سياسة

طغيان الحضور الإيراني وأوهام الدور الفرنسي

كتب زكـي طـه

لا خلاف بأن تأليف الحكومة الحالية لم يأت في سياق تفاهم لبناني داخلي، كان متعذراً مع صراعات أهل السلطة المستحكمة حول الصلاحيات وآلية التشكيل، كما بشأن الصيغة والحصص. ما يعني أن التاليف لم يكن حصيلة تفاهم على تشخيص طبيعة وأسباب الأزمة وما يواجه البلد من أخطار، أو تتويجاً للتوافق على برنامج الانقاذ الممكن في حده الأدنى.  والحكومة لم يكن لها أن تولد من دون إذن وضغط يصدران عن مصالح خارجية. وقد تمثل  الأمر بضوء اخضر من الرئاسة الإيرانية الجديدة بأن تتشكل حكومة مقبولة دولياً، وبموافقة  الرئيس الفرنسي على تجاوز  شروط ومواصفات مبادرته المتعثرة. حدث ذلك وسط تجاهل مواقف واعتراضات قسم كبير من اللبنانيين، خصوصاً الذين راهنوا على دور فرنسا، والذين غاب عنهم أن إدارتها  تبحث عن مكاسب استثمارية سياسية واقتصادية  قابلة للتوظيف في معركتها الرئاسية المقبلة. في حين تسعى إيران إلى تسليم الجهات الأقليمية والدولية بغلبة نفوذها وهيمنتها على لبنان باعتباره تابعاً للمحور الذي تقوده، وبدور حزب الله المحلي والخارجي في امتداد استراتيجيتها في المنطقة. ورغم أن انعقاد التسوية المؤقتة لتأليف الحكومة، لم يكن منسّقاً مع واشنطن، فإن الإدارة الاميركية غضت النظر عنها. وهذا ما أثار استياء الذين ادمنوا انتظار الخلاص على يد اميركا  أو غيرها من الدول، وهي الباحثة أيضاً عن مصالحها قبل اي شيء آخر.

سريعا شرّعت ثقة المجلس النيابي، ابواب الخلافات بين كتله، ما يؤكد  استمرار انعدام الثقة بينها. وبدأ يتكشف حدود الدور المطلوب من رئاسة الحكومة، والذي يقتصر على إدارة الأزمة. وأن المسموح لها مشروط بموافقة  العهد وتياره والجهة المتحكمة بالوضع. باعتبار أن مهام الانقاذ ووقف الإنهيار ليست من الأولويات، ويمكنها أن تنتظر الدعم الذي لن يأتِ بالسهولة واليسر كما توهم أو صدَّق البعض. كذلك لم يتأخر وضوح وظائف التسوية من قبل المعنيين بها على الصعيدين المحلي أو الإقليمي والدولي. إذ إن لكل طرف أجندة خاصة به وهو جاهز للاستبسال في سبيلها وفق أولويات مصالحه وبالقدر الذي يسمح به الوضع، وبصرف النظر عن تداعيات ذلك على  اوضاع البلد الذي يحتفظ لدى الجميع بمكانته ميداناً للاستثمارات السياسية والاقتصادية وساحة  لخوض الصراعات على تنوع  أشكالها.

ولذلك فإن حركة البواخر الايرانية بذريعة استيراد المحروقات إلى لبنان وتفريغها في مرفأ بانياس السوري. ومن ثم نقلها عبر طرق التهريب المعتمدة وتوزيعها وبيعها خارج إطار مؤسسات الدولة وأجهزتها وآلياتها المعتمدة. وقد شكلت المقياس الفاضح والاختبار الأهم  لمعرفة أهداف ومصالح  كل جهة، ولاستكشاف حدود التقاطع والتعارض بينها عبر استعراض متمادٍ لأوراق وقدرات وعوامل القوة التي يمتلكها كل طرف.

لم يتأخر الرد الاميركي على تصدير النفط الإيراني بطلب من حزب الله. سريعاً تم الإعلان عن  إجازة استيراد الغاز المصري واستجرار الكهرباء من الاردن وتسهيل التنسيق مع سوريا بهذا الشأن. كذلك لم يتأخر الإعلان الاسرائيلي عن بدء التنقيب عن النفط والغاز من قبل شركة أميركية في المياه الاقليمية اللبنانية المتنازع عليها.

