بول طبر
باختصار شديد، تدعو دراسة الزميلة، ريما ماجد، (المرجع مذكور أدناه) إلى عدم حصر دراسة الطائفية في مجال دراسة العلاقات الدولية والسياسة والتاريخ والأنثروبولوجيا، وفتح المجال أمام دراستها من منظور سوسيولوجي (لم أدر لماذا لم تذكر الكاتبة المنظور السلوكي الحميمي أيضاً). وتركز الدراسة على أهمية المنظور السوسيولوجي في دراسة الطائفية، مثلما هو الحال مع الدراسات السوسيولوجية للظاهرة الإثنية والعنصرية والمنظومة الجندرية. عدا الفائدة العلمية المرجوة من هذا المطلب، تشير الكاتبة إلى فائدة أخرى تتعلق بتحرير مقاربة الطائفية من المنظور الكولونيالي والاستشراقي، أي من إعتبار الطائفية وما تسببه من انقسامات وخلافات وحروب أهلية من الخصائص الدائمة والأولية (primordial) للمجتمعات العربية والمجتمعات الشرقية عموماً. وتضيف الباحثة أن المنظور الإستشراقي يسوّغ سياسات الغرب الرأسمالي المهيمن وفق القاعدة المشهورة “فرِّق تسد”. ولا ينبغي أن نتجاهل في هذا السياق، تبني العديد من المثقفين المحليين وقوى سياسية عديدة (أحزاب وتيارات من ضمنها “الإسلامية الجهادية”) داخل وخارج السلطة لهذا المنظور الاستشراقي في فهم وتفسير الظاهرة الطائفية (لمزيد من التفصيل، أنظر كتاب “السلطان الحديث” لياسين الحاج صالح).
في القسم الأخير من البحث، تطرح الكاتبة ريما ماجد الأفكار الرئيسية التي تتبناها في تفسيرها السوسيولوجي للطائفية. تدعو في البداية إلى الإبتعاد عن تحديد الطائفية كظاهرة جوهرية (لا تتغير ولا تزول) أو كظاهرة وضْعية. فهي ليست هوية ثابتة ولا بنْية موضوعية واضحة وثابتة في معالمها الأساسية. إنها، كما يؤكد البحث، مسار دائم التكوين وإعادة التكوين ،(process)
وهي ممارسة-مطالب ومواقف إلخ- وبذلك تكون صنْعية (تعبير من الحاج صالح وإعتقد إنه المعادل لكلمة (constructed) وقابلة لإعادة التشكّل بصورة دائمة. وتضيف الباحثة بأنه بناءً على ذلك فإن الطائفية هي صفة، لشيء أو لممارسة، ولا يجوز الكلام عنها بمعزل عما هو موصوف بها، فنقول مثلاً، “رأسمالية طائفية”، “نظام فصل طائفي” “تمييز طائفي”، إلخ. بكلام آخر، الطائفية هي ممارسة تصنيفية للذات وللآخرين، الأمر الذي يصوغ ذاتية الفرد وتصوراته. إنها منظومة علاقات وليست بنْية مستديمة واضحة المعالم. من هنا ترى الباحثة أهمية التركيز على المنظومات المختلفة للعلاقات الطائفية ومنها “الطائفية المؤسساتية” و”الطائفية القانونية” و”الطائفية الإجتماعية” و”الطائفية الدينية” و”الطائفية السياسية”.
ويظهر البحث ضرورة التمييز بين الطائفية والدين وبين الطائفية والعلمانية وبين الطائفية والقومية، مشيراً إلى أن التمييز الأول (أي بين الطائفية والدين) يقوم على أساس أن الطائفية هي تسييس للدين، وأن التمييز الثاني (بين الطائفية والعلمانية) ضروري لأنه يجوز للعلماني (والملحد والمتدين) أن يكون طائفياً أو لا يكون. أما التمييز الأخير (بين الطائفية والقومية)، فيقوم على اعتبار مماثل بأن الواحد لا يختزل الآخر، رغم إمكانية أن تتصف أحياناً الواحدة بالأخرى فنقول مثلاً هذا طرح قومي طائفي أو العكس (مثلاً تقاطع القومية اللبنانية مع الطائفية المسيحية).
في النهاية، يخلص البحث إلى مقاربة الطائفية ليس من مدخل يعتبر أنها هوية مستديمة وواضحة المعالم للذين ينتمون إليها. وكما سبقت الإشارة، الطائفية هي حسب الدراسة ممارسة وصِفة لممارسات تصنيفية وتمييزية قابلة لإعادة التشكّل وصولاً للإضمحلال حسب تموضعها في المجتمع ومختلف مجالاته.
