المؤلف: جنكيز تشاندار / ترجمة ترجمة: أنيس محسن
سوريا مسرح لقوة روسيا العظمى
وعلى الرغم من هذه الأرقام الملموسة، فإن هناك تقريباً إجماعاً في الآراء، وخصوصاً في العالم الغربي، على أن روسيا عادت لتكون قوة عظمى ذات قدرة عالمية. وفي أغلب الظن، نشأ هذا التصور الغربي المضلل – إن لم يكن المشوَّش – عن نجاح روسيا في حجز مكانة لها في مجال السياسة الخارجية، والذي ظهر جلياً في الشرق الأوسط، وفي المقام الأول عندما تدخلت روسيا في سورية في سنة 2015، مانعة هزيمة نظام بشار الأسد، ومؤدية دوراً أساسياً في بقاء هذا النظام، على الرغم من تشرذم البلد. ويعبّر ترينين عن هذا الأمر بقوله: “لقد أنقذ هذا التدخل نظام الأسد، وقلل من احتكار الغرب الفعلي للعمل العسكري في المنطقة بعد الحرب الباردة، الأمر الذي يبعث على الأسى وخيبة الأمل من جانب الولايات المتحدة وأوروبا. لقد كان التدخل في سورية مؤشراً إلى عودة موسكو كقوة عظمى.”
وفي المقابل هناك مَن يعتبر، وعن حق، أن الحديث عن نجاحات في السياسة الخارجية لروسيا، استناداً إلى دورها في سورية، جرى تضخيمه، وخصوصاً أن نشاط روسيا في سورية في سنة 2015 تزامن مع إحجام الرئيس الأميركي باراك أوباما عن التدخل، إذ إنه، وتحت ضغط مشاركة الإدارة الأميركية السابقة المُكْلفة في العراق المجاور، أظهر أوباما أقصى درجات الحكمة في الحرب في سورية.
فضلاً عن ذلك، فإن الوجود الروسي الشامل في سورية لا يعود فقط إلى استغلال فلاديمير بوتين لتهاون أوباما في التعامل مع سورية، بل لأن الأول وضع أيضاً سياسة حكيمة أعطته اليد العليا في سورية التي كانت فعلاً، الشريك الاستراتيجي لموسكو منذ سنة 1956. ففي أعقاب حرب السويس في تلك السنة، بدأت مبيعات الأسلحة من الكتلة السوفياتية إلى سورية، وشُرع في تدريب الجنود والطيارين السوريين في بولندا ثم تشيكوسلوفاكيا، واعتباراً من سنة 1971 فصاعداً، بدأت السفن الحربية السوفياتية والغواصات تستخدم ميناء طرطوس، كما وقّع البلدان معاهدة للتعاون الاستراتيجي. وعلى هذا، لا ينبغي لنا أن ننظر إلى النشاط الروسي في سورية في سنة 2015 باعتباره ظاهرة جديدة تدفع موسكو إلى “مركز القوة العظمى”، بل علينا أن ننظر إليه باعتباره استمراراً للالتزامات السوفياتية تجاه دمشق من جانب الدولة التي ورثت الاتحاد السوفياتي.
ومن الجدير بالذكر، أن الإنجاز الروسي المزعوم في مساعدة بشار الأسد على البقاء ما كان له أن يتحقق من دون الدعم العملي الذي تقدمه إيران وحزب الله اللبناني للنظام السوري، إذ لا يكفي الدعم الجوي الذي تقدمه روسيا إلى النظام في استعادة المناطق التي خسرها، من دون الدعم الأرضي الذي تقدمه إيران والحزب.
ويحاجج راجان مينون، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة مدينة نيويورك، في مقالة مثيرة للجدل عن السياسة الخارجية، تقييم ديميتري ترينين بشأن دور روسيا في سورية، ويقول في المقالة المؤرخة في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 2019، وتحمل عنوان “روسيا تخسر في الشرق الأوسط وحول العالم ” : روسيا لم تفز في سورية. وفي جميع الأحوال، لا توجد جائزة كبيرة، فإعادة الإعمار في البلد الذي بات جزء كبير منه مجرد أنقاض، قُدرت تكلفتها بمبلغ 250 مليار دولار أميركي – أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السوري في سنة 2010، وفقاً للبنك الدولي، وهو مبلغ يتجاوز ما تستطيع روسيا تحمّله. أمّا بالنسبة إلى مبيعات الأسلحة الروسية المربحة في المستقبل إلى سورية، فهناك سؤال بسيط هو: كيف سيدفع الأسد ثمنها؟.
