*عباس بيضون
يحيى جابر، الشاعر والمسرحي اللبناني، هو اليوم في الذروة. بعد فترة من الانتظار يفاجئنا بأربع مسرحيات دفعة واحدة. ليس سوى مسرح يحيى جابر الآن في بيروت، أربع مسرحيات تسنّى لنا حضورها، أو على الأقلّ حضور اثنتين منها.
ستكون هذه مناسبة لاستعراض الوضع السياسي عن كثب في لبنان. مسرحيات يحيى جابر تبدو، واحدة تلو الأُخرى قراءة في عرض السياسة في لبنان، قراءة لا يخفى الموقع الذي تصدر عنه، إنّه موقع يُشبه صاحبه. خوض بعيد وقريب، في يوميات السياسة، في بنيانها ومنعطفاتها وتركيبها، وقواها ومقدّماتها وخطاباتها، خوض في صلبها، لكن أيضاً في هوامشها. في دعاويها وخطاباتها، لكن أيضاً في أطرافها وتوابعها وjordan 5 gore-tex outlet geox spaccio online von dutch cap benetton saldi jordan 5 gore-tex zapatillas Nike baratas outlet geox spaccio online and camicie donna marsupio mandarina duck penn state football jersey 24 bottle borse ynot blundstone outlet florida state football jersey scarpe ovyè لواحقها. تُقدّم السياسة اللبنانية لجابر مادّة عارمة، بقدر ما هي مستطيلة، باعثة على الضجر وسوء التفاهم والازدواجات والألاعيب والمفارقات والطُّرَف.
إنها باستمرار مُثقلة، وحبلى بالأعاجيب، ولودٌ لتناقضات تقع تحت كلّ بادرة، وكلّ تفصيل، وكلّ عبارة أو شعار أو دعوة. بطبيعة الحال لن يتأتّى ذلك، ولن يكون متاحاً أو موفوراً أو جاهزاً، لمن يُعارك في ميادينها، لمن ينضوي في أحد أركانها، ولمن ينتمي لفئة أو جماعة أو حزب فيها. مثل هؤلاء لن يكونوا مُتفرّجين أو معلّقين أو مراقبين. إنهم عضويون في أحد تجمّعاتها، شركاء في ميدان منها، محاربون في ساحاتها ومعاركها. هؤلاء قد يبدون مجرّد خطباء أو دُعاة، وقد يكونون أصحاب مصلحة في ما يحدث، مصلحة تجذبهم، أو تموّههم، أو تخفيهم وتعمّي عليهم.
جمهور المسرحية كان اجتماعاً لأهل الهامش الذي تمثّله
هؤلاء لهم بالطبع أبواقهم، ولهم أناشيدهم ومدائحهم وأغانيهم ومسيراتهم وهيجاناتهم وحماسياتهم. لهم بالطبع أسماء بارزة، ولهم أيضاً منابر معروفة، ولهم دعاوى وأمثلة يومية، وأهداف وغايات معلنة أو خفيّة. لهم بالطبع قدوات، وأبطال وشهداء. لهم أيضاً جماهيرهم وأنصارهم المُستبسلون في حروبهم. لهم في كلّ جماعة أو طائفة أو منطقة عهود ومواثيق وأقداس. لهم أيضاً كراسيهم، أو ما يُمكن اعتباره قادتهم وأمثلتهم، ما يُمكن اعتباره أيضاً أصنامهم وأوثانهم. إنّهم في ذلك محاربو كلّ يوم، وجنود كلّ ساعة، وهم فضلاً عن ذلك، الكثرة الكاثرة والجمهور الغالب، والسلطات الفعلية والرمزية.
هُم زعماء الظلّ والواقع، وآباء المجتمع وأبناؤه وأحفاده وشيبُه وشبَّانه. يحيى جابر ليس من آباء المجتمع، وليس من أوثانه. إنّه تقريباً في الخارج، لنقُل إنه تماماً من القلّة الأقلّ، الناظرة من بعيد أو قريب، المطرودة إلى الزوايا والجوانب، وربما الشرفات والأعالي. لكنها تملك من هذا الخارج، ليس فقط قدرة أن تراقب وتلاحظ الازدواجات والمفارقات والطُّرَف، بل أيضاً أن تتفاجأ وتتعجّب وتنصدم، وتنقلب على حالها من الدهشة والاستهوال والفظاعة، والكذب الصُّراح، والألاعيب البارزة، والزعبرة والاحتيال.
