سياسة

رحيل حسين الحسيني آخر حكماء الكيان والنظام: عوقب مرات كثيرة واعتمد الصمت مع انهيار الهيكل

زهير هواري  

ارتاح حسين الحسيني في تراب شمسطار الذي أتى منها. ترك وراءه بلداً مشلعاً من راسه حتى أخمص قدميه. كل ما فيه يدور على نفسه في لعبة تشبه الروليت الروسية. مع فارق واحد أن المسدس محشو بكامل الطلقات، وليس بطلقة المصادفة الوحيدة التي تقرر الحياة والموت. فقط مهمة المنتحر أن يضغط على الزناد ليسقط قتيلاً. رحل حسين الحسيني بعد صمت طويل، وهو يرى الطائف الذي وُصف أنه صانعه وعرابه وأبوه الروحي يتفرغ من مضمونه. ويتحول إلى محاصصصة سافرة تنزع من ضرع البلاد الحليب ثم الدم. ومع هذا الطور ترفض الطبقة السياسية المهيمنة محاولة اجتراح حلول الحد الأدنى التي تحفظ البقاء، بينما تتهاوى المؤسسات السياسية تشريعية وتنفيذية وقضائية وخدماتية معاً أو واحدة بعد الأخرى. ما يجري  جعجعة معارك قيادة الكيان والدولة إلى حتفهما على وقع تدمير ما سبق وتم بناؤه من مقومات عيش وبقاء. الآن والآن فقط، باستطاعته أن يرتاح من الأثقال التي حملها على كتفيه، وذهب دون أن يستطيع أن يواجهها سوى بصمته الحكيم.

وصفه الكثيرون بأنه صانع الطائف وخازن أوراقه ومداولاته، ولكن الحقيقة أنه أكثر من ذلك بكثير، فالرجل واحد من حكماء الوطن الذي يدرك ملياً موازين القوى، وكيف تشتغل ومدى ما يستطيعه. وميزانه دوما هو الدستور والدولة وانتظام عملها وقدرتها على جبه التحديات. ودوماً كان في صف الدولة على حساب المسوخ التي تشبه الدويلات المفرغة من أي مضمون. كان يدرك أن مسار تفريغ الدولة من مهمتها، هو الموضوع الذي يجب أن يخاض الصراع  لمنع  حصوله. وأن المصلحة العامة يجب أن تعلو على مصالح الفئات ودهاقنة الطوائف وحيتان المال وأصحاب الرساميل. لذلك سعى جاهداً لإبقاء شعلة فكرة لبنان متوهجة. لم يترك مسعى الا وبذله، وعندما أعيته الحيلة قرر الانسحاب والخلود إلى صمته. وتخلّى عن عضوية المجلس النيابي وأطلق من على منبره صيحته المدوية قائلاً: “نحن أمام حقيقة أن السلطة قادرة إذا أرادت، وحقيقة أنها حتى الآن لا تريد، (لذلك) أعلن استقالتي من عضوية هذا المجلس”. جمع أوراقه وخرج مع كلماته دون أن يرف جفن للممسكين بزمام الأمور.

وحسين الحسيني الذي يوصف بأنه الأب الروحي لوثيقة الوفاق الوطني ومعه وعنده كل المداولات التي شهدتها أروقة وطاولة اجتماعات الطائف يعتبر ان “وثيقة الطائف صُنعت في لبنان”. ففي حديث صحافي نُشر في تموز 2018، قال: “الامر الحقيقي هو ان اتفاق الطائف تم العمل عليه في لبنان وليس في الطائف (…) بسبب الخلاف المزمن بين اللبنانيين على الهوية الوطنية وعلى الانتماء العربي، لم تتوضح طبيعة نظام الحكم في لبنان، كما لم يتمكن الافرقاء اللبنانيون من تحديد “الهوية الوطنية”، وعبارة لبنان “وطن نهائي”(…) انما الاتفاق صُنع في لبنان لا في السعودية. وفي الطائف توافر الاجماع العربي والدولي له”.

لذلك رأى أن ما يجري تطبيقه ليس هو الميثاق الذي بات دستوراً، بل الاتفاق الثلاثي الذي كتبت حروفه وكلماته في دمشق، ووقعت عليه الاطراف المكونة له، ووضع البلاد في عهدة الوصاية السورية التي أرادت الاتفاق والوفاق الوطني على الشاكلة التي تؤبد قرارها السياسي ووجودها المادي. وهو ما رفضه دوماً وأبداً، فقد كان يدرك أن لبنان لا يمكن أن يسير ويبقى على قيد الحياة على هذا النحو الذي تتقاسمه القبضة السورية مع الطبقة الحاكمة، التي لا ترى أبعد من مصالحها الفئوية. ولأن حسين الحسيني لم يلتحق بالركب المسيطر عوقب مرة ومرات. عوقب عندما رفض تحويل حركة أمل إلى مطية لاجتثاث ما تبقى من الوجود الفلسطيني في لبنان بعد الغزو الصهيوني عام 1982، وعوقب لأنه رفض التوقيع على قوننة شركة السوليدير وإباحة الوسط وأملاك اللبنانيين للشركات المساهمة ورأس المال الريعي، وعوقب ثالثاً لأنه رفض الانتقاص من أهمية الدولة وانتظام حياتها السياسية ومؤسساتها.

