سياسة مجتمع

خطر التمادي في التعطيل ودوامة الهروب من المسؤولية الوطنية

زكي طه

بين محاولات تكريس التيار حامياً لحقوق المسيحيين، وفرض ضمانات لسلاح حزب الله، وتطلّب سيادة مفقودة أو موعودة، تدور معركة رئاسة الجمهورية المفتوحة. وإلى أن يتحقق الفوز لأي من أطراف تلك المعركة، يستمر جواب السؤال حول مصير الجمهورية ومستقبل اللبنانيين، معلقاً على إسم الرئيس، الذي يتعذر على أطراف الداخل التوافق عليه.

وبانتظار التسوية الخارجية المؤجلة حول رئاسة الجمهورية، وفي معمعة السجال حول تعطيل الاستحقاق الرئاسي واسبابه والمسؤوليات عنه، يستمر اللغو القائم بين الكتل النيابية بشأنه، وتتكرر دعوات الحوار غير المجدي بينها، لتغطية تهربها من مسؤولياتها في معالجة القضايا، والمشكلات الموروثة والمستجدة، التي تتحكم بأوضاع البلد ومواطنيه. والأهم فيها قضايا عدم الاستقرار ووقف الانهيار وانقاذ الاقتصاد واستعادة الدولة ومؤسساتها الحيوية على الأقل وبقاء البلد برمته. وهي القضايا التي تسببت بها سياسات ونهج اصحاب تلك الشعارات، في امتداد صراعات تقاسم السلطة المتواصلة على غير انقطاع.

ليس في الأمر ما يثير دهشة اللبنانيين أو دول الخارج على السواء. لأن ما يجري هو انعكاس لأزمات الكيان والنظام والاجتماع اللبناني الموروثة والمستمرة. والتي تبدو راهناً وكأنها الوجه الرئيسي لمعركة الاستحقاق الرئاسي. وعدم الدهشة مرده أن الشعارات المرفوعة سبق وظللت سنوات العهود الرئاسية السابقة، وما رافقها حوارات ثنائية وجماعية، ومن معارك تعطيل للاستحقاقات، ومن تقاسم لمؤسسات الدولة وقطاعاتها، وما أنتجه ذلك من أزمات وخلافات، ومن انهيارات وكوارث اجتماعية واقتصادية لم تزل تتوالى فصولاً.

من المؤكد أن قوى السلطة المحلية أو الطبقة السياسية الحاكمة، ليست أدوات عميلة للخارج وفق الاتهامات المتبادلة بين اطرافها بين الحين والآخر. ولا يعدل في ذلك عراقة نهج الاستقواء بالجهات الخارجية، القائم منذ ما قبل تأسيس الكيان، مروراً بالانتداب، وجميع محطات ما بعد الاستقلال. يشهد على ذلك ما كان وما هو راهن من صراعات، مع كل انفجار لأزمات لبنان في صيغة نزاعات وحروب أهلية، سواء حول موقع الكيان وهويته وعلاقته بمحيطه، أو حول النظام وصيغة الحكم وتقاسم السلطة فيه.

ولأن ما هو راهن لا يختلف عما سبق، تبقى العلّة في صيغة النظام وما يسمى بميثاقية تشكيل السلطة، والاصرار على التوافق بين مكونات الطبقة السياسية والتلويح باللاميثاقية لدى أي خلل في احتساب حصة كل طرف. والغاية من ذلك ضمان استمرار أدوارها، وتكريس استئثارها بتمثيل طوائفها أو اختزالة بها. يؤكد ذلك مستندات سياساتها وممارساتها الفئوية في مواجهة الطائفي الآخر.

وبما أن أحزاب وتيارات السلطة هي نتاج بُنى المجتمع الأهلي بتشكيلاته العائلية والعشائرية والمناطقية في صيغة طوائف متساكنة ومتنازعة في آن، فإنها أيضاً تمثّل محاولات مستمرة لإعادة انتاج تلك التشكيلات في صيغة زعامات حزبية ورعايا تابعة لها، سعياً منها لتكريس النطق باسم طوائفها، والانفراد بالسلطة والمغانم. وهي في ذلك تشبه إلى حد بعيد، بُنى نظم الاستبداد الديني والقبلي أو الأثني أو الحزبي القائمة في العديد من الدول. حيث تتربع على راسها قيادات يختزلها زعيم يتحول إلى مقدس، فتكنى الدولة بإسمه ويرتبط مصيرها به وفق معادلة “أنا أو البلد”. ولا يقلل من أخطار تلك الصيغة في لبنان ولا من قداسة زعماء الطوائف فيه، ضآلة اوزانها واحجامها، مقارنة بزعماء تلك الدول وأوزانها. يؤكد ذلك، تجاهلها جميعاً مسؤولية معالجة الازمات والمشاكل التي حلت على البلد، جراء سياساتهم وخلافاتهم، والعجز عن التصدي لأسبابها الفعلية، والتي لم ينج منها رعاياها واتباعها.

