مجتمع

فيروس كورونا لا يُهزم بقرار سياسي أو فئوي

كتب د. ابراهيم فرج

تحت رعاية لجنة علميّة – تقنيّة على المستوى الوطني تُؤخذ القرارات، وتَصدر التّعاميم للتنفيذ في مواجهة الوباء على جبهة “خارج المستشفى”، بهدف تخفيف الضغط عن “داخل المستشفى”، طاقماً طبيّاً وتمريضيّاً وقطاعاً إستشفائياً بشكلٍ عام… لجنة تضم عادةً وزير الداخلية (تنفيذي)، وزير الصحة (تحديث الإمكانيات)، و مرجعية علمية رفيعة مشهود لها باختصاصها في العلم الوبائي (لتحليل المعطيات ودراسة الوضع)، ورئيس الوزراء كمرجعية وطنية سياسية عامة…

كل القرارات التي اتخذتها الصين وإيطاليا، كون الوباء طالهما باكراً، غدت خريطة طريق أساسية لبلدانٍ إجتاحها الوباء، فيما بعد، فَنسختها، مع بعض التعديلات الطفيفة التي تُناسِب واقعها، وعملت على تنفيذها وأبرزها:

١- الحد من حركة الأفراد وتقييد النشاطات التجارية والصناعية، باستثناء انتاج وتصنيع المواد الغذائية الأولية والضرورية والخدمات الأساسية للمواطنين…

٢-إلغاء كل الأنشطة الرياضية والثقافية، وكذلك إغلاق المدارس والجامعات والمعاهد واستبدال التحصيل العلمي المباشر بِالتعليم عن بُعد أو “الاونلاين”….

على المستوى الإقتصادي: من الطبيعي، نتيجة مثل هذه الإجراءات، أن تسجل حال من التدنيّ في مجال التجارة للحاجات غير الأساسية، وحركة المطارات والنقل العام، المطاعم، الملاهي والإستراحات، ما يستتبع تدنياً في ميزان التبادل التجاري بين دول العالم، وبالتالي انخفاضاً في نسبة التبادل ودفع الفواتير، والتي بدورها تُنتج قلّة في حركة السيولة التي تتجمع في البيوت والبنوك، ما يهدد فعلا مؤسسات  العمل ورواتب العمال والموظفين، وبالتالي نفقات العائلات…. تتحدث منظمة العمل الدولية عن هبوط لامسَ ٦،٧ ٪ من ساعات العمل في العالم، أي ما يوازي ١٩٥ مليون فرصة عمل ضاعت وفُقدت إذا ما اعتبرنا أنّ ساعات العمل المعتمدة اسبوعياً هي ٤٨ساعة….  لقد ساهم الوباء بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي (PIL) على مستوى العالم وقد وصل إلى ٤٪ في ألمانيا و١١٪ في إيطاليا، مع فقدانها لِـ ٥١٥ ألف فرصة عمل عام ٢٠٢٠..

المؤسسات والجمعيات الإنسانية ومنها “كاريتاس”أكدت على زيادة فاقت الـ٤٠٪  في عداد طالبي المساعدات الإجتماعية والصحية العاجلة…هذه النسبة كانت تنتمي إلى طبقة ميسورة وقد إنهارت دخولها بفعل الوباء وتمّ تسجيلها للمرة الأولى…الدولة تدخلت هنا بأشكال متعددة، ومنها ما يسمى بـ “معاش الطوارئ”، (٦٠٪ من المعاش الأصلي)، للعائلات الفقيرة ذات الأعداد المتوسطة والكثير… وثقيل هو تأثير الجائحة في ميزان البطالة والذي طال النساء كونهن يعملن في القطاعات الأكثر تضرراً (التعليم، السياحة، التجارة الخفيفة، المكاتب، خدمة العائلات…)

 على المستوى التربوي عمّقت الجائحة من أزمة العائلات الفقيرة التي لا تملك تياراً كهربائياً منتظماً( اشتراك في مولد أيضاً في حالة لبنان) وجهاز كومبيوتر أو هواتف ذكية وتفتقر الى تقنيات “الأونلاين” مما أفّقد أبناءها إمكانية مواكبة التعلم عن بُعد ومتابعة تنمية قدراتها الثقافية، وبالتالي أفقدها القدرة على الحصول على تكافوء في فرص التعليم متقاربة مع الطبقات والفئات الميسورة كمقدمة للحصول على فرص عمل متساوية.

وعليه، ليس من المبالغة القول إن الخسائر الناجمة عن الجائحة قد تتجاوز خسائر حرب عالميّة أو كوّنيّة ثالثة، وهي خسائر عصيّة على التدقيق لأنها مرتبطة بسلوك “الخارج” إضافة إلى عوامل الداخل….

