ثقافة

ديمقراطية أميركا كسبت حربا عالمية وامبراطوريتها تصارع تعددية الأقطاب

كتب أحمد مغربي 

الأرجح أن من أطَّلَع على كتاب “صعود الرايخ الثالث وهبوطه” يصعب عليه ألا يستحضر أجواء ذلك الكتاب الوثائقي أثناء متابعة الانتخابات الأميركية 2020. وقد رصد الكتاب كيف عمل رأسماليو ألمانيا الصناعية على دعم أدولف هتلر، بل إن مدير شركة “مانن” للشاحنات وصف الفوهرر بأنه الوحيد الذي يقدر على وقف مدّ الشيوعية والاشتراكية في ألمانيا.

لننظر إلى زمن دونالد ترمب من البداية أو قبلها قليلاً. جاء ترمب في عز صعود موجة من الشعبوية في الغرب [وكذلك الشرق، خصوصاً مع “داعش” و”القاعدة”. إنه تزامن يحتاج تحليلاً آخر]،  شعبوية لا تخفي أنها ضد مشروع الحداثة والعقلانية الكبير، ومنظومته الثقافية والفكرية والسياسية، وصولاً إلى مقارعتها الدولة كمؤسسة. [تيار ترمب واضح في عدائه لمؤسسة الدولة ويراها فاسدة وينسب إليها أصناف نظريات المؤامرة في أميركا، بل إن ترمب نفسه جاء من خارج المؤسسة السياسية للدولة].

وكذلك جاءت الشعبوية الغربية في تفاعل مع ظواهر كأزمة الاقتصاد في 2008 وانهياراتها والمهاجرين والاسلاموفوبيا. لنتذكر مثلاً كتابات الروائي الفرنسي نايبول عن “أسلمة” فرنسا، وروايته الشهيرة عن استبدال الشعوب الغربية بتلك الآتية من الشرق، خصوصاً الاسلام. ولاحقاً، صار “الاستبدال الكبير” عنوان مانفيستو حركات منادية بتفوق العرق الأبيض، وقد تبناه في صفحته على “فيسبوك”، مرتكب مجزرة “كرايستشريش” في نيوزيلندا.

قبل ذلك، قبل “الربيع العربي” وفيوض المهاجرين غرباً، جاء صوت رئيس الوزراء البريطاني اليميني السابق ديفيد كاميرون واضحاً في إعلان فشل التعددية الثقافية، وهي القلب في تجربة دولة الحداثة. وقد وافقته في ذلك المستشارة الألمانية انغيلا ميركل التي تميّزت بدعوتها الى التجدد وابتكار صيغ جديدة للدولة الحديثة لا تتخلى عن التعددية الثقافية. وقبل ذلك أيضاً، ارتفع صوت المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين في مقدمة لكتاب “ماهي الديمقراطية؟”، ليحذر من أن الدولة الأوروبية الحديثة تتصرف كأن “الديمقراطية حصن تقيم خلفه شعوب ديمقراطية”، ما يتناقض مع فكر الحداثة الإنساني ومفهوم الديمقراطية والممارسة الغربية المديدة في نشر الديمقراطية باعتبارها مشروعاً عالمياً.

الحداثة كـ”ديانة” فاشلة

قبل ذلك، في سبعينات القرن العشرين، ارتفع صوت الفلاسفة غرباً، خصوصاً فرنسا، مُحذراً من إخفاق واضح لمشروع الحداثة. إذ أصدر الفيلسوف فرانسوا ليوتار “مانيفستو ما بعد الحداثة”، ناقداً تحوّلها “ديانة” مضمرة وفاشلة.

قبل ذلك، دوّى فشل الحداثة عبر الحرب العالمية الثانية التي جرّ العالم إليها “حداثة متوحشة” استطاعت صنع موجة شعبوية (نازية وفاشية في ألمانيا وإيطاليا واسبانيا (الجنرال فرانكو) والبرتغال (ديكتاتورية سالازار)]. لقد عدنا إلى المربع الأول. ماذا لو تخيلنا أن هتلر لم يحز نصراً شعبياً كاسحاً في ظل ديمقراطية حكومة فايمار، وهُزِمَ في تلك الانتخابات، ووجدت ألمانيا طريقة اخرى للاستمرار في تجربتها الديمقراطية؟ الأرجح أنه في ذلك الافتراض، ثمة مساحة التفكير بإمكانية تجنب الحرب العالمية الثانية.