رحل حسين الحسيني ولم يقل الكثير مما يعرفه ويراه ليس عن الطائف فقط، بل عن تموضع الطوائف وسيطرتها على الدولة، وإخضاع مقدراتها لمنافعها الرخيصة وارتباطاتها. وتبادل الادوار بين الداخل والخارج على هذه المهمة القذرة التي نغرق في تفاصيلها الآن، ولا نجد مخرجاً منها… ويدور معها الفراغ على نفسه في حكاية لا نهاية لها. الأبرز منه هو ذلك التلاعب القاتل في قصة تفجير المرفأ. قالقتلى معروفون بالأسماء والصفات والاحلام، والمتهم يتلطى بالمواد القانونية التي تتطلب امتثاله أمام القضاء كي يثبت براءته أو تجريمه أمام قوس العدالة.

في رحيله علَّق مجلس النواب اجتماع جلسته الثانية عشرة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية المحكومة بالفراغ، ولو سئل الحسيني رأيا لأفتى بوضوح بعقدها شرط الا تنتهي إلا مع اختيار رئيس بالمواصفات التي يراها. رئيس يقود إلى تغليب الكيان والدولة والهوية وانتظام الحياة السياسية واهميتها في زمن التلاعب بالتوازنات الداخلية، والتدخلات الخارجية على موقع لبنان ودوره ووظيفته، واستمراره وطناً له دستوره وقوانينه الضامنة. كان الحسيني يدرك أن الزمن هو زمن الميليشيات التي ارتدى بعضها ربطات العنق، وبعضها الآخر لم يفعل. لذلك انزوى في بيته يقرأ مزاميره على من يقصده مسترشداً برأيه ومواقفه، وحرصه على الدولة في زمن انفراط عقود الدول في المحيط، بما فيها تلك التي كانت ممسوكة بقبضات من حديد الجيش وأجهزة الأمن ومنوعات المخابرات.

يشابه سلوكه مع الاختلافات في المواقع، مع ما فعله الأمين العام لمنظمتنا منظمة العمل الشيوعي سابقاً القائد الراحل محسن ابراهيم عندما أطبقت قبضة عنجر والبوريفاج على البلاد، وعزَّ وجود المعارضين والمعترضين. إنكفأ ومعه المنظمة، باعتبار أن الزمن هو زمن رشاوى المال ومنوعات القتل على الماضي والحاضر والمستقبل كما قال للصحافي غسان شربل، فيما حركة الاعتراض والمعارضة تلفظ أنفاسها. كان الحسيني يدرك أن الزمن لم يعد زمنه، وأن الطائفة بثنائيتها تسير عكس ما يرتجيه منها ومن سواها. لذلك آثر الصمت وانسحب من المشهد، فلم تعد الأمور تقاس بموجب مواد الدستور والقوانين والصلاحيات، بل باتت مرهونة برغبة ومصالح كل من له ظفر وناب.

غاب حسين الحسيني وقبله محسن ابراهيم وفؤاد بطرس وغسان تويني وكمال جنبلاط وحتى بيار الجميل وكميل شمعون ورشيد كرامي وباقي رجالات الدولة وحكماء الكيان، الذين كانوا يرون أن هذا البلد يستطيع البقاء والصمود في زمن العواصف. مع رحيله فقد اللبنانيون دستورياً وكيانياً وقانونياً كبيراً، وباتت الشعبوية والانتهازية أعلى صوتاً من ذي قبل. ويبقى الرهان على أولئك الذين انتفضوا في الـ 17 تشرين من العام 2019 في استعادة بوصلة الوطن إلى ما يتوجب الحفاظ عليه ضمانة بقائه، ومواصلة رسالته التي تغرق في جدل نصاب انتخاب الرئيس، ومدى صلاحيات حكومة تصريف الاعمال وحدوده السياسية والدستورية، بينما السفينة تغرق بمن فيها وعليها. وضع لبنان يشبه مشهد في فيلم “التيتانيك” عندما تبدأ “السفينة التي لا تغرق” تهوي إلى القاع فيما الموسيقيون يتابعون العزف على آلاتهم… عزف لحن الموت القاتل.

وداعاً حسين الحسيني آخر الكيانيين والدستوريين والقانونيين والمستقلين الكبار في زمن الأتباع من الصغار والصغائر.

Leave a Comment