اقتصاد

الوضع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني وآفاق الخروج من الانهيار الشامل 1/ 2

أحمد مغربي

        مقدمة

ثمة نقاش يدور في لبنان ويتجاوز حدوده تشارك فيه هيئات مالية أممية وخبراء حول سبل وإمكانية خروج لبنان من المأزق المالي والاقتصادي الذي يتخبط به على مختلف الصعد والمستويات. وهو يتمحور حول القيام ببعض الاصلاحات والإجراءات الملحة المفروضة لقيام المؤسات الدولية بإمداده بالقروض، ومساعدته على النهوض مما يتخبط به من انهيارات كبرى. ومع أن اعتماد هذا الحد المتدني من الاصلاحات يصعب على نظام المحاصصة الطائفي تنفيذه،  كونه يتناقض مع البنية التي أرساها على امتداد عقود متلاحقة، وما مارسه من علاقات زبائنية وتشريع للنهب على المستويات كافة، الا أن ذلك كله غير كاف البتة. ومع أن هذا النقاش مفيد ، لكنه قاصر عن بلوغ  الأفق التي يتوجب على لبنان ارتيادها بحثاً عن دور متجدد لاقتصاده ضمن محيطه. ففي غضون العقود المنصرمة طرأت تطورات كبرى على الصعيدين الدولي والاقليمي يجب أن تدفع بالبحث خطوات إلى الأمام لاستعادة وظائف حقيقية تتماشى مع هذه التطورات، لاسيما وأن استعادة دوره السابق من جانب البُنية السياسية نفسها وعبر الآليات القديمة بات خارج السياق الزماني والمكاني المطروح. من هنا أهمية التفكير في ما هو أبعد من اللحظة الراهنة. هذا البحث الذي أعده الزميل أحمد المغربي تنبع أهميته في ارتياده هذا المستوى المتقدم من النقاش الذي يضع البلاد على سكة التعافي الحقيقي بدل عمليات التلفيق من خلال الحلول القاصرة المحاطة بمخاطر الفشل أضعاف احتمالات النجاح في الخروج من جحيم الكارثة الزاحفة. وهي تشمل جوانب لا يلتفت إليها الكثيرون حول دور التعليم والاقتصاد الرقمي وعلاقات العمل وضماناته وسواها من مسائل هيكلية تكاملية ملحة ولعب دور تنافسي فعلي في اطار أوسع وأرسخ بالعلاقة مع ما تشهده المنطقة من مشاريع وتوجهات.

المحرر

 

ــ  الاقتصاد

ثمة 8 ملاحظات تتعلق بالاقتصاد الرقمي وعلاقته مع النظام التعليمي كشرط أساسي في فعاليته وتطوره؛ واقتصاد الجائحة الذي تتصل نقاشاته مع تجديد جذري في عقود العمل يصل إلى حد كونها أساساً في عقد اجتماعي جديد [انسجاماً مع تعزيز المواطنة كأساس في العقد الوطني بين اللبناني ككائن دستوري وقانوني يكون بديلاً للارتباط بالطائفة والمذهب، وذلك أساس النظام الطائفي فعلياً الذي أثبتت التجارب التاريخية الملموسة للكيان اللبناني أنه مسدود الأفق، ولا ينجح إلا في استيلاد الأزمات والتأزمات والحروب، مع فترات من “السلم الأهلي البارد”، بحسب ما تسمح به التوازنات الدولية والاقليمية التي تبقى ممسكة عملياً بمسار ذلك النظام]؛ ومشروع “مرفأ بيروت لبنان التكاملي الكبير” ، ومشروع تطوير الصيد البحري وعصرنته مع الأخذ بالبعد البيئي [يمضي في مسار معاكس تماماً لمشروع “بروتين” الشهير]، وكذلك مشروع “الصيد البحري الاستثماري” في المدى الاغترابي والعربي، ومشاريع الطاقة البديلة والغاز، التي تتصل بها مسألة النفايات وتدويرها في المدى العربي، كجزء من التوجه نحو اقتصاد بيئي أخضر. يضاف إلى ذلك مسألة الصندوق السيادي اللبناني وأهميه.

