زهير هواري
تربطني بالصديق العزيز الزميل فارس أشتي رفقة عمر مديدة تعد بالعقود من السنين، رفقة وصحبة لم تنقطع يوماً. خلالها كنا وما نزال بهذا الشكل أو ذاك في موقع الإلتزام والصراع نفسه مناضلين من أجل تقدم مجتمعاتنا المحلية الصغيرة والوطنية والعربية. وقد مارسنا هذا الالتزام في كل موقع وموقف دون تردد أو وجل. والتقدم كما نعرفه وناضلنا من أجله أداته الكلمة الصادقة والشجاعة. وخلال هذه السنون قرأت تقريباً كل ما أصدره فارس بدءاً من اطروحته عن ” الحزب التقدمي الاشتراكي ” وصولاً إلى كتاب ينطا مع الأستاذ والصديق الراحل سالم أشتي، وهو موضوع النقاش.
بداية أود القول إنني لم أفاجأ بكتاب ينطا باعتباري من الذين يعرفون ارتباط فارس بها ، ثم إني أعرفها وإن عن بُعد. لم أفاجأ بالكتاب ولا بالمنهج الصارم الذي درج الزميلان على مقاربة موضوعهما من خلاله. وهو منهج أقل ما يقال فيه أنه استعمل كل ما وصلت إليه أيديهما من وثائق ومدونات وصحف وأقوال شفاهية بهدف بناء عمارة هذا العمل الثقافي المميز. وهو ما يكشف عن مقدار الجهد المبذول منهما، قبل الوصول إلى تحقيق مثل هذا الإنجاز، الذي أراه يختلف عن الكثير من المؤلفات التي تدخل في هذا الباب، وتتناول قرى وبلدات ومدن لبنان ، والتي يغلب عليها مع الأسف الطابع الفولوكلوري والسياحي، وليس التاريخي والاجتماعي كما فعل الأخوان أشتي في كتاب ينطا . إذن في بداية الكلام أحيي هذا الدأب في تجميع كل ما له علاقة بموضوع البحث من الصكوك والحجج والروايات بما فيها المهجرية، وصولاً إلى مقتطفات الصحف الصادرة التي تطرقت لهذه القضية أو تلك ، وهو أمر نادر الحدوث، نظراً لأنها عادة ما تهتم بحكي “السرايا” وليس بوقائع ومشاكل “القرايا” كما ذهب إليها الراحل الكبير سلام الراسي. وهذا التنوع في تجميع وتحليل وربط وصياغة الأفكار وبناء النص كما بات يراه القارئ عبر صفحات الكتاب، هو عمل يعادل الأشغال الشاقة، ولا أبالغ بمثل هذا القول ، باعتباري من الذين خاضوا في هذا المضمار، وعلى طريقة الشاعر في قوله :” لا يعرف الشوق الا من يكابده ” . لذلك أحيي هذا العمل والصديقيْن اللذيْن قاما به من كل قلبي وأرى أنه شهادة كبيرة لهما، ووسام على صدريهما.
أوجز اعجابي بالعمل بالوقائع الغنية التي تمكنا من الحصول عليها، والقدرة على استعمالها بسلاسة وبلغة مسبوكة ربطت بين الفصول والموضوعات. وعليه أهنئهما على هذا الحصاد الوفير، وأتمنى مواصلة خط السير هذا لإجلاء صفحات اضافية من صفحات بلادنا وأهلنا.
لا أود أن يذهب بالبعض الاعتقاد أن صداقتي للعزيزين فارس وسالم أعمت عيناي عن رؤية ما قد يكون اعتور هذا العمل من ثغرات، باعتبار أن عين الرضا كليلة وتخفي المعايبا، كما قال الشاعر العربي . ولذلك اسجل مع تثميني للعمل الملاحظات التالية:
- لا داعي للبحث عن مصدر الاسم ( ينطا) للذهاب بعيداً، أي إلى لغات وشعوب بعيدة عن حركية تاريخ البلدة والمحيط بما هو البقاع وسوريا المجوفة أو بلاد الشام. لقد ذهب الباحثان في تنقيبهما عن الاسم إلى كل من اللغات الانكليزية والفرنسية والاسبانية والمكسيكية والآلمانية وحتى إلى الصينية. وهي مبالغة لا لزوم لها، لأن ما ورد كما اعتقد لا يعني سوى تقارب الأبجديات دون أي علاقة حضارية أو لغوية، خصوصاً ونحن نتحدث عن مجتمعات قديمة محلية حيث تكونت فيها الأسماء، سواء أكانت أسماء قرى أو بلدات أو أنهر أو أشخاص. وكان أبرز ما عرفته تلك المجتمعا، خصوصاً الصغيرة منها، هو عزلتها عن العالم الأوسع بالنظر إلى هامشيتها وتخلف وسائل المواصلات والتواصل خلاف ما نحن عليه اليوم.