وإلى جانب سورية حيث تتجلى صورة موسكو كقوة عظمى في الشرق الأوسط، فإن نشاط السياسة الخارجية الروسية كان دائماً ضخماً في الأجزاء الأُخرى من المنطقة، ولم تشهده حتى فترة الاتحاد السوفياتي. فروسيا موجودة في ليبيا ومصر والخليج والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، غير أن المكاسب التي تزعم روسيا أنها حققتها في بقية دول الشرق الأوسط كانت مضخمة أيضاً. ففي ليبيا، كان دعمها لخليفة حفتر، العسكري القوي، من خلال منظمة القوات شبه العسكرية الروسية المعروفة بمجموعة فاغنر، وعبر اللاعبين الإقليميين مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، لكن هذه الدول، إلى جانب المملكة العربية السعودية، كانت هي صاحبة النفوذ الأكثر والحصة الأكبر في ليبيا.
على موسكو أن تُقنع بسياساتها مصر ودول الخليج، أصدقاء الولايات المتحدة والغرب، أخذاً في الاعتبار التحول السريع في العالم من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب في عصر ما بعد الحرب الباردة. إن روسيا تمثّل قيمة لدول الشرق الأوسط من ناحية تحقيق مصالح تلك الدول على النحو الأمثل، وليس لتكون بديلاً من الولايات المتحدة. وفي هذا السياق أكد مينون، في مقالته عن السياسة الخارجية، أن:
بالتأكيد لعب بوتين أوراقه بشكل جيد، لكن عندما يحين وقت الحسم، فإن هذه الدول كلها ستظل تعتمد على الولايات المتحدة وترتبط بها ارتباطاً أوثق. ولا أحد يستطيع أن يقايض الصلة الأميركية، على الرغم من عيوبها، بالخيار الروسي.
إن صلات روسيا بإسرائيل يجب أن يتم وضعها على الطاولة أيضاً. فالناطقون بالروسية في إسرائيل يمثلون الكتلة الشعبية الأكبر، إذ إن هناك نحو 1,500,000 إسرائيلي ناطق بالروسية من مجمل عدد سكان إسرائيل البالغ 8,700,000 نسمة، أو ما نسبته خُمس السكان تقريباً. وقد عكس ذلك نفسه في المجال السياسي عبر ارتباط روسيا بوتين بعلاقات جيدة نسبياً طوال أعوام من عمر سيطرة نتنياهو على الحياة السياسية في إسرائيل، خلافاً لطبيعة العلاقة التي كانت قائمة خلال العهد السوفياتي. لكن مثلما هي الحال بالنسبة إلى علاقات موسكو بالدول العربية، وعلى الرغم من النواحي الإيجابية، فإن علاقة إسرائيل بروسيا ليست بالقدر نفسه من أهمية علاقتها بأميركا، كما أن روسيا لن تحل محل الولايات المتحدة في علاقتها بالدولة اليهودية.
قبل بضعة أسابيع من مقالة مينون، نشر باحث أميركي آخر، وخبير بشؤون أوكرانيا وروسيا والاتحاد السوفياتي، هو ألكسندر موتيل، مقالة في “فورين بوليسي” (Foreign Policy) في 28 تشرين الأول / أكتوبر 2019، بعنوان: “ربما يريد بوتين أن يكون إمبراطوراً، لكن روسيا ليست قوة إمبراطورية”، جاء فيها:
بالنسبة إلى مراقب في سنة 2019 ، قد يبدو الأمر كأن روسيا كانت دوماً – وسيكون لديها دوماً – مصلحة ثابتة في الحفاظ على السيطرة الاستبدادية في الداخل، والسيطرة الإمبراطورية في الخارج… ومثلما يعلم أي شخص يقدّر التاريخ الروسي، أو أي تاريخ آخر، فإن أي دولة لا تستطيع أن تحافظ على مصالح متطابقة على امتداد تاريخها، لأن الدول والمناطق المحيطة بها تتغير دوماً. فروسيا اليوم ليس موسكوفي (موسكو باللاتينية، وكانت تُدعى كذلك عندما كانت دوقية) كما كانت قبل 600 عام، والمغول ليسوا الغرب، كما أن بوتين، وعلى الرغم من بعض التشابه السطحي، ليس إيفان الرهيب. إن الثبات هو مجرد خرافة، بينما الجغرافيا والاستراتيجيا لهما الأهمية. وفي المحصلة، فإن السياسة الخارجية أصبحت تتشكل من الجغرافيا السياسية، والمصالح القومية والأيديولوجيات، وكذلك من نموذج النظام السياسي، وشخصية القائد، والتوقيت التاريخي، والسياق، وعناصر أُخرى كثيرة.
