أخوك جمال حلواني
لمناسبة مرور 39 عاماً على خطف عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان عدنان حلواني.
أيلول 1982، حصار إسرائيلي لمدينة بيروت امتد ثلاثة أشهر وسط صمت عربي وإجازة دولية لاقتلاع الثورة الفلسطينية والمشروع الوطني اللبناني، اللذين باتا يشكلان تهديداً حقيقياً لأنظمة رجعية عربية.
ثلاثة أشهر قاسية شهدت فيها المدينة أعنف موجات القصف وآلاف القذائف المدفعية والصواريخ، فيما كانت غارات طائرات الفانتوم تدمر مواقع المدافعين والمقاتلين من القوات المشتركة من حي السلم إلى المدينة الرياضية وطريق الجديدة والرملة البيضاء. قصف بحري على عين المريسة، وملعب النهضة، وصولاً إلى شارع الحمراء، حيث تم استهداف بيوت المدنيين الآمنين. كان تدميراً ممنهجاً لعمران واقتصاد لبنان.
الصمود كان بطولياً. الدبابات الاسرائيلية تم تدميرهاعلى محور المتحف وخلف الجامعة العربية، وقبلها في خلدة والضاحية وصفير وحي السلم، إضافة إلى حي الأميركان. صمد المدافعون عن المدينة أمام أكثر الهجمات القتالية شراسة.
في آب، بدأ انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية تنفيذاً لاتفاق مسبق على وقف إطلاق النار والخروج الفلسطيني من لبنان.
على الضفة الأخرى، اُنتخب بشير الجميل رئيسا للجمهورية. ومعه بدأ تغيير المعادلات السياسية والخيارات والتحالفات لعدد من القوي والأحزاب والشخصيات المنهارة.
ترافق هذا الواقع الجديد مع صدمة أعادت خلط الأوراق السياسية الداخلية تجلت باغتيال بشير الجميل، وانتخاب كتائبي آخر رئيساً جديداً.
على الإثر، اجتاحت القوات الإسرائيلية العاصمة، قاتل مقاتلو الحركة الوطنية اللبنانية حتى الرمق الأخير، ودخلت القوات الإسرائيلية واحتلت اول عاصمة عربية.
لكن بيروت المدينة الأبية العريقة أطلقت من حاراتها وأزقتها عبر منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي جبهة المقاومة الوطنية لدحر الاحتلال عن كل الأراضي اللبنانية، تحت شعار “الوطن باق والاحتلال إلى زوال”.
عشرة أيام أمطرنا الجسد الإسرائيلي رصاصنا، وبدأت العمليات المقاومة من عائشة بكار، حيث اصطيد ضابط اسرائيلي برصاص مقاوم. من أمام صيدلية بسترس تم إلقاء قنابل يدوية على رتل إسرائيلي. عند طلعة شحادة تم تدمير ملالة ام 113، في شارع الحمرا، في مقهى الومبي تحديداً، قتل ضابطان في وضح النهار.
بدأت القوات الإسرائيلية تنادي عبر مكبرات الصوت: “لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون من بيروت”. لكن القرار كان واضحاً بأنه لا انسحاب إلا تحت النار. ازدادت العمليات، لتعلن انطلاق المقاومة ضد الاحتلال في كل الاراضي اللبنانية.
خلال ثلاثة أشهر من حصار بيروت، كُلف الرفيق عدنان حلواني عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي ومقرر المجلس السياسي لمدينة بيروت في الحركة الوطنية اللبنانية بالمهمة الأصعب من القتال بالسلاح. المهمة كانت تأمين صمود سكان بيروت المحاصرين. تأمين الخبز والخضار ومياه الشرب والدواء وكل ما يلزم الصمود المعيشي للمدينة لتبقى قادرة على مواجهة الاحتلال.
في 24 ايلول 1982، في منطقة راس النبع، خُطف الرفيق عدنان حلواني من منزله، حيث طلب منه شابان أبرزا بطاقات رسمية تابعة لجهاز أمني لبناني، الذهاب معهما إلى المحكمة العسكرية للتحقيق معه حول “مشكلة مرتبطة بسيارة”، وفق تعبيرهما. اعترضت عائلته، علا الصراخ، هددا بقتله. عدنان لم يعد، حتى اللحظة.
هل غيابه الطويل بعد خطفه، قادر على تدجيننا وإسكاتنا لقبول منطق الخطف وشروطه ونتائجه؟ هل الغياب دفعنا إلى نسيانه؟ لا مدوية، في وجه الخاطفين.
والخطف السياسي يندرج ضمن محاولات إلغاء طرف سياسي أو فكر آخر أو شخص لا يهاب التهديد والقمع، ويحرض الآخرين على الحرية. هذا النوع من الخطف يجمع كل اشكال القمع والتصفية، إنه يعادل الاغتيال.
هذا ما جرى مع عدنان حلواني، أرباب مشروع الهيمنة العسكرية على البلد أمروا بالخطف لإعلان شروطهم الجديدة عبر الدبابة الاسرائيلية التي دخلت إلى بيروت حينها كقوة احتلال. كانت رسالة قوية للقول إن الزمن قد حان لمحاسبة من حمل برنامجاً سياسياً تحررياً، لتفكيك تحالفات سياسية وطنية توطدت طوال فترة الحرب، لخلخة الصمود السياسي والعسكري في مدينة كانت تتعرض للخنق والموت والتجويع من قبل الاحتلال الاسرائيلي.
