ناصر السهلي*
حين أصبحت سانا مارين رئيسة وزراء فنلندا في عام 2019، لم تكن الشابة التي ستتحول لاحقاً إلى موضوع رئيسي في الصحافة الخارجية تبلغ من العمر سوى 34 عاماً.
كان عمر مارين الصغير نسبياً في سدة حكم بلد يصنف الأسعد عالمياً، والبالغ عدد سكانه نحو 5.5 ملايين نسمة، وظهورها بمواقف تقدمية، وكذا حديثها الدائم عن الأمل والتغيير لمستقبل أفضل، وضعها أمام ظروف صعبة كثيرة، خصوصاً في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا والعلاقة مع الجار الروسي، بالإضافة إلى التحولات الداخلية الكثيرة في بلدها، التي كان أهمها خروجها من مرحلة التردد بين الغرب وروسيا لاختيار مقعده في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تنافس مارين في الانتخابات العامة، اليوم الأحد، منتميةً إلى يساريي حزبها الحاكم، الاجتماعي الديمقراطي، في مواجهة “الفنلنديين الحقيقيين” (يمين متشدد، على مستوى حزب “ديمقراطيو السويد” السويدي) و”حزب التجمع” (يمين الوسط)، إذ تمنحها الاستطلاعات نسباً متقاربة من الأصوات تدور حول الـ20 في المائة، خصوصاً أنّ ثمة 13 حزباً صغيراً تتنافس في هذه الانتخابات، من الحزب الشيوعي إلى خلطة من أحزاب ذات ميول فاشية ومعادية للمهاجرين.
وفيما اعتبرتها “تايم” واحدة من الأشخاص “الذين يصنعون المستقبل”، اختارتها مجلة “فوربيس” واحدة من بين أكثر 100 شخصية مؤثرة، ومنحتها أخيراً جامعة نيويورك “الدكتوراه الفخرية”، إضافة إلى إعجاب سكان إسكندنافيا بها.
لكن في المقابل، لا يعني هذا أنّ الأمور ممهدة وسلسة لمارين من أجل الاستمرار في الحكم دون مواجهة التحديات.
وتعتبر “نجمة الروك”، كما يطلقون عليها، “مقاتلة” في السياسة، دون نسيان تأثير خلفيتها الاجتماعية بذلك، وهي التي لم تولد بملعقة ذهبية في الفم، مثلها مثل الكثيرين من الذين انحدروا من أسر بسيطة، حيث عانى والدها من إدمان الكحول، فانتهى بها الحال إلى طفلة من زوجين مطلقين، لتعيش مع والدتها التي أصبحت تعيش مع امرأة مثلية، وتفقد الاتصال بأبيها.
عانت الرئيسة الشابة في صغرها على مقاعد الدراسة بعضاً من العزلة، لكن تنشئتها وتلك المعاناة ستصنعان شيئاً آخر في حياة المراهقة الصغيرة التي لم تكن على ما يرام، بحسب ما قالت لمجلة “فوغ” (Vogue) في عام 2020، إذ “كان هناك صمت حيال ذلك (حياة أسرتها). وكان يمكنني أن أشعر بهذا الصمت”.
لم تنتمِ مارين إلى حزب يساري كلاسيكي، لكنها شقت طريقها في حزب يسار الوسط “يملأها الأمل في تحقيق أحلام بسيطة”، كما كررت السيدة في مقابلات صحافية، فزيادة المساواة في المجتمع وتحسين الرفاهية في دور رعاية كبار السن وفي المستشفيات لم تكونا فقط على قائمة أفكارها اليسارية التي طرحتها أمام الحزب، بل أيضاً ما تسميه “المساواة بين الطبقات الاجتماعية” والاهتمام، كسائر جيلها، بقضايا المناخ والتحول الأخضر والاستثمار المالي الكبير فيه، ليس في بلدها فقط، بل عالمياً.
على الرغم من أن النظام التعليمي الفنلندي يُعَدّ من بين الأفضل أوروبياً، إلا أن مارين تعتقد أنّه يجب توظيف المزيد من المعلمين والمعلمات، في سبيل تعزيز مصلحة التلاميذ ومنحهم المزيد من الاهتمام العلمي والتربوي. وتتهمها المعارضة بأنها اشتراكية يسارية تريد تبذير أموال البلد على مشاريع ستكون ضربة للاقتصاد الوطني وتآكل مجتمع الرفاه برمته.
