ثقافة

رحل.. المتصوف في “تكية ” الفكر والممارسة / محمد حيدر

    ولد في أسرة زراعية جدُّ متواضعة، والده مزارع طيب القلب بسيط كما الأرض. لم ينجح في الزراعة، لكنه نجح في أن يكون شبيهاً بـ “طانيوس شاهين”، فهو يتمتع بحنجرة قوية وعالية ، ونزقٍ فطري ضد الظلم في ما يتعلق بمشاكل بلدته، من توزيع المياه أو الكهرباء المحليتين… كان يكفي أن ينزل إلى السوق ويدعو للانتفاضة ويطلق شعاراته .. حتى أنه سمي بـ “أحمد سعيد” مذيع  إذاعة “صوت العرب” المعروف آنذاك.

الأم سيدة، ذكية وقوية، وقادرة.. شكلت مع ماكينة الخياطة التي تملكها قطعة واحدة، ادارت شؤون البيت وتربية الاولاد بمهارة.. حازت لقب الأم المثالية على مستوى البقاع من إحدى الجمعيات.

 الوالد والوالدة كلاهما مميزان.. لا شك في أن خالد، ورث عن أمه صلابته المعهودة، مع إرادة التحدي والمواجهة. ومن والده  طيبته، في خلطة رائعة متشكلة من طهرية الأوهام… زد عليها طهارته الفطرية من حيث أنه أيضاً وريث ذاته، وهذا سيكون معطوفاً على طهرية عقيدة… ما سيجعل هذا الفتى الرقيق العظم واللحم، يبدو وكأنه مارد أو قطعة من الفولاذ.

  لعلها كانت السنة الأولى في المرحلة المتوسطة، حين دخلنا الصف بعد فرصة الساعة العاشرة، لنفاجأ بشرائط ورقية زهرية اللون. كُتب عليها “حركة القوميين العرب”. قرأناها، وكانت رسالة عشق… وقضية عشق حملناها. وتكونت مجموعة قب الياس، ثم المنصورة، ثم سعدنايل.. وكان زمان..وصار زمان، حملنا قضية وعشقناها.

وكما يحدث في كل تجمع بشري فيه حاجة إلى التغيير، فإن طبيعة العمل تفرز القادة. وحين تحتاج الأمور إلى بطل يظهر البطل…

 كان خالد الأكثر جدية وحزماً. انكب على المطالعة السياسية، وسماع الأخبار والتعليقات. وزود نفسه براديو “ترانزيستور” صغير، وتعودنا الصمت لسماع نشرات الأخبار.

كانت معظم اجتماعاتنا في “التكية”، وهي غرفة صغيرة من طين كانت نصف بيته العائلي، وقد خصصتها له الوالدة، لأنه كان فرس رهانها ومحط احلامها..

في هذه “التكية”، أنجز خالد مقاماته الصوفية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالتصوف قد يتم الدخول إليه من البوابة الدينية أو الفلسفية، أو الأخلاقية. وفي اعتقادي أن خالد كان ومنذ زمن بعيد قد وفّى بالشرطين الصوفييْن العقلي والفلسفي. وإلى حد كبير، كبير كان قد أطفأ وأخمد بسهولة الكثير من  طبيعته البشرية، ومضى إلى المقام الأسمى.. وهو الحب- والمحبة- والعشق.. الحب الكامل المبرأ من شوائب الذات والأنا – الحب الصوفي المعرَّف: “أن تعطي كلك حتى لا يبقى لك منك شيء”.

طيلة حياته لم يعش لنفسه قط.. ولم يمالىء أحداً، ولم ينافق أحداً، بل كان يوبخنا إذا لاحظ ذلك من أحدنا.. لم يرحم أحداً حتى نفسه…

في العام 1968، داهم “المكتب الثاني”، بيوتنا، بعد توزيع منشورات تهاجم السلطة لموقفها المتخاذل من الهجوم الاسرائيلي على مطار بيروت. واضطررنا لتسليم أنفسنا في ثكنة أبلح العسكرية. كنت  أنا وخالد ونديم غزال..  أحالونا إلى ضابط برتبة كولونيل، وعندما بدأ التحقيق معنا، عاب فيها على المدرسين الأساتذة الثلاثة الذين سيحملون رسالة الوطن، ويدعون للأخلاق وتطبيق الأنظمة، ما يفعلونه من تهجم على الدولة اللبنانية. لكن خالد انفجر في وجهه غاضباً قائلاً له “نحن مواطنون شرفاء اعطينا عمرنا  للقضية الوطنية والقومية، لكن الدولة هي التي تخون شعبها ولا تدافع عنه، وأنتم الجيش أداة بيد هذه السلطة”.

