*عمر قدور
كما كان منتَظراً استخدمت واشنطن حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. المشروع الذي قدّمته الجزائر “بناء على طلب السلطة الفلسطينية” نال مساء الخميس موافقة 12 دولة، في حين امتنعت دولتان عن التصويت هما بريطانيا وسويسرا، ما اضطر واشنطن لاستخدام الفيتو لمنع صدور القرار.
كان الرئيس محمود عباس قد جدد في الثاني من هذا الشهر طلب الحصول على العضوية الكاملة الذي قُدِّم لأول مرة في أيلول 2011، ومنذ تجديد الطلب بدأت التحركات الأمريكية الهادفة إلى إحباطه. ضغطت الإدارة الأمريكية على الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن مثل مالطا والإكوادور وغويانا واليابان وكوريا الجنوبية وسويسرا، بل شاع أنها توسطت إحدى هذه الدول لمطالبة فرنسا بالتصويت ضد المشروع.
الهدف المعلن من الضغوط الأمريكية، استباقاً لجلسة التصويت، هو أن واشنطن تريد تفادي استخدام الفيتو. بينما لا يصعب في الواقع فهْم هدفٍ أبعد وأشدّ خبثاً، هو إظهار أن الطلب الفلسطيني لا يحظى بقبول واسع، وأنه “لو نجحت الضغوط” سقط حتى من دون حاجة لاستخدام الفيتو. أما الذريعة الأمريكية التي قُدّمت لإقناع تلك الدول فهي ربط الشأن الفلسطيني باتفاقيات إسرائيلية للتطبيع مع دول عربية، فضلاً عن التحذير من أن موافقة أعضاء المجلس لن تنفع الفلسطينيين، وستضرّ بجهود التطبيع، وتوقف دعم السلطة الفلسطينية وتزيد من مخاطر العنف.
لو أن واشنطن استخدمت الفيتو ذاته قبل سنة مثلاً، ربما لم يكن حينها جديراً بالتوقف عنده كما هو الآن، حيث يبدو “على سبيل المثال ليس إلا” منفصلاً عن الواقع تحذيرُ واشنطن من أن منح فلسطين العضوية الكاملة سيزيد من مخاطر العنف، وكأن ما يحدث في غزة مجرّد ألعاب نارية! أما الأهم فهو أن الفيتو سلوك أمريكي تقليدي في ظروف غير عادية، إذ يُنتظر من واشنطن بحكم مكانتها الدولية أن تبعث رسالة تتحلّى بقدر ولو ضئيل من المسؤولية، كأن تمتنع عن التصويت وتربط اعترافها بالدولة الفلسطينية بمعاهدة سلام بينها وبين إسرائيل، أو أن تربط تمرير القرار بتفاهم مسبق على أن تستعيد السلطة وجودها في غزة.
أثنت تل أبيب على الفيتو الأمريكي لأنه لا يشجّع “الإرهاب”. وإذا اتخذنا المنطوق الأمريكي نفسه في موضوع الإرهاب؛ نعود للتذكير بأن السلطة الفلسطينية التي تقدّمت بالطلب غير مصنّفة على لوائح الإرهاب الأمريكية، بل لطالما حصلت على مساعدات اقتصادية من واشنطن، وهي في الأصل نتاج لاتفاقيات أوسلو، أي لسياق عملية السلام التي أطلقتها واشنطن في مؤتمر مدريد. ومن المعلوم أن العلاقة بين السلطة الفلسطينية وسلطة حماس في غزة لم تكن إطلاقاً على ما يُرام، بمعنى أن واشنطن استخدمت الفيتو ضد الطرف الفلسطيني المصنَّف بأنه الأكثر اعتدالاً؛ الطرف الذي تخلّى عن السلاح وأعلن أن السلام خياره النهائي وفق القرارات الدولية ذات الصلة.
بالطبع تخالف واشنطن القرارات الدولية أيضاً التي نصّت منذ عشرات السنين على قيام دولتين، وتخالف بالفيتو تصريحات صدرت عنها مؤخّراً تنصّ على ثبات موقفها الذي يتبنى حل الدولتين، لتظهر التصريحات الأخيرة كأكاذيب دبلوماسية تحطمت بسرعة على صخرة الموقف الحقيقي الرافض لقيام دولة فلسطينية. ترجمة الرفض لمن لا يودّ فهمه تأتي دائماً بأن الدولة الفلسطينية “من المنظار الأمريكي” مصحوبة بوصف ما من قبيل “قابلة للحياة” أو “منتجة”… بحيث يجب فهم أنها لن تكون دولة بالمعنى المعتاد للكلمة.