روسيا بين التركة وضعف بوتين
إن فهم السياسة الخارجية الروسية يتطلب دراسة تطورها التاريخي، وهو ما يعني، في المقام الأول، النظر إلى روسيا المعاصرة باعتبارها وريثة الإمبراطورية السوفياتية – الدولة ذات المركزية العالية، حيث حدد المركز الروسي السياسات الداخلية والخارجية للجمهوريات غير الروسية – ونتاج الانهيار المفاجىء لتلك الإمبراطورية.
لم تتغير أساسيات ذلك الجدل في سنة 2021. فقد نشرت “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) في إصدار أيار / مايو – حزيران / يونيو 2021، مقالة لافتة للنظر لتيموثي فراي، أستاذ السياسة الخارجية ما بعد الاتحاد السوفياتي في جامعة كولومبيا، يعكس عنوانها الإشكالي العنصر اللغزي لروسيا، وقائدها غير المتنازع عليه بوتين، وهو: “الرجل القوي الضعيف في روسيا: الصفقة الخطرة التي تُبقي بوتين في السلطة”، جاء فيها:
لقد انبهر بوتين بالطفرة الاقتصادية التي يغذيها النفط، والتي رفعت مستويات المعيشة بشكل حاد في العقد الأول من حكمه، وتسببت بموجة من المشاعر القومية في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم في العقد الثاني. لكن مع بداية زوال الاهتمام بهذين الإنجازَين، أصبح بوتين في العقد الثالث من ولايته يعتمد بشكل متزايد على القمع لتحييد المعارضين الكبار والصغار على حد سواء. ومن المرجح أن يشتد هذا الاتجاه مع تصاعد مشكلات روسيا، الأمر الذي من شأنه أن يعجّل في حدوث دورة من العنف السياسي والضائقة الاقتصادية التي قد تؤدي إلى إحباط طموحات بوتين في أن تكون روسيا قوة عظمى…
وجذبت هذه المقالة الانتباه إلى معضلة بوتين (وروسيا) فيما يتعلق بالسياسة الخارجية أيضاً، إذ يقول الكاتب في هذا السياق: إن السياسات اللازمة لتوليد الدينامية الاقتصادية (فتح الاقتصاد أمام التجارة الخارجية، والحد من الفساد، وتعزيز سيادة القانون، وزيادة المنافسة، واجتذاب الاستثمار الأجنبي)، يصعب أن تتلاءم مع سياسته الخارجية الحازمة التي استفادت منها الجهات المتشددة في وكالات الأمن والشركات المتنافسة على الاستيراد. صحيح أن سياسة الكرملين الخارجية الأكثر مواجهةً للغرب، نجحت في استعادة موسكو كقوة عالمية، وفي تأمين مكانة بوتين في التاريخ الروسي، لكنها أعاقت أيضاً الإصلاحات الاقتصادية الضرورية جداً، والتي من شأنها أن تعزز وضع البلد في الخارج على المدى الطويل، وترضي المواطنين الروس الذين هم في معظمهم، ووفقاً لاستطلاعات الرأي، يهتمون بمستويات معيشتهم أكثر من مركز القوة العظمى لبلدهم.
يمكن اعتبار هذه الأسطر بمثابة خطاب عن “روسيا اللغز” أو “لغز روسيا”. فمع إصلاح العلاقة الأميركية – الأطلسية في أعقاب خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، وتركيز جوزيف بايدن على “عودة أميركا”، وإعطائه الأولوية لقضايا حقوق الإنسان على عكس سلفه، فإن صورة روسيا المستجدة ذات القوة العظمى قد تتأثر سلباً.
وفي المحصلة، قد لا نرى بعد الآن روسيا التي اعتدنا رؤيتها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبغضّ النظر عمّا قد يجلبه هذا المستقبل المحتمل، فإنه ربما لا يبدد “لغز روسيا”.
*نقلاً عن مقالة خاصة بـ ”مجلة الدراسات الفلسطينية نشرت في العدد 127 – صيف 2021 والكاتب هو صحافي وكاتب تركي.”، وعنوان المقالة الأصلي هو : “Russia, The Enigma: No more an Empire, Always Imperial”.
الحلقة الثانية والاخيرة.
Leave a Comment