وأن الجيش والمؤسسات والقضاء رفضت الانصياع لرغبات بولسونارو، ولذلك كانت عرضةً لتهجّمه عليها.
يمكن القول إن الطريق لن تكون ممهدة لرئاسة دا سيلفا الجديدة، فقد تغيّر العالم وتغيرت معه البرازيل التي تعاني من الإرهاصات الاقتصادية للحرب الروسية على أوكرانيا ومن تداعيات جائحة كورونا، إضافة إلى التضخّم الذي وصل إلى أكثر من 10% وارتفاع أسعار الوقود، وبالتالي، ستواجه دا سيلفا صعوباتٍ كثيرة، تجسّدها التغيرات الكبيرة السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية، في ظل برلمانٍ بات أكثر يمينيةً بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحظي الحزب الليبرالي بزعامة بولسونارو بتمثيلٍ قويٍّ فيه. إضافة إلى أن حزب العمّال الذي يتزعمه دا سيلفا يضم ائتلافاً من عشرة أحزاب من اليسار والوسط.
.. يصبّ فوز دا سيلفا في صالح تقوية الديمقراطية في البرازيل، التي ما تزال فتيةً وهشّة، ولعله يحمل أكثر من معنى، خصوصا أن فوزه جاء بعد أن أُجبر على الخروج من الوسط السياسي، وأكد على قدومه بقوة إلى رئاسة البلد، كي يسهم في انتشال الملايين من دوّامة الفقر المدقع، أولئك الذين يعوّلون عليه في الخلاص من أوضاعهم المأساوية.
*نشرت في العربي الجديد في 3 تشرين الثاني / نوفمبر 2022
Leave a Comment