سمير العيطة *
يُنذِر الدعم الرسميّ والإعلامي الأمريكي-الأوروبي للعدوان الإسرائيلي الهمجي على الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربيّة، وبشكلٍ غير مسبوق في حديّة اصطفافه، بما هو أسوأ ممّا وصلت إليه الأمور أصلاً في قطاع غزة، إلى ما لا يُمكِن تحمّله إنسانيّاً.
بالطبع، حشدت إسرائيل كلّ مجموعات ضغطها ونفوذها في وسائل الإعلام ولدى الحكومات الغربيّة للتغطية على مآربها مهما كان هول الجرائم المرتكبة. ولكن وصول الأمور إلى حدّ تجريم مناهضة الصهيونيّة في الكونغرس الأمريكي على أنّها معاداة للساميّة، أي لليهود، وإلى أن يُصبِح دور فرنسا راعية الاستقلال اللبناني هو نقل رسائل تهديد إسرائيليّة إلى من كان يعتبرها “الأمّ الحنون”؟! فلينسحب حزب الله وراء نهر الليطاني أو تدمِّر إسرائيل لبنان! هذا في الوقت الذي تمّ فقدان مقوّمات الحياة لمئات آلاف الفلسطينيين في غزّة والضفّة، وحيث تقصف إسرائيل مطاري دمشق وحلب كلّما أعيد تأهيلهما بعد القصف الذي سبقه. وتخترق بريطانيا سيادة العراق وسوريا بطلعاتٍ جويّة. ومن ثمّ تستخدم الولايات المتحدة حقّ النقض ضدّ قرارٍ لمجلس الأمن لهدنة إنسانيّة بعد مناداة استثنائيّة للأمين العام للأمم المتحدة تحت البند 99 من الميثاق، أنّ الأمن والسلم العالميين أصبحا مهدّدين.
وأمام ضخامة ما بات جليّاً للرأي العام العالميّ من جرائم ضدّ الإنسانيّة والتحضير للأسوأ، تخرج تصريحات مواربة وصلِفة لذرّ الرماد في العيون. بأنّه سيتمّ العمل على حلّ الدولتين. أو أنّ مهلة إسرائيل في الحرب هي لشهر وليس لأكثر. أو أن تتمّ إدانة تصرّفات المستوطنين في الضفّة الغربيّة، دون الجيش الإسرائيلي في غزّة ودون الاحتلال والاستيطان. أو أنّه سيتمّ إرسال المساعدات إلى أهالي غزّة… وكأنّ القضيّة هي صَدَقَة. أو أنّ هذا الأمر أو ذاك “خطّ أحمر”. فما أهميّة كلّ هذه التصريحات إذ لم يتمّ… الآن إيقاف إبادة الفلسطينيين والابتعاد عن الأسوأ الذي يتمّ العمل عليه.
في زمنٍ ليس ببعيد، كثيرٌ ما كان التندُّر عن أنّ الولايات المتحدة انسحبت وتخلّت عن منطقة الشرق الأوسط. صحيحٌ أنّها سحبت، اسميّاً، جيوشها من العراق بعد غزوه ومن أفغانستان. ولكن بعد أيّ دمارٍ حصل في هذين البلدين؟ وهل حقّاً تخلّت عن نفوذها؟ أم سلّمته “لوسطاءٍ” لها؟ وهل سحبت قواعدها العسكريّة العديدة أو أنهت “تعاونها” مع العديد من القوّات المسلّحة في المنطقة؟ وها هي تدعم بجسرٍ جويّ حرب حكومةٍ متطرّفة في إسرائيل، وكأنّنا في حرب تشرين الأوّل/أكتوبر 1973 ضدّ دول.
لقد نسي كثُر، على غرار هنري كيسنجر، قراءة دروس كتاب “الأمير” لماكيافيلي: السياسة هي ضغوطٌ متواصلة ثمّ قفزٍ على فرص. إشعال حربٍ بين العراق وإيران، ثمّ إفلاس العراق، كي تؤخذ الأمور إلى غزو الكويت وحرب العراق الأولى. وماذا كان الثمن في ضبط إسرائيل حينها؟ أن تُلغي الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة قرارها 3379 في 1975 أنّ “الصهيونيّة هي شكلٌ من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. شرطٌ وضعته إسرائيل للمشاركة في “مؤتمر مدريد” للسلام عام 1991 والذي لم يُعطِ شيئاً لا للفلسطينيين ولا للعرب الذين احتلّت أراضيهم.
هذا في الوقت الذي أُشعِلّت فيه حرب المقاتلين السلفيين في أفغانستان لهزيمة الاتحاد السوفياتي، والذين وإن ارتدوّا مع تنظيم “القاعدة” وأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 ضدّ داعميهم السابقين، خلقوا فرصةً لغزو أفغانستان والعراق، بعد عقوباتٍ طويلة أنهكت هذا الأخير.
