*عمر قدور
كنا أشرنا في مقال أعقب رحيل المناضل السوري رياض الترك إلى اعتقاله أربع مرات في أربع عهود رئاسية، وقد أًشير مراراً في رثاء الراحل إلى أن عمره السياسي مطابق تقريباً لمرحلة ما بعد استقلال سوريا. والراحل بهذا المعنى صار رمزاً يتعدّى موقعه الحزبي، بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف معه. ولأنه كذلك، ومن دون اعتباره منفرداً بهذه المكانة، فهو يقدّم مادة للتفكير تتعداه شخصياً.
اعتُقل الترك أول مرة في عهد الشيشكلي الانقلابي، ثم اعتُقل ثانية في عهد الوحدة مع مصر، والأحرى أنه عهد رجل المخابرات عبد الحميد السراج، ثم كان اعتقاله الأطول الذي قارب العقدين في عهد حافظ الأسد، ليكون اعتقاله الأخير في عهد الوريث. ما يجمع هذه العهود واضح جداً لجهة انعدام الديموقراطية، ولجهة اتخاذ الراحل مواقف لا تروق لها، ومن هنا وبفضل صلابة مواقفه اكتسب سمعته المعروفة والمستحقة كصاحب موقف شجاع.
لكن تغييب السياسة كان بمثابة سمة مشتركة للعهود المذكورة، وهذا ما أصبح رسمياً منذ انقلاب البعث، لتشتد وطأته مع انقلاب حافظ الأسد، وعلى نحو أكثر فظاظة منذ تدخل قواته في لبنان عام 1976. كان النشاط السياسي ممنوعاً رسمياً في دولة البعث ودولة الأسد، وتم القضاء على آخر نشاط في الفضاء العام “غير الحزبي” باستهداف النقابات التي شهدت انتخاباتُ بعضها محاولاتٍ للتمرد على احتكار السلطة في النصف الثاني من السبعينات. وكانت السبعينات قد شهدت إجراءاتٍ استعار الأسد بموجبها أدوات الأنظمة الشمولية “التوتاليتارية”، أو ما عُرف بالمنظمات الشعبية مثل الطلائع والشبيبة… إلخ.
أنهى انقلاب البعث الحريات الإعلامية، وأصبحت البلاد موجودة رسمياً تحت حالة الطوارئ، وإذا كانت المجادلة واردة حول مدى كون حكم الأسد توتاليتارياً على النحو الذي توصف به النازية أو الستالينية، فإنه بلا شك استخدم أدواتهما، وربما تفوّق عليهما في منع السياسة. في المحصلة، هناك سوري محكوم بقبضة لا تترك له متنفساً، وبأدوات سلطة متشعبة تبدأ من طفولته “منظمة الطلائع”، وبأيديولوجيا عليه أن يدّعي الاقتناع بها ولو أتى ذلك كله ضمن عملية تكاذب. بل لقد صار الخروج عن التكاذب المعمم تهمةً، وما صار معروفاً في وقت متأخر تحت مُسمّى “معتقلي الرأي” يكشف حجم التغوّل الذي لا يكتفي بالمعاقبة على الفعل السياسي إذا حدث، وهو بالطبع ممنوع بكافة مستوياته.
تطلق حنة أرندت على الإنسان الواقع تحت هذا النمط من السلطة تعبير “إنسان الوحشة”، وبموجب أرندت فإن إنسان الوحشة هو أسير الأفكار بوصفها مرجعيته، بما أن الواقع لم يعد مرجعية، أو من الممنوع أصلاً التفكير بالواقع “المتحرك بطبيعته” كمرجعية. من جانب آخر، ما تقوله هذه السلطة أن الواقع لم يعد متحركاً، إلا في اتجاه خدمة الفكرة “السامية” التي تحملها، أي أنه ليس متحركاً بموجب الصراعات المجتمعية الداخلية المعتادة. بالمقارنة، لا تُعتبر الأفكار مقدّسة خارج هذا النوع من الأنظمة، بل تُمتَحن بالواقع، وتتطور من خلال اختبارها بالتداول السياسي، ومن الدارج أن يُدرَس تاريخ الوقائع والأفكار معاً.