سياسيّاً ، ليس بسيطاً أن يُقرّ أكثر دعاة النيوليبراليّة تشدداً، أن هذه الجائحة أعادت الإعتبار مجدداً لأهميّة وجود دولة ولزمن طويل مقبل. الدولة ومؤسساتها الفاعلة اتخذت سريعاً إجراءات للحد من الخسائر الوطنية التي تمثلت بـ:

1ـ دعم غير مشروط للجهاز والمؤسسات والنظام الصحي برمته (هنا يتحدد مصير المعركة ضد الفيروس)، كل المصانع تمْ تغييْر وجهة إنتاجها لصالح الصحة، والكثير من ثروات رجال الأعمال وضعت في خدمة إستنهاض البلد (ج. آرماني وغيره)…

٢-  حماية العمل والرواتب وبالتالي الشرائح المتضررة عبر دعم المؤسسات المقفلة ودفع رواتب طوارئ….

٣-  دعم  المؤسسات والقطاعات المتضررة وإمدادها بالمال والسيولة اللازمة للوفاء بالتزاماتها تجاه الأفراد والعائلات وضماناتهم الاجتماعية..

٤- إلإعفاء من دفع الضرائب وإلغاء أو تأخير دفع الفواتير المستحقة والقروض الصغيرة والمساهمات في صناديق الدعم الإجتماعي…

الدولة في إيطاليا مثلاً دفعت ٣٥٠ مليار يورو لدعم عالم الإنتاج (دفعة أولى)، وطالبت وحصلت على ٧٥٠مليار يورو من حصتها في البنك المركزي الأوروبي. ووافقت الدولة في إلمانيا على الإستدانة، مؤخراً، من خلال قرض فاقت قيمته الـ ١٨٠ مليار يورو لتعزيز  إمكانياتها، الكبيرة أصلاً ، لتطفئة الخسائر…

والجائحة عززت مبدأ التضامن العالمي، رغم الشوائب الكثيرة، وخير مثال هو الصين وروسيا وكوبا وغيرهم حين هبّوا لمساعدة إيطاليا، وإن كان لا يُخفى هدف البحث عن موطئ  قدم على “طريق الحرير”  بواسطة ما أُصطُلِح على تسميتهِ “ديبلوماسية الكمامات”….

لبنان والجائحة

إنفجرت في لبنان، قبل الجائحة بقليل، أكبر أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية (مزمنة ومتراكمة) من قبل السلطة المتحكمة، فأفقدته مناعته على المستويات كافة… إنهارت العملة الوطنية وتضعضع الإقتصاد بفعل عمليات النهب الممنهجة والتي طالت جموع “الموجودين الأحياء” في لبنان ومعهم المغتربين، فجاء الوباء الفيروسي للبلاد ليزيد من قساوة المعاناة وعمق المحنة… لم يكن البلد وسكانه أصلاً على جدول اهتمام السلطة، فغابت بالتالي خطة المواجهة الفعلية للوباء: لذا جرى التملّص والتأخر في إغلاق الحدود بشكلٍ مُحكم، والتهاون وعدم الجدية في تنفيذ الإجراءات من إغلاق المتاجر والمطاعم ومؤسسات العمل، إلى إلزامية الحجر المنزلي، عدم تأمين مستلزمات الصمود والمواجهة، ناهيك عن سرقة الودائع والمساعدات، عدم تنفيذ الحد الأدنى من فحوصات الـ  PCR (  ألف فحص  عشوائي لكل مليون نسمة: 5  ألاف فحص على الأقل يومياً) لمعرفة مدى انتشار الوباء وحدود الوقاية ( لم يتجاوزالرقم ٤٠ ألف فحص خلال ٦أسابيع!)، التصريح بأنّ “لا إصابات في صفوف اللبنانيين والمقيمين” دون أن تُخضعهم لفحوصات عشوائية..! وزد على ذلك  رفع شعار “لا داعي للهلع” البعيد كل البُعد عن العلم والإحصاء والبيانات…

برز غياب الدولة، وافتقارها إلى خطة مواجهة واضحة، في الكثير من المجالات التي لا تغطيها عمليات تكثيف الحضور الاعلامي. فمن سرقة ودائع اللبنانيين، إلى نشر معلومات كاذبة عن إشادات عالميّة وهميّة ،والإشادة بِـ “النموذج اللبناني الفريد من نوعه” لمحاربة الوباء، مروراً بعدم توفير مستلزمات الصمود للقطاع الإستشفائي، وإختفاء الدواء من الأسواق وعدم إلتزام الناس نتيجة اضطراهم إلى البحث عن قوتهم اليومي (٣١ ألف مخالفة سير في يومين فقط !!).. كل هذا ساهم في انتشار الفيروس وفي تفشيه ومضاعفة نتائجه السلبية على جميع الأصعدة…. 

كورونا فيروس لا يُهزم بقرار سياسي أو فئوي بلّ يُعزل بمجهود علمي ّمغطى بقرار سياسي جامع (دولة ومؤسسات) وبِتعاون شعبي، وهذا صعب المنال والتحقق في ظل سلطة سياسيّة تُصرّ على اللعب بمصير لبنان واللبنانيين، ومتابعة تنفيذ أكبر عملية نهب وفساد ومحاصصة وإفقار في تاريخ البلد. وهي أقذر سرقة، لا مثيل لها أو شبيه في كل النماذج والأزمنة والأمكنة.!!

Leave a Comment