وإذ تلقف الجانبان اللبناني والسوري الإذن الأميركي، الذي شكل مدخلاً لاستئناف العلاقات وتوسيع دائرة التطبيع مع سوريا. تكشف لاحقاً  طبيعة الدور الاردني المتشعب الوظائف حيال سوريا ولبنان استطراداً. فقد أربك الإعلان الاسرائيلي أهل السلطة وجدَّد فضيحة جهلهم بحدود بلدهم، وكأن ترسيمها وجهة نظر فئوية وليست قضية وطنية.  يؤكد ذلك استمرار الخلاف بينهم حول مرسوم تحديد خطها، وسط النزاع حول تشكيل الوفد المفاوض ومرجعيته. وإذ يسود الصمت حيال استمرار التنقيب من قبل العدو الاسرائيلي، يتوالى في المقابل مرور البواخر الايرانية وسط زغاريد الانتصار بكسر الحصار! أما ملف ترسيم حدود المياه الاقليمية ومصيرها فيضاف إلى ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وكلاهما ملف قائم بذاته للإستثمار المتعدد الأطراف والأوجه.

وإذ عاد رئيس الحكومة من زيارته الباريسية، محملاً بالشروط والطلبات والوعود غير القابلة للصرف كما كان يأمل. فإنه وبسرعة اصطدم باختلاف الرؤى والرؤية مع العهد حول أسباب الأزمة والانهيار وأولويات برنامج الإنقاذ. وذلك بالنظر لتباين  المصالح بين مكونات الحكومة ومرجعياتها حول شتى الملفات بدءاً من الكهرباء والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي ودور حاكم المصرف المركزي والتحقيق الجنائي معه، وأزمة القطاع المصرفي وترسيم الحدود البحرية ومرجعيتها، بالإضافة إلى الانتخابات النيابية والتحقيق العدلي في انفجار المرفأ ورفع الدعم والبطاقة التمويلية… ما ادى إلى تعثر انطلاقة الحكومة وسط  انفلات الأزمات على غاربها.

في موازاة ذلك سجل الحضور الفرنسي دأباً في المتابعة مع المسؤولين ومع اجهزة الادارة المعنية للإسراع في إعداد وإقرار خطة التعافي. من أجل بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بأمل الوصول إلى اتفاق حول الملفات المطروحة قبل نهاية العام. مقابل وعد بتنظيم مؤتمر دعم دولي تدعو له فرنساً، وإدارتها  المهمومة بضمان مصالحها وطموحاتها الإستثمارية في الكهرباء والمرفأ  تمهيداً للإنتخابات القريبة.

ومع استمرار التلاعب الاميركي والصدّ الخليجي والسعودي تحديداً لجميع طلبات الانفتاح على الوضع اللبناني وعلى الحكومة استطراداً. فإن حسابات الحقل هي غيرها على بيدر الواقع والوقائع. خصوصاً في ظل شبهة اختلال التوازنات الاقليمية والمحلية راهناً لمصلحة النظام الإيراني، وحليفه المحلي المتحكم بأوضاع البلد. وفق حسابات تبدأ في إيران والمفاوضات الدولية والاميركية معها حول ملفات الأسلحة الاستراتيجية والطاقة النووية، وبشأن نفوذها ودورها في الأزمات المتفجرة في العراق واليمن وسوريا، وصولاً إلى لبنان. وما يعزز هذا الواقع، الهجوم الاقتحامي الذي يمارسه النظام الإيراني وحلفائه والمتوالي فصولاً في تلك الساحات وحيث يتاح له ذلك.

ولذلك كرت سبحة المعارك التي فتحها الحزب راهناً، والتي بدأت باستيراد المحروقات من إيران، وقد باشر بتوزيعها وبيعها وفق صيغة الأمر الواقع. بعد وصول قوافلها عبر المعابر غير الشرعية، وسط صمت مطبق من المسؤولين على المستويات كافة. ثم كان التهديد للمحقق العدلي بإنفجار المرفأ بهدف إقفال الملف، وقطع الطريق امام استكماله وإلحاقه بسائر ملفات الجرائم المقفلة والتي لا حصر لها. وفي سياق التذكير بمسلسل الانتصارات وكسر “الحصار”، وبعد الهجمات الاعلامية على تحركات السفيرة الأميركية، أتى الإنذار الصريح والذي بلغ درجة التهديد المباشر بالانتقال إلى خوض “معركة إخراج النفوذ الاميركي من لبنان واقتلاع مرتكزاته وقواعده ورؤوس جسوره المتشعبة في عمق الساحة اللبنانيية. والإعلان بأن الحزب بات في مرحلة الاستعداد لرفع مستوى المواجهة إلى حدها الأقصى”. أما عملاء وأدوات أميركا في السلطة والإدارة والأجهزة وما يسمى مجتمعاً مدنياً فهم في عداد المهزومين حكماً وليس باستطاعتهم التأثير إو إعاقة مسيرة الحزب.