امتناع السياسة يجعل إنسان الوحشة يستنتج فكرة من فكرة، من دون أن تمرّ الفكرة في الواقع قبل عودتها إليه أو عودته إليها. ولا غرابة تالياً في أن ما نعرفه عن حقبة مديدة من تاريخ سوريا يكاد يكون تاريخاً للأفكار، لا لجدل الأفكار والوقائع بالمعنى المؤثّر لكلمة وقائع. الواقعة الأبرز داخلياً كانت المواجهة المسلّحة بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين والسلطة، ومن المفهوم أن المواجهة العسكرية ليست من السياسة مهما كانت أسبابها أو مبرراتها. ولعل المفارقة هي أن الإخوان كانوا الجهة الأقرب إلى ممارسة السياسة لقدرتهم على استغلال الجوامع والجمعيات الإسلامية في العمل الدعوي الحزبي، مع التنويه بأن فكرة التبشير الأيديولوجي لم تكن حكراً عليهم، بل احتلت المساحة العظمى من العمل الحزبي بسبب منع النشاط السياسي المعارض.
نحن غالباً لا نفكّر في أن شخصاً مثل رياض الترك عاش ثلاثة أرباع قرن من الاهتمام بالسياسة والانشغال بها، ودفع باهظاً ثمن ذلك كله، لكن من دون أن يكون قد مارس السياسة فعلاً. ومن المحتمل جداً أن تُفهم هذه الإشارة انتقاصاً من الرأسمال الرمزي للراحل، مع أنها تصف الواقع الذي لا جدال حوله، فاتهام البعث والأسد بالقضاء على السياسة هو من أكثر المقولات رواجاً، ويستحق تقصّي أثاره، ومنها أن التجديد في الفكر السياسي لا يحمل سمة المشروع العام بما أن الفكر نفسه قبل التجديد وبعده محروم من فرصة المنافسة والاختبار في الواقع. وبسبب العامل الأخير لن يكون هناك متسع للسؤال عن الجدوى، بوصفه سؤالاً في صميم السياسة الممنوعة!
ما تقوله أرندت عن إنسان الوحشة ليس وصمة لضحايا هذا النوع من الأنظمة، وليس خياراً لهم أصلاً؛ هذه نتيجة حتمية لسيطرة السلطة على الفضاء العام بأكمله. وقد شهد السوريون نتائج محاولتين لانتزاع مكان عام، أولهما بظاهرة المنتديات فيما عُرف بربيع دمشق، وانتهى بإغلاقها واعتقال عدد من الناشطين فيها، والثانية كانت بنزول المتظاهرين ربيع عام 2011 لاسترداد حقهم في الشوارع والساحات حيث قوبلوا بالرصاص. في المرتين مُنع السوريون من ممارسة السياسة كوسيلة تفاعلية لتبادل الأفكار وإنضاجها، ولأسباب مختلفة في كلّ من المرتين كان هناك تهرّب من “تهمة” السياسة، وكان النظر إليها سلبياً بما يمكن عدّه نجاحاً لعهود الحرمان منها.
ربما يكون لرياض الترك فضل التحريض على مقاربة ما يُروى عنه لمناسبة رحيله، وخاصةً التركيز على كونه سياسياً، وعلى كونه تالياً قائد تغييرات في الحزب وصاحب رؤى غير تقليدية. فالراحل بالتأكيد كان صاحب انشغال وموقف سياسيين بما لا يتناسب إطلاقاً مع مصادرة السلطة للفضاء العام في سوريا، المصادرة التي لم تسمح له بأن يصبح سياسياً. هذه الفجوة الهائلة بينه وبين الواقع المؤسف جديرة بالانتباه كي لا يُنسى جذر الكارثة الجماعية.
ذلك الجذر لم يتوقف عن النمو في جهة الثورة بعد انقضاء حماسة البداية، لتبقى السياسة ممتنعة خلف العديد من الذرائع، وليعود معها تحليل حنة أرندت صالحاً لفهم النتائج المديدة لعقود تأثيم السياسة. من تلك النتائج ندرة الكفاءات السياسية، وتقديم نماذج من الهيئات والقيادات ساهمت في تعزيز النفور من السياسة، ومنها أيضاً الانقطاع المبكر للحوار العام، وأشدّها مرارةً نموذجُ السوري العائد إلى وحشته بيأس وتصميم.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الإثنين في 2024/01/15
Leave a Comment