لم تُرض الجريمة الخاطفين، ها هي الدولة اللبنانية تستكمل عملية إخفاء الأثر، لتوقف راتب أحد أبرز رموز النضال بعد فترة من خطفه، بحجة أن عدنان، الأستاذ في ثانوية رمل الظريف، لا يلتحق بوظيفته، تاركين أولاده من دون أي دخل يعينهم على اكمال حياتهم بغيابه.
بعد 39 عاماً، ما الذي تغير؟ عملياً، ما زال الخطف الفكري السياسي حاضراً.
لم يقم أحد من الأحزاب بمراجعة دوره في الحرب الاهلية سوى منظمة العمل الشيوعي. قالت للجميع إن المراجعة تفتح باب نقد الحرب ومنطقها وتدين الخطف، وتسمح بالكشف عن مصير آلاف المخطوفين والمفقودين، وتطوي ملفاً شديد الخطورة، كونه إن بقي مفتوحاً سوف يجعل شبح الحرب الاهلية قائماً، وخاصة في ظل دولة طلبت من أهالي المخطوفين والمفقودين في تسعينيات القرن الماضي ان يقوموا بإعلان وفاة أزواجهم وأبنائهم وبناتهم من دون معرفة مصيرهم.
هناك أجيال بأكملها لم تسمع ان هناك بشر خطفوا آخرين، على امتداد 17 عشر عاماً من الحرب. وبعد مرور سنتين من عمر انتفاضة 17 تشرين الأخيرة، لم يكن موضوع وجود أكثر من 17000 ألف مخطوف ومفقود حاضراً، واُعتبرت أنها قضية ثانوية أمام القضايا الكبرى، هروباً من تحمل وزر أحد أهم مشاكل الحرب الاهلية.
المجموعات التي تشكلت في الانتفاضة لم تضع قضية المخطوفين في الوثائق أو الشعارات السياسية أو أية مطالب تدعو إلى التغيير، لأن المنتفضين يريدون التغيير من دون تحمل موروثات الحرب الاهلية. دون علمهم أن العمل السياسي هو تراكم نحملة من جيل إلي جيل . فقد انبثقت قوى طائفية قسمت الوطن ضمن محاصصات طائفية ومذهبية شديدة الخطورة.
على مدار ثلاثين عاما دمرت سلطة المحاصصة الطائفية الحياة السياسية وفرضت معادلات جديدة على واقع لبنان، بحيث اصبحت أغلب القضايا المطلبية خارج اهتمامات الناس إضافة إلى تطييف المشاكل اليومية.
أطاحت هذه السلطة بكل القوى التمثيلية والنقابية والمجتمعية وشرذمت الناس، واقنعت جمهورها بأن مصلحة الطائفة والزعيم أهم من المطالبة بحقوقهم، ومنها قضية المخطوفين والمفقودين قسراً في لبنان وسوريا، واعتبرت أنها قضية انسانية فقط من دون اعتبارها قضية وطنية.
هل اهالي المخطوفين قادرون على تحمل الاستمرار في درب الجلجلة؟ بعضهم أصبح في عداد الموتى نتيجة العمر والقهر والحرقة على غياب الأحبة من دون معرفة مصيرهم. وتشكلت الهيئة الوطنية لمتابعة قضايا المخطوفين والمفقودين قسراً بعد نضال مثابر وبقرار من مجلس النواب وما زال تعيين أعضائها قيد البحث. كما لم تحدد لهذه الهيئة أية ميزانية أو مقر لتبدأ عملها في متابعة ظروف الخطف.
هذه الهيئة لم تر النور إلا بعد نضال امتد لأكثر من 37 عاماً، بعد تظاهرات ومسيرات ومؤتمرات خارجية وضغوط دولية وأممية وتعاطف داخلي من قوى وشخصيات. لكن قرار تمييع عمل اللجنة متخذ كونها تشكل خطراً على سلطة أمراء الحرب والطوائف المتورطين في الخطف، وكونها تكشف زيف ادعائهم حول متابعة شؤون الخطف. وهي السلطة ذاتها التي طلبت من أهالي المخطوفين إعلان وفاة أحبابهم حتى لا تتحمل أية مسؤولية سياسية أو قانونية أو اجتماعية وطبعا مالية وصحية. تهربوا من مسؤولياتهم وحرموا الاهالي من معرفة مصير ابنائهم وازواجهم وكل احبائهم، منعوهم حتى من ايجاد قبر للمخطوف إن كان ميتاً، ليزوروا ضريحه ويضعوا الورد ويشكو إليه اوجاعهم واشتياقهم.
نحن نُرضع أطفالنا قضية المخطوفين والمفقودين حتى يأتي يوم محاسبة من قام بالخطف ومنعنا من رؤية أحبائنا.
لم تستطع الايام على مدار تسعة وثلاثين عاماً أن تنسينا خطف عدنان حلواني. لم يستطيعوا أن يضعوا اليأس في قلوبنا. إصرارنا على مطلب كشف مصيره سيبقى الهم اليومي لنضالنا، وهو الحاضر الدائم.
أحفادك وأحفادنا يسألون عنك ونحن نخبرهم عن نضالك وتاريخك.
الرفاق والأصدقاء في شوق لا ينتهي، العائلة تفتقدك.
مدينتك بيروت التي قاتلت من أجلها، هي الآن بلا مقومات للحياة وبلا دواء ولا كهرباء ولا مياه ولا محروقات. هي تحتاجك لتروي ظمأها وتساعدها على الصمود مجدداً. نحن وإياها نحتاج إليك.
Leave a Comment