باختصار تحيل التصريحات والوعود والذرائع الأمريكية إلى دولة فلسطينية ليست بدولة، ورغم كونها كذلك لن تأتي إلا ضمن صفقة إسرائيلية كبرى مع دول عربية ذات وزن اقتصادي. عملياً، تنكر واشنطن على الفلسطينيين سلفاً استقلالهم، فلا تراهم جديرين بإبرام اتفاقيات بموجب قرارهم المستقل عن علاقات إسرائيل بدول عربية أخرى، والإنكار يفرغ أية مفاوضات إسرائيلية-فلسطينية من المحتوى بما أن الثقل هو في مفاوضات إسرائيل مع أطراف أخرى. بعبارة أخرى، تقول واشنطن أن الفلسطينيين ليسوا جديرين بالتعامل معهم كطرف سياسي. مع التذكير بأن هذه الإهانة موجَّهة أولاً وحصرياً للجانب الذي اعتمد خيار السلام، بما أن رافضي السلام مصنّفون أصلاً بمعظمهم على لوائح الإرهاب.
ما يمثّله الفيتو الأمريكي من سياسات يمكن ترجمته واقعياً بالقول: هيّا إلى السلاح. فواشنطن، عندما تمعن في تعزيز اليأس من خيار السلام، تكون كأنها تقول للفلسطينيين أن لا خيار أمامهم سوى السلاح، وأن طريق السياسة لن يؤدي إلى تحصيل الحد الأدنى من الحقوق، فوق أنه غير سالك. هي كأنها تدفع الفلسطينيين إلى الالتحاق بالمنظمات التي تصنّفها إرهابيةً، وهذ أيضاً تكتيك إسرائيلي اغتيلت أو سُجنت بموجبه شخصيات فلسطينية معتدلة تحظى بقبول شعبي.
لكن، حتى لا يُفهم أن الفلسطينيين يملكون خياراً حراً أو شبه حر في التنقل بين السياسة والسلاح، يجدر الانتباه إلى ما يعنيه خيار اليأس من وجود أفق سياسي. فخيار العنف عندما يكون بلا برنامج سياسي، أو عاملاً تحت شعارات غير واقعية وغير قابلة للتحقيق، فسيكون مستبعداً بقوة أن يحقق أهدافاً سياسية؛ مع التذكير مرة أخرى بأنه ناجم أصلاً عن الاستعصاء السياسي.
لعل أفضل توصيف لهذه الوضعية هو “العدمية السياسية”، ومن المرجَّح أن جمهور العدمية السياسية هو الأوسع في بلدان المنطقة كافة. هذا الجمهور في الحالة الفلسطينية لم يذهب إليها على سبيل الترف الفكري، أو مدفوعاً سلفاً بأيديولوجيا عدمية. الفيتو الأمريكي نفسه قبل يومين يستكمل اللوحة الدموية، فهجوم حماس في السابع من أكتوبر لم يكن لتحقيق هدف سياسي بل نتيجة لانعدام الأفق السياسي، وأتى الرد الإسرائيلي إبادياً “منذ بدايته حتى الآن” في دلالة على أن الحكومة الإسرائيلية لا تريد تحقيق هدف سياسي أيضاً، ليُتوَّج ذلك كله بفيتو أمريكي إباديّ سياسياً يساهم في تغذية موجة جديدة من نتائج انعدام السياسة.
بالتأكيد من السهل جداً الاستدلال بالنتائج الكارثية على الفلسطينيين جراء العدمية السياسية، ومن السهل جداً في المقابل رؤية أنهم الطرف الأضعف المحاصَر بمجموعة من الخيارات الإبادية، لا السيئة فحسب. في الواقع ليس هناك ما يشجّع على بيع الأمل للفلسطينيين؛ لقد أثبتوا مراراً من قبل أنهم الأولى والأجدر بصناعته.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت 2024/04/20
Leave a Comment