في عام 2012، اختارت الشابة الترشح لعضوية المجلس البلدي في مدينة تامبيري (غربيّ فنلندا)، وبعد نحو 3 أشهر من هذه الخطوة انتخبت لمنصب عمدة المدينة التي درست في جامعتها. نجحت في احتلال مقعدها فيه بشعارات “النضال من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية”، وسرعان ما اكتشف زملاؤها في “الاجتماعي الديمقراطي” أنها شابة موهوبة، وبشكل خاص لجرأتها وقوة انتقاداتها وحدّتها وقدرتها على ترجمة التزاماتها أمام الناخبين، فقال عنها زملاؤها الشباب إنّها “ما إن تفتح فمها للحديث تجد الناس ينصتون ببساطة”.
هذا الصعود الصاروخي لسانا مارين أوصلها في 2015 إلى البرلمان عن حزبها، لتتحول بعد 4 سنوات فقط (2019) إثر استقالة رئيس الحكومة السابق أنتي رين (من حزبها)، إلى أصغر رئيسة حكومة في تاريخ فنلندا، لتنافس اليوم في عمر الـ38 عاماً على 4 سنوات أخرى من الحكم.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تحكم سيدة فيها فنلندا، إذ كانت الأحزاب الحاكمة الأخرى قد اختارت أربع نساء أيضاً في المنصب سابقاً، لكنها تعتبر محلياً وأوروبياً أولى النساء التقدميات اللاتي يصلن في سن شبابي إلى هذا المنصب، تاركة خلفها إرث “الحذر” الذي اتسمت به مواقف السياسيين حيال الكثير من القضايا، بفعل الواقع الجغرافي السياسي لبلدها، طوال فترة الحرب الباردة، وحتى بعد نهايتها وانضمام فنلندا إلى الاتحاد الأوروبي أواسط تسعينيات القرن الماضي.
ومع ذلك، ثمة من يمقت سانا مارين على مستوى الداخل الفنلندي، إذ لا تروق حدة مواقفها في الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات ورفض رهاب الأجانب بعض الأحزاب من يمين الوسط واليمين القومي المتشدد.
وخلال عام واحد، منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، اضطرت مارين إلى الترفع قليلاً عن مواقفها الإيديولوجية المعارضة للحروب والتسلح عموماً، فيما يزايد عليها البعض بأنها “متراخية مع روسيا”، مع أنها اتخذت مواقف تعتبر الأكثر تشدداً، ونقلت هلسنكي من مواقف “مترددة” إلى مواقف “مبشرة” بعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما حصل أخيراً بتمرير أنقرة للعضوية. فيما يعود لها بعض الفضل في إقناع الفنلنديين بتلك العضوية، ونقلهم من نسبة 19 في المائة إلى نحو 80 في المائة من المؤيدين، وبدعم الجهود الغربية لمساعدة أوكرانيا، وإطلاق مواقف ترى ضرورة “هزيمة روسيا” في أوكرانيا، التي زارتها أخيراً.
في سياق آخر، تعرضت الشابة لما يشبه “حملة” تشهير في أغسطس/ آب الماضي، بعد تسريب فيديو الرقص الشهير. وطولبت باختبار فحص ما إذا تعاطت المخدرات، وتبين أنّ لا شيء يدعم هذه الادعاءات.
وجراء هذا الحملة، لقيت رئيسة الحكومة بالطبع موجة معارضة، لكن موجات التعاطف معها كانت أكبر، وخصوصاً حين صرحت بأنها حتى لو كانت رئيسة حكومة، فهي مثل بقية الناس العاديين تحتفل وتعيش حياتها ببساطة.
وبغضّ النظر عن النتيجة التي سيقررها الشعب الفنلندي في الانتخابات، يبدو أنّ سانا مارين ستواصل عملها دون أنّ تسلم الراية لغيرها، فمن المؤكد أنها لن تكون نهاية قصة شابة سارت بثبات نحو ترجمة مواقفها وخلفيتها التي نشأت عليها في أعلى المناصب السياسية، وفي أكثر اللحظات حرجاً لبلادها.
*نشرت في العربي الجديد في 02 نيسان / ابريل 2023
Leave a Comment