أ- الاقتصاد الرقمي. يجب أن يهتم الإنقاذ الاقتصادي للبنان بالاقتصاد الرقمي. يشمل ذلك الاهتمام بالنقاط التالية:

1- “التشفير” Coding وتعليمه إجبارياً وفورياً في مدارس وثانويات وكليات لبنان كلها. لقد بات التشفير وتعليمه إجبارياً في البلدان المتقدمة في المرحلة الابتدائية، لكنه لم يدمج بعد في التعليم اللبناني، فلا يُدرَّس إلا في الاختصاصات، أو تهتم به بعض الكليات في الجامعات الراسخة، فتعطيه في المراحل الأخيرة من التعليم الجامعي في بعض الكليات غير المختصة. يجب تغيير هذه الصورة كلياً، إذا أراد لبنان الحصول على جيل يتفاعل فعلياً، وليس بالضجيج المبهرج، مع العالم المعاصر الذي تندمج فيه الأبعاد الرقمية الافتراضية مع الفعلية التقليدية بصورة تامة، بمعنى أنهما ليسا مجالين مختلفين، بل مجال واحد متدامج ومتفاعل. هنالك تطبيقات وبرامج موجودة، وتجارب في بلدان كثيرة للاستفادة منها. قد يبدو الأمر مزعجاً لكثيرين، لكن تعليم التشفير هو الملمح الأبرز في التحول الرقمي للتعليم المعاصر. لا يمكن تطوير اقتصاد رقمي فعلي من دون بُنية معرفية تسنده، لكن يحول دون إدراكنا هذا الأمر، انعدام النقاش اللبناني حوله. في استعادة من تجربة اليسار اللبناني والعربي، لطالما شكل تعليم الأبجدية والقراءة والكتابة مدخلاً لعمل ذلك اليسار، في عقود ماضية. يشبه ذلك الأمر حاضراً، مسألة تعليم التشفير. مرّة اخرى، ليس الأمر تنظيراً. هل يكفي التذكير بأن الرئيس باراك أوباما، بعيد تفجر الأزمة التي فجرها مبرمج الكومبيوتر إدوارد سنودن، أعلن في خطاب عام أن لا أحد سيستطيع العيش بشكل طبيعي في قادم الأيام من دون أن يتعلم التشفير، لذا فيجب أن يتعلم الجميع التشفير. هنالك مساحة واسعة ومهمة للتحرك فيها. وكذلك من المستطاع التنسيق مع الجمعيات المدنية، في ذلك الصدد. إذا توفرت حوكمة لبنانية رشيدة، بإمكانها مثلاً طرح مبادرة عربية من نوع “المبادرة اللبنانية لنشر تعليم التشفير”، ما يتيح مساحة للتفاعل مع دول عربية واضحة الاهتمام بالبعد الرقمي كالإمارات والسعودية، في الحصول على تمويل مناسب.

2- تبني قانون الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان الرقمي، الذي يتعلق بحماية الخصوصية وبيانات المواطنين وغيرها. أقر البرلمان ذلك التشريع الأوروبي بصورة جزئية. والأهم أن البرلمان لم يعمل على تحويله إلى السلطة القضائية كي تشتق القوانين اللازمة منه، وتصيغها بما يتلاءم مع لبنان. هنالك مساحة للتفاعل مع جمعيات أهلية حقوقية في ذلك المجال، إضافة إلى نقابة المحامين.

3- البحث في الضرائب الخاصة على الشركات الرقمية العملاقة، تُعرف بإسم “غافام” GAFM، من الأحرف الأولى لشركات “غوغل”، “آبل”، “فيسبوك” و”مايكروسوفت”. من المجدي التشاور مع الاتحاد الأوروبي خصوصاً. هنالك توجه أميركي مع إدارة بايدن، لتعزيز ذلك النوع من الضرائب على شركات العالم الافتراضي الرقمي. [ لعلها مناسبة للتذكير بالضريبة العالمية على الشركات العملاقة العابرة للقارات التي أقرتها الدول الغربية باقتراح من الولايات المتحدة، لكن لا يُسمع صدى عنها في لبنان! هل هنالك من يستغرب ذلك؟ الأنكى، أن تلك الضرائب موضع توزيع عالمي يستطيع لبنان أن يطلب حصة منه!].

4- تعزيز التوجه نحو دعم الشركات الرقمية الناشئة “ستارت آبس” Start Ups، والتفاعل مع الاغتراب اللبناني في ذلك المجال. تجدر الإشارة إلى وجود اهتمام ومبادرات من القطاع الخاص اللبناني، منذ بعض الوقت، بهذا المنحى، خصوصاً التفاعل مع الشباب اللبناني في الغرب من المنخرطين في تلك الفعالية. وبالتالي، يجب على الدولة في ظل حوكمة مستنيرة، أن تعزز وتدعم ذلك.