- لم يقدم لنا المؤلفان صورة واضحة عن انتقال المذهب التوحيدي لينطا ومحيطها في وادي التيم، هل دخلتها هذه العقيدة في عصر الحاكم بأمر الله الفاطمي ومرسليه المبشرين بالعقيدة قادمين من مصر، وماذا كانت عليه مذهبياً قبلها هل هي الاسماعيلية أو القرمطية أم السُنة أم ماذا؟ وما هي العوامل المحددة في تحول منطقة بأسرها تقريباً إلى العقيدة الجديدة، علماً أن عملية التغيير الدينية كما نعلم دوماً تستغرق سنوات وعقود طويلة ولها آليات بالغة التعقيد تبعاً للمجتمعات البشرية.
- حول ينطا وموقعها ورد في العمل أكثر من إشارة إلى قيام عدد من الينطانيين بافتتاح فنادق في دمشق، أو إنهم كانوا يقصدونها لبيع منتجاتهم من الألبان والأجبان في أسواقها … هل هذه الإشارات كافية للدلالة على الانجذاب الريفي إلى المدن القريبة، وماذا تغير بعد قيام دولة لبنان الكبير، والتحول نحو بيروت كعاصمة لهذا الكيان. وعليه ما هي الديناميات الجديدة التي لعبت دورها في تكريس هذا التحول. هل فقط الخارطة الجغرافية أم هناك أسباب أعمق؟ علماً أن ذلك لا ينطبق على السويداء وجبل العرب داخل سوريا التي ظلت على علاقات عائلية ومجتمعية.
- هناك ملاحظة تتعلق بالمصطلحات المستخدمة في النص، فمثلاً يصف الزميلان الحرب الأهلية في لبنان من العام 1975 إلى العام 1990 تارة بالأعمال العنيفة وطوراً بالأعمال العسكرية وغيرها مما هو مشابه. ويتلافيا استعمال مصطلح الحرب الأهلية السائد كونها كانت أوسع من نزاع أهلي داخل مكونات المجتمع اللبناني. أيضاً على هذا النحو يستعملان الأعمال العنيفة في سوريا منذ العام 2011. السؤال هو التالي: هل يعلمان أن هناك حرباً أهلية كانت محلية وأهلية مئة بالمئة؟ أم أن كل حرب أهلية تدخل وتتدخل فيها القوى الاقليمية والدولية لتأمين مصالحها .
- لا يبالغ المؤلفان في الحديث عن الهجرة نحو بلاد الاغتراب، ولكن مصدر مبالغتهما يتأتى من اعتبارها تولت انقاذ القرية من اقتصادها الزراعي الرعوي الضعيف لجهة امتصاص الفائض السكاني المنتج. لكن الا يستوجب الاغتراب قراءة مختلفة تنطلق من الكلفة التي دفعها مجتمع ينطا الذي نتحدث عنه – والمجتمع اللبناني على نطاق أوسع – هنا لإعداد هؤلاء الشباب نحو أسواق عمل بعيدة استقطبتهم جاهزين لبيع قوة عملهم. ثم هل الحديث عن القصور والمباني الحجرية يكفي ثمناً للتغطية على هذا النزيف وإظهار محاسنه ؟!
- هناك الكثير من الروايات الشفهية التي تتردد في الكتاب حول الأصول العائلية، وقد باتت شبه لازمة في كل مكان، وقد لاحظتها عندما عملت على مجتمع المنصورة ـ البقاع الغربي، إذ إن العديد من العائلات تتحدث عن ثلاثة أو أربعة أخوة تركوا مكان إقامتهم لأسباب شتى وتفرقوا على هذه القرية أو تلك، وهكذا تشكلت عائلات تحمل الكنية نفسها أو غيرتها، في مجموعة قرى وليس في قر ية واحدة، وهو ما لا يصح الركون إليه دوماً في البحث بالأصول العائلية التي تتطلب العثور على بيانات ووثائق حول العائلات شبه مفقودة.