لكن المشهد الهجومي لم يكتمل إلا مع الزيارة التي قررها وزير الخارجية الإيراني للبلد، لأن المهم فيها ليس لقاء الرؤساء الثلاث أو وزير الخارجية، وليس ما أدلوا به من آراء ومواقف لأنه يقع في باب الخواء السياسي. بل هو ما سمعوه على لسان الوزير المفوض الاعلان عن توجهات السياسة الايرانية في لبنان وله.  وقد عبر عنها معهم وعبر الاعلام بوضوح لا يحتمل التأويل والإبهام، سواء لناحية استمرار كل أشكال الدعم السياسي المادي والمعنوي لبلد شقيق وصديق وحليف، والذي يُقدم لمقاومة حزب الله الذي يمثل لبنان.  ولتأكيد الاستعداد للاستجابة لكل ما يطلبه، فإن بواخر المحروقات مستمرة. وأن إيران لديها كل الجهوزية لتلبية اي طلب من الحكومة والشعب اللبناني ومقاومته. ولذلك فإنها تجدد تعهداتها وعروضها في ميادين التسليح والبنية التحية، بالإضافة إلى رغبتها في توسيع الإستثمارات المشتركة وسوق التبادل التجاري، وهي الآن تعرض على لبنان مشروعي بناء معملي انتاج كهربائي في بيروت والجنوب، وإعادة بناء المرفأ، وهي جاهزة للتنفيذ عندما يُطلب منها بأسرع وقت.

والمفارقة في ما يواجهه لبنان راهناً، أن اطراف التسوية الحكومية، سواء  فرنسا وإيران، أو  حلفائهما المحليين،  مستمرون جميعاً كل من موقعه في التنازع عليه وفيه للسيطرة والهيمنة وتقاسم الإستثمارات والمغانم. ولا يبدو في الأفق أي  مؤشر لإمكانية وقف الإنهيار أو الحد من مضاعفاته. ما يعني أن القادم على البلد هو احتدام الصراعات والمنازعات، لأن الحلول كما التسويات وحتى المؤقت منها، لا تأتي إلا على نيران حامية يشكل البلد مسرحا لها وأهله وقودها.

بين شروط الدعم من قبل الجهات الخارجية دولاً وصناديق، تبحث عن مصالحها الإستثمارية والسياسية، وطلبات الاصلاح التي يقارب تنفيذها حد الإستحالة بواسطة قوى السلطة الميليشياوية الحاكمة وفق قواعد وآليات النهب والتهريب والمحاصصة الفاجرة والاسترهان للخارج. ومع طغيان الدور الايراني وتحكم حزب الله واستقواء العهد بهما، في مقابل رضوخ الاطراف الأخرى، وعجز من يدعي المواجهة منها عن التأثير لأن أسلحته هي الانقسام الأهلي وأوهام  الحياد وتبادل خطابات التخوين. يستمر تصاعد الأزمات وتكاثرها دون أن يجد ضحاياها متنفساً لهم بين تشعباتها. بينما يجد أهل السلطة كافة الوضع مؤاتٍ لمتابعة ما دابوا عليه من استهانة بسيادة البلد ومصالحه الوطنية ارضاً وحدوداً ومصيراً، في موزاة استباحتهم لإنسانية اللبنانيين والمقيمين معهم ولحقوقهم في الحصول على ابسط حاجاتهم وسط انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة.

أما دُعاة الثورة والتغيير، فإن الذكرى الثانية بعد ايام لانتفاضة اللبنانيين المحاصرين بالقهر والفقر والبطالة والمرض…، كفيلة بكشف حساب عجزهم  عن الإحاطة بأزمات البلد، ومدى قدرتهم على تحدي مواجهتها وصوغ مشاريع الأجوبة عليها.

 

 

Leave a Comment