لنقُل إنّها تحزن لما تراه، لكنّه حزن يستفزّ في النفوس شيئاً غير الدموع، إنه يستفزّ الضحك والسخرية والهزء. إنها مع ذلك قلّة، وهي أيضاً قلّة مُبعَدة ومطرودة، قلّة لم يعُد لها مكان سوى خارج ضيّق، سوى زاوية ما، جانب ما، هامش ما. إنّها قلّة جرى ويجري تجريدها من أيّ قوّة، من أيّ دور، من أيّ فعل. مع ذلك، وهذا هو دور الفنّ، هي من هوامشها قادرة، ليس فقط على أن ترى، بل على أن تتكلّم. بل هي بسبب هذا الهامش الضئيل، بسبب هذا النفي والإبعاد، قادرة على أن تكتشف الألاعيب والمفارقات والأكاذيب، قادرة، ما دام جرى طردُها، على أن تُراقب، من موقع المطرود الوحيد، وعلى أن تخسر وتهزأ وترتجل.
مسرحية يحيى جابر “شو منلبس”، التي تُعرض حالياً على خشبة “مسرح المدينة” في بيروت، هي تماماً من هذا الموقع، من هذا اللّامكان، من الخارج، أو ما يُشبه الخارج. ليس مصادفة أن يكون البطل من الحزب الشيوعي، أي من الحزب الذي جرى طردُه، بالكامل، من الواقع السياسي. الحزب الذي، منذ الحرب الأهلية، يبتعد أكثر فأكثر إلى هامش فعلي، رغم أنّه لا يعترف بذلك، وربّما لا يعيه، أو هو، في نفيه إلى الهامش، يكذب على نفسه باختراع مواقع خيالية وأدوار متوهّمة، لكنّه لا يفعل سوى أن يغدو، أكثر فأكثر، في هامش حقيقي.
نوع من هامش يتظاهر أنّه عضوي، ولا يعترف بهامشيته، وإن يكن، في الممارسة، يزداد بُعداً وخروجاً. لكنه، وهذا جزء من لعبته، لا يزال يظنّ أنّه في الساحة، وقد يظنّ أنّه في قيادتها. الحزب الشيوعي، من الاحتلال الإسرائيلي حتى الاغتيالات، هو ذلك. لكن توهّمه لنفسه ودوره، باعثٌ أيضاً على الهزء والسخرية. هكذا مع بقايا اليسار والليبراليّين، والنخبة المثقّفة يعمر هامشاً، ربما كان جمهور المسرحية منه. هذا الجمهور كان يضحك كلّما ساقت المسرحية مثلاً على التظاهر بالعضوية، أو ساقت أمثلة من التناقض والمفارقة والصنمية وعبادة الشعارات. جمهور المسرحية كان اجتماعاً لأهل الهامش. المسرحية نفسها كانت أمسية لهذا الهامش واحتفالاً له.
مسرحية من ثلاثة أو أربعة، النص قريب جدّاً من يحيى جابر، قربٌ قد يبدو معه سيرة ذاتية. قصّة هذا الهامش العريض، هي أيضاً قصّة العشرات والمئات، ممّن أخرجهم الصراع من الواقع، ورماهم إلى نوع من بطالة، أو بطالة كاملة. النص ذكيّ وسَلس، لكنّه أيضاً قادر على اختراع مسرح شعبي، الشعبي هنا هو تماماً هذا الهامش الذي يتوسّع باستمرار، إنّما ما يميّز مسرحية يحيى جابر، هو حضور بطلته أنجو ريحان، التي تصعد معه، لتكون أيضاً نجمة حقيقية.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 05 أيار / مايو 2024
Leave a Comment