- بذل المؤلفان جهداً مشكوراً في تعريف القارئ إلى مجتمع ينطا بما هي عائلات وزواج وعلاقات اجتماعية واقتصادية وتعليمية وتعلمية وسياسية عبر البلدية والمخترة والمشيخة والاحزاب والنوادي. لكن السؤال الكبير الذي بحثت عنه في ثنايا الصفحات هو أين المرأة ودورها ؟ لماذا هذا التغييب لنصف المجتمع؟ واذا كانت غائبة فعلاً عن صخب هذا المجتمع الصغير على مختلف المستويات، الا يثير هذا أسئلة معقدة تتناول البنية المجتمعية وأعطابها التي فرضت تلك العزلة على نصف المجتمع. إذ لا نجدها في العمل الانتاجي أو السياسي المجتمعي المحلي والعام، واقتصر ورودها على ما جاء في بعض الحجج من ملكيات عقارية وبيع مساحات من الأرض أو ما شابه.
- تبقى مشكلة ماثلة في الكتاب تتمثل في كم لا يستهان به من الأخطاء الاملائية والقواعدية، إذ اعتقد أن الزميلين نتيجة تكرار القراءة كان عقلهما الباطن يقرأ الخطأ صواباً لأنه واضح في ذهنيهما، وهو ما يقع فيه معظم الكتّاب والباحثين، ما كان يتوجب قراءات متكررة من آخرين لا علاقة لهما بالمؤلَف لانهم أقدر من المؤلفيْن على معاينة هذه الأخطاء وتصحيحها. وبنطبق مثل هذا الوضع على عدد من الأخطاء في تحديد السنوات التاريخية أيضاً.
- كنت أتمنى أن يشرح لنا الزميلان طبيعة التعليم الخاص الينطاني الذي مارسه عدد من مشايخ القرية ومستوى المعارف التي حصلوا عليها أصلاً ومصدر تعلمهم بالأساس، إذ إن ما أورداه هو القول أن الشيخين داود تمرز ومحمد غيث كان يعلمان بعض الأصول الدينية فضلاً عن التعليم الزمني. وهذا لا يفي بالمطلوب، ولا يضيء على تطور العملية التعلمية التعليمية في البلدة سواء أكانت دينية شرعية أو عصرية.
- تبقى فكرة راودتني وتراودني دوماً وأدعو لها وتتعلق بحفظ تراثنا في ينطا والمنصورة وكل مكان ، إذ إن هذه الحجج والعقود والرسائل والاوراق الرسمية والمدونات القديمة والثياب والأدوات الزراعية هي عبارة عن ثروة محلية ووطنية، لا أرى أنها ما تزال ملكاً لأصحابها، بل للمجتمع، ومع أني أعرف أن أصحابها لن يتخلوا عنها، إلا أني اقترح عليهم تصويرها رقمياً لتأمين سلامتها ووضعها في أرشيف البلدية أو المكتبة العامة، كي تكون من محفوظاتهما في ما يظل الأصل لدى أصحابها. وبذلك تسهل مهمة العثور عليها للباحثين والدارسين الذين سيأتون بعدنا في تأمين الحفاظ على هذه الثروة التي إذا أضعناها أضعنا تاريخنا وكنزاً لا إمكان لاستعادته .
وختاماً يجب تهنئة الزميل العزيز فارس وتثمين الجهد الذي بذله، والترحم على الصديق الراحل سالم، وأهنيء ينطا التي بات لها تاريخ يُعتد به ويُعاد إليه. صحيح أنه مثله مثل كل عمل لا يقطع الكلام، بل أراه على العكس يطلقه من عقاله انطلاقاُ من الإنجاز المتحقق، ما يفتح على تقديم مقاربات متنوعة تثري حياتنا من جوانبها السوسيولوجية والثقافية، ومن خلالها نتعرف على أهلنا في ينطا وغيرهم.
Leave a Comment