ثمّ أُفسِدَت طموحات الشعوب العربيّة في “الحريّة والكرامة” إبّان “الربيع العربي” الذي قُضيَ عليه في البحرين حتّى قبل أن ينطلق في سوريا واليمن، ليتحوّل إلى صراعات إقليميّة ودوليّة وحروبٍ بالوكالة وانفلات لميليشيات “سلفيّة” و”إخوانيّة” و”شيعيّة” وإثنيّة قوّضت أسس “الدولة” في كثيرٍ من الدول العربيّة.
وتمّ تأجيج صراعٍ مفتوح سنيّ-شيعيّ، وخليجيّ-إيرانيّ، لا معنى له. كي لا تستفيد إيران كثيراً من تدمير العراق. وفُرِضَت عقوباتٌ أحاديّة الجانب على هذه الدولة أو تلك. وضغوطٌ للتطبيع مع إسرائيل على دول الخليج ولبنان. بعضها أخذ أُكُلُه والبعض ينتظر… الفرصة. كلّ ذلك لأخذ المنطقة برمّتها إلى وضعٍ جديد تصفّى فيه قضاياها الأساسيّة… القضيّة الفلسطينيّة والاحتلال الإسرائيلي بما في ذلك للأراضي السورية واللبنانية… والحدّ الأدنى من السيادة الوطنيّة والتنمية.
ثمّ جاءت الفرصة مع حرب غزّة، خاصّةً وأنّ خسارةً لحرب أوكرانيا باتت تلوح في أفق الولايات المتحدة وأوروبا. هكذا تمّ تحييد القوى الإقليمية. بدايةً من تركيا سوى بعض الخطابات الشعبويّة. وتحييد إيران، سوى عبر التنظيمات الرديفة. وتحييد دول الخليج، تلك المطبّعة رسميّاً مع إسرائيل والأخرى التي لم تطبِّع علناً، سوى عن… الإغاثة. وإلاّ لا مشاريع ضخمة ولا رفاهية ولا استقرار للسلطات القائمة. هذا إن فتح معبر رفح. وتمّ تحييد مصر، رغم أنّ الأمر يمسّ أمنها القومي في سيناء… وتمّ تهميش السلطة الفلسطينيّة وحركة فتح، فلا حول لهما ولا قوّة… وحيّدت السلطة القائمة في سوريا نفسها بنفسها، رغم أنّها تتعرّض للقصف الإسرائيلي والأمريكي… على هامش حرب غزّة.
لكنّ الحشد الإسرائيليّ-الأمريكي-الأوروبي لما هو أسوأ يحصد خسائر أيضاً… لقد سقطت حريّة التعبير أمام القمع الذي تتعرّض له في أكثر البلدان افتخاراً به… وسقطت قيم التعدديّة أمام الانتصار لفكرة أحاديّة دولة احتلال استيطاني… وسقطت قيم “العلمانيّة” خاصّةً في فرنسا التي ينتهك رئيسها قانوناً بالاحتفال تملُّقاً بعيدٍ يهوديّ في القصر الرئاسي في حين يغيب عن قدّاسٍ للبابا تضامناً مع اللاجئين الغرقى… لقد سقط التحجّج بالقيم الديموقراطيّة التي طالما تمّ التدخّل الخارجي بحجّة نشرها… وسقطت الثقة بأنّ الأمم المتحدة وسيلة لتحقيق الأمن والسلام العالميين وليست فقط أداة لبسط هيمنة القوى النافذة بطريقةٍ سلسة!
كلّ ذلك يدفع شعوباً بأكملها نحو الإحباط والتطرّف… ليس كون أنّ هذه الشعوب تميلُ إلى التطرّف، لأنّ فيها مسلمين… بل لأنّ الولايات المتحدة وأوروبا التي برزت فيها هذه القيم من خلال النضالات السابقة لشعوبها باتت هي أيضاً تتجّه نحو التطرّف… ديموقراطيّاً وعبر الانتخابات، كما إسرائيل اليوم. ديموقراطيّة مموّلة من نفس الشركات والدول التي تموّل الاستيطان والحرب الإسرائيليّة اليوم. وديموقراطيّة تحالف فيها اليمين المتطرّف مع الحركة الصهيونيّة للوصول إلى الحكم… وسيصل في كثيرٍ من البلدان التي لم يعد فيها رجالات دولة يجرؤون، مثل وزير الخارجيّة الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان في مجلس الأمن حاشداً الجهود سنة 2003 ضدّ تبرير غزو العراق زوراً عبر الأمم المتحدة.
محقٌّ من يقول أنّه يجب على المسلمين إعادة قراءة الإسلام. ولكنّه محقّ أيضاً من يقول يجب في الولايات المتحدة وأوروبا إعادة قراءة قيم المسيحيّة واليهودية والحريّة والتعدديّة والعلمانيّة والديموقراطيّة والأمن والسلام العالمي… والحدّ الأدنى من الإنسانيّة.
إنّ العبرة في أكثر البلدان تضامناً اليوم مع الفلسطينيين… أي جنوب إفريقيا التي دفع أهلها حديثأً ثمن تلك القيم.
* سمير العيطة: رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب.
* نشر على موقع 180 بتاريخ 11/12/2023
Leave a Comment