5- تعزيز البنية التحتية الرقمية في لبنان، بما في ذلك شبكات الجيل الخامس للخليوي [مع ملاحظة وجود تشابك مصالح دولية حولها قد تستطيع حكومة مستنيرة وحداثية في لبنان، أن تستفيد منها]. يفترض ألا يجري ذلك بأسلوب البهرجة الإعلامية المبطنة بالصفقات. ولعلها مجال للتفاعل مع منظمات المجتمع المدني لتشديد النبرة لمصلحة المسارات الواقعية التي تأخذ البعد الاجتماعي والوطني في عين الاعتبار.

ب– اقتصاد الجائحة: عقود العمل وصولاً إلى عقد اجتماعي جديد.

لقد أحدثت جائحة كورونا تغيرات زلزالية في بنية الاقتصاد العالمي، لا يتسع المجال للإحاطة بها، لكنها غيّرت أشياء كثيرة في أساس الاقتصاد الرأسمالي الحر. ولعل الأبرز هو العودة إلى تدخل الدولة في الدول الرأسمالية المتقدمة، وفي مرحلة ما بعد العولمة، إلى التدخل المباشر وبمقدار كبير، في الاقتصاد. وبالاختصار، أعادت الجائحة الثقل إلى الإنسان في معادلة العمل والانتاج، وبرزت الحاجة إلى دعمه كأساس في استمرار الاقتصاد نفسه، وينطبق ذلك على العمل الرقمي والتقليدي والهجين [الذي يمزج العمل الفعلي مع ذلك الذي ينجز عبر العالم الافتراضي].

بالنسبة إلى لبنان، ثمة أبعاد كثيرة يجب تطويرها في ظل متغيرات الجائحة الفيروسية، بل خصوصاً مع بروز إمكانية تجدد الجائحات كأفق مستمر في العالم المعاصر. ليس مصادفة أن تتوجه أميركا [ودول اخرى] إلى استعادة ملامح كثيرة مما يسمّى تقليدياً “دولة الضمان الاجتماعي”، بل السعي المُعلن لدى تلك الدول نحو إعادة تماسك أو تشكيل الطبقة الوسطى التي تضررت من سياسات اقتصادية نيوليبرالية منذ ثمانينيات القرن العشرين، ومروراً بمرحلة العولمة.

1-    يعتبر تغيير عقود العمل كي تصبح أكثر وضوحاً في التزامها حماية العامل ومداخيله، بما في ذلك أسرته، أثناء الجائحات والمدى الزمني الذي يليها. يطاول ذلك خصوصاً مسألة العقود اليومية والمؤقتة وتلك التي تعتبر الموظف أو العامل، “مستثمر يعمل لمصلحة نفسه كأنه رب عمل” [تعرف بإسم عقود “جيغ” gig، وهي شائعة في الغرب، وفي الشركات الرقمية، وكانت آخذة في الانتشار حينما اندلعت الجائحة].

2-    تعويضات نهاية الخدمة واستمرارية الرعاية الصحية في ما بعد التقاعد. ويجدر أن يشمل ذلك استمرارية قدرة العامل/الموظف مالياً في الحصول على ما يلزم من دواء واستشفاء وطبابة متنوعة.

3-    الزام الاقتصاد ببناء قطاع صحي متطور وواسع، يكون هو محور وأساس الرعاية الصحية المتكاملة، وليس القطاع الخاص. في بريطانيا، كانت إدارة بوريس جونسون التي تميل إلى النيوليبرالية ولا تعترف بالبعد الاجتماعي للنشاط الاقتصادي، على وشك خصخصة هيئة “الخدمة الصحية الوطنية” [ لمصلحة شركات أميركية]، لكن الجائحة أبرزت الأهمية الفائقة للقطاع العام الذي يرتكز في بريطانيا على تلك الهيئة الصحية الحكومية. في لبنان، يعاني القطاع الطبي الحكومي من ضعف مذهل، ما يعني أنه خارج التاريخ في تطور الرعاية الصحية للمجتمعات المعاصرة.

بالاختصار، إذا تُرجِم ذلك لبنانياً، فسيكون أقرب إلى القول باستعادة ملامح كثيرة من اقتصاد المرحلة الشهابية، مع تجديدها.

… يتبع حلقة ثانية وأخيرة.

Leave a Comment