إذن هي صفة (تتعزّز وتتبدّل وصولاً إلى الزوال) لموصوف أكثر رسوخاً وتَبَنْيُنَاً كالنظام الإقتصادي، على سبيل المثال. لذلك فهي منظومة علاقات وممارسات ملازمة لها (للمنظومة)، وليست بنية إجتماعية واضحة المعالم التراتبية وتقوم على علاقات سيطرة واضحة، كالبنى الطبقية والجندرية والعنصرية. من هنا دعوة الباحثة لدراسة جانب التطييف
Sectarianization في الظاهرة الطائفية والتركيز على ذلك.
أسارع إلى القول أن دعوة الكاتبة إلى التعاطي مع الطائفية بصفتها ممارسة وظاهرة إجتماعية صنْعية يمكن أن ينطبق على جميع الظواهر والعلاقات الإجتماعية، بما فيها “البنية” الطبقية والعنصرية والجندرية. والهدف الأول والأساسي من هذه المقاربة في السوسيولوجية وغيرها من العلوم الإجتماعية هو الإقرار بقدرة الفرد والجماعة على الفعل (يطلق عليها الحاج صالح تعبير “الوكالة”) في تحليلنا وتفسيرنا للظواهر الإجتماعية. لكن ليس المطاوب هو الذهاب حصرياً نحو الممارسة و”صنعية” الظواهر الإجتماعية وإغفال الجانب الموضوعي والمنتظم والبنيوي والمستديم (مؤقتاً بالمنظور التاريخي بالطبع) لتلك الظواهر. وليس للفوراق التي تشير إليها الباحثة بين خصائص الظواهر الإجتماعية ما يبرر أن نميز فيما بينها، بمعنى أن نعتبر أن الظاهرة الطبقية والجندرية والعنصرية لها صفات بنيوية لا تنوجد في الظاهرة الطائفية. الخروج من المنظور والمقاربة الوضعية والبنيوية يجب أن يترافق مع خروجنا من المنظور والمقاربة المعتمدة على “البروسيس” وصنْعية الظواهر الإجتماعية لا غير. أو الأصح هو القول أن منظور “البروسيس” في تحليل الظواهر الإجتماعية كان المحاولة الأولى فى كتابات ماركس لتجاوز ثنائية الموضوع والذات. من هنا أنا أميل إلى المقاربة المعتمدة في كتابات بورديو التي تتجاوز بصراحة ثنائية البنية والوكالة وما يتناسل منها من ثنائيات أخرى (مثلاً الموضوعية والذاتية) بطرحها مفاهيم كالحقل والممارسة والهابيتوس، رغم قناعتي بأن مفهوم الهابيتوس عند بورديو يتقاطع، إن لم نقل يطور أكثر مفهوم البروسيس المشار إليه والمأخوذ عن كارل ماركس.
الطائفية كما الظواهر الأخرى، هي حقل من علاقات قوى، إي علاقات سيطرة وإخضاع ومواقع متفاوتة (مع التنويه تماشياً مع ماركس أنه في حال الكلام عن خصائص الحقل الإقتصادي يجب التأكيد على أن ميزة هذا الحقل أنه أيضاً حقل من علاقات الإستغلال وأن الحقول الأخرى ومنها الحقل الطائفي لها دور في إحقاق علاقات الإستغلال وتعيين بعض خصائصه وشروط تحققه، دون أن يتم اختزالها بهذا الدورِ فقط). وممارسة الفاعلين داخل الحقل هي أولاً تقوم على النزاع المتمحور حول “الرأسمال الطائفي” ومكانته بالعلاقة مع “الرساميل الطائفية” المتنافسة معه على احتلال المكانة الأقوى في الحقل عموماً، وبالتالي انتزاع شرعية هذه المكانة والإقرار بها. وهي ثانياً محكومة بمجل القواعد التي تحدد سلوك الفاعلين داخل الحقل الطائفي دون إغفال أن هذه القواعد هي أيضاً موضوع نزاع من أجل تعديلها أو الدفاع عن بقائها. وثالثاً، هي ممارسة تجمع بين كونها بنية محَدَّدة وبنية مُحَدِّدة، أي أنها تجمع بالنسبة للفاعل نفسه بين البعد الموضوعي والبعد الذاتي الذي لا يخلو من القدرة على التفكُّر، وبالتالي التدخل في تعديل بعض القواعد المتحكمة بالحقل الطائفي عموماً (أو أي حقل آخر) وصولاً إلى الإنقلاب على قواعد الحقل بالكامل، في مرحلة الثورة.
“For a Sociology of Sectarianism: Bridging the Disciplinary Gaps beyond the “Deeply Divided Societies” Paradigm’’, Rima Majed, in The Oxford Handbook of the Sociology of the Middle East
Edited by Armando Salvatore, Sari Hanafi, and Kieko Obuse, 2020.
Leave a Comment