ولنستفق من ذلك الافتراض، للقول بأن الشعب الأميركي استطاع دحر موجة شعبوية عارمة اكتسحت الغرب [سالفيو مالديني في إيطاليا، وأوربان في النمسا، ومارين لوبان في فرنسا وحزب البديل في ألمانيا وبوريس جونسون في انجلترا]، وجدت في ترمب قائدها عالمياً بحكم الموقع المركزي لأميركا في الغرب والنظام العالمي. ولقد بدا ترمب واعياً تماماً لذلك السياق. إذ أرسل مستشاره السابق للأمن القومي ستيف بانون إلى أوروبا كي يرسي أحزاب اليمين الجديد، وهي التسمية الرائجة لتلك الشعبوية تمييزاً لها عن اليمين التقليدي أوروبياً. وعمل بانون على نسج تحالف بين قوى الشعبوية الأوروبية. ويستند التحريض الجماهيري لذلك اليمين الشعبوي على خطاب كراهية واسع، مع مكانة خاصة فيه للإسلاموفوبيا والمهاجرين، والتشديد على “العودة” إلى المسيحية (في مزيج من الدين والسياسة كان يفترض أن الحداثة قد تجاوزته أوروبياً في الأقل. وبديهي القول إنه يشبه مزيج رائج في منطقتنا).

الأرجح أن هذا المرور الخاطف على صعود الشعبيوية الغربية يهدف لإلقاء ومضات خاطفة على مسار طويل، ولعله ليس صعباً على القراء استحضار روافد لها.

إعادة صوغ خريطة العالم

ثمة منحى اخر. إذ تضمنت أهداف ترمب ضرب مشروع الاتحاد الأوروبي، خصوصاً عبر جهود بانون وتحالفاته، مع مكانة خاصة لإخراج بريطانيا من ذلك الاتحاد عبر “بريكست”.

ثمة نقاش طويل بشأن العلاقة بين الإمبراطورية الأميركية والشعبوية الغربية والأميركية. ويتعذّر خوض النقاش في هذا المقال. يمكن الإشارة إلى أن شعوبية ترمب تلاقي ميلاً سياسياً داخل الدولة الأميركية يعرف بإسم “الجاكسونية”. من بين سماته رفضه النظام الدولي، وإصراره على عمل أميركا منفردة في علاقاتها مع الدول كافة، بمعنى أنها تتعامل مع كل دولة على حدة، وفق مقتضيات استمرار الهيمنة الأميركية (ترمب ردد مصطلح “هيمنة أميركا” بوضوح في حملاته الشعبية) كي تحافظ على مصالحها.

المفارقة أن اللجب الانتخابي الأميركي ترافق مع ظهور تكتل من 15 دولة آسيوية وقعت اتفاقاً تجارياً تاريخياً، يشمل تحرير التجارة بين دول “آسيان” وبين اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها. يقع التكتل ضمن النطاق الاستراتيجي المباشر للصين. ويضم الاتفاق الاقتصادين الثاني والثالث عالمياً (الصين واليابان)، ويشمل 60% من الدخل العالمي. واعتُبِر الاتفاق الترجمة التاريخية الأولى لتحول الصين قطباً عالمياً فعلياً. وبات هناك 3 كتل عالمية، ثانيها هو الاتحاد الأوروبي الذي تجهد فرنسا وألمانيا في تحويله تكتلاً بوزن عسكري وسياسي، وأولهما أميركا ونطاقها الاستراتيجي المباشر من كندا وأستراليا إلى أميركا الجنوبية. وثمة 3 دول كبيرة خارج التكتلات هي روسيا صاحبة المشروع الأوراسي، والهند المترددة في الانضمام الى الصين وعينها على أميركا وروسيا معاً، ثم بريطانيا التي تتأرجح على حافة الأطلسي بين أوروبا وأميركا.

تبدو الصورة كأنها تُنْبئ باقتراب نظام عالمي متعدد الأقطاب، مع موقع خاص لأميركا فيه كقوة عظمى وحيدة. ويفرض ذلك على الإدارة الأميركية الجديدة مهمة إعادة صوغ المركز الأميركي، وبالتالي خريطة ميزان القوى عالمياً، بداية من المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف [الأمم المتحدة ومؤسساتها…] ومروراً بحلف الأطلسي، وليس انتهاءً بالحسم في شأن روسيا والصين. وتحتاج تلك المشهدية إلى نقاشات لاحقة.

Leave a Comment