حين عُيِّن رئيس دائرة في وزارة الاقتصاد وصادف أن غاب مساعده، دخل إلى دائرته محاميان وتركا ظرفين فيهما الرشوة المعهودة، صرخ بهما طالباً منهما الخروج وعدم العودة. وثارت ثائرته، فهاجم الإدارة بدءاً من الوزير والمدير العام.. إلى مساعده، فكان الرد في نهاية الشهر حسم جزء من راتبه. كان رده أن أعاد  الهجوم على الوزير والمدير العام، فتم نقله بعدها إلى المستودع.. ما اضطره لاحقاً إلى تقديم استقالته من العمل الوظيفي.

ما رأيناه يوماً إلا واضح العقل والقلب والروح. بهذه الصفة بدأ حقبته الذهبية الكثيرة الثمر، وتدرج من الكتابة الصحفية إلى التأليف والبحث.

كانت سهراتنا مجال نقاش، وفي تقديره أن أي حدث كالثورة  أو الحرب يؤرخ له عادة  لحظة إطلاق الرصاصات الأولى، والحقيقة يجب الذهاب  إلى مكان أبعد، إذ لا تندلع  الثورة أو الحرب في الأجزاء الجغرافية، إلا بعد  نضوجها في أوصالنا الفكرية. وفي تقديره، فالإنفجار السياسي المبكر في الاسلام كان حاداً، حيث لبس الصراع السياسي اللبوس الديني، واعتمد  على الأحاديث النبوية اكثر مما اعتمد على القرآن. وبرز في حينه تحالف الفقهاء مع السلطان وزودوه بما يلزم من أحاديث موضوعة… ولا زال المسلمون يشهرون سيوف الماضي في حروب الحاضر.

كنا في سهراتنا نناقش بروز “داعش” ، ومنذ الصغر كنا نسمع الدعاء في المساجد، وكان الشيخ يختم عظته بالقول: “اللهم انصرنا على أعدائنا، أعداء الدين، اللهم إجعلهم ونساءهم وأموالهم وذراريهم غنيمة لنا يارب العالمين”.

 على المنصة

كل ما كتبته وبعض ما كتبه كنا نسترجعه. أنا في المستشفى في شتورة، وهو في مستشفيات بيروت، تحدثنا عن الحل الفلسفي الرواقي أو “الابيقوري” الذي نجح في تحويل الموت، من سمٍ مرّ المذاق إلى ترياق رائع، لكن أجمل ما فيه أننا نجهل موعد حصوله.

تحدثنا كثيراً عبر الهاتف، وكأن ذلك  يتكرر الآن مرة أو مرات.. كان صوته متحشرجاً.. وقال: إنني سأعيش بين 10 أو 12 يوماً…ختم حديثه، من سيسبق الآخر أنا أو أنت؟ أجبته، لم يعد هذا مهماً.. فأنا وأنت صعدنا إلى المنصة. تساجلنا كثيراً.. وقال لي: تعبت من  الحديث. سأكون مستمعاً، وواصل حديثك مع “عايدة”… بعد أيام، اتصلت “عايدة” صباحاَ لتخبرني بصوت مخنوق” خالد ما بيقدر يودعك”.. أقفلت الخط. وقلت: يا بعض عمري  وروحي.. أنت الآن حرّ ولم تمت .. نلتقي معك..

 كل ما أنجزت من أفكار واقتراحات واسهامات لمفكر وباحث..  يستعاد الآن صداها.  وستخلق جدلاً زاخراً بالطاقة الإيجابية. ملايين وملايين الكلمات الشاحنة تنطلق بقوة الآن، محدثة تحولات وتعديلات لا نعلم مداها، بل نشعر بها في فضائنا العام.

في 17 تشرين الأول، رأيت جمال روحك وعقلك، رأيت دمك يجري في شرايين الانتفاضة..

على المنصة  التي تركتني عليها، استرجع  سيرتك، واعتبر أن الكثير من الرفاق يعلمون مثلي تماماً مدى مناعتك الأخلاقية وعفتك المالية، وصلابتك الفكرية والسياسية.

[author title=”محمد حيدر” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]