لذلك وعلى امتداد مائة عام استمر لبنان وطناً قيد الدرس، تحف به مخاطر الزوال من كل حدب وصوب. ليس باعتباره رهينة لدى زعامات احزاب الطوائف وتياراتها التي تشكل مرجعية النظام والحكم والسلطة فيه وحسب، أو لأن تلك القوى لم تتردد يوماً عن خوض معاركها دفاعاً عن مواقعها ومصالحها وحقوقها الفئوية المُدّعاة باسم الطائفة فقط، بل ايضاً لأن القاعدة التي تحكم العلاقة بينها حيال قضايا البلد ومشكلاته: أنها دائماً على حق فهي لا تخطىء ابداً. ولذلك هي تكرر تبادل الاتهامات. وهذا ما يجعل تاريخ الكيان والاجتماع اللبناني كأنه تكرار لما كان في محطات سابقة، أو اسبق منها. وعليه يتحول كل استخفاف بأزمات البلد وبالاستحقاقات الدستورية، استهانة بمصير الكيان، ومصدر خطر يتجدد في صيغة مأساة أو مهزلة كما هو الآن. يعزز هذا الواقع امتلاك تلك القوى للخبرة والكفاءة في تبرير سياساتها والدفاع عن مصالحها، بالاضافة إلى براعتها في إدارة علاقاتها مع الآخر، وفق ما تستدعي مصالحها الفئوية الظرفية، بناءً للمعادلة الذهبية التي تقضي بعدم وجود تحالفات وخصومات وعداوات دائمة ونهائية. والابقاء عليها دوماً محكومة للمصالح الآنية، ومرتهنة لتبدل التوازنات المحلية والخارجية.

وعلى ذلك تُقرأ حيثيات العلاقة الصراعية بين التيار والقوات، وعودة المطالبة بتجديد الحوار بينهما الآن للخروج من المأزق، تحت راية حماية موقع وحقوق الطائفة. ولا يختلف عن ذلك مأزق العلاقة المأزومة بين التيار العوني وحزب الله وما ترتب عليها من استعصاءات لدى كل منهما، وانفجار الصراع بينهما، ومشاركتهما معاً في تعطيل الاستحقاق الرئاسي: بين من يريد رئيس يضمن حقوق المسيحيين، ورئيس يضمن سلاح الحزب ودوره. في موازاة ذلك ومقابله هناك من يطالب برئيس سيادي، ومن يدعو لرئيس انقاذي.

وبصرف النظر عن تاريخ التحالفات والخصومات والعداوات وتبدلاتها، وعن معطيات الصراع التعطيلي المفتوح راهناً بلا حدود أو ضوابط وطنية. وبعيداً عن استعراض يوميات الكتل النيابية والقوى السياسية المتصارعة وما تنطوي عليه من مناورات تحدٍ مكشوفة، وضغوط داخلية وخارجية مفضوحة، ودعوات حوار مفخخة، تعبّر بمجملها عن امعان في الاستهتار بحياة اللبنانيين ومصير البلد، وتغطية التعطيل والعجز عن ايجاد تسوية تؤدي إلى انتخاب رئيس، بما تيسّر من خلافات لا وظيفة لها سوى تعميق الأزمة بين قوى السلطة وتزخيم انقسامات اللبنانيين، ورفع منسوب اليأس لديهم. إلأ أن ما يدعو للاستغراب ليس ندب بعض المرجعيات الدينية لأحوال البلد، وتكرار مناشدة النواب القيام بواجباتهم الدستورية. بل أن يجد بعضها في الوضع الراهن سبباً لتغطية مأزق قوى التعطيل من خلال إعلاء راية التدويل من جديد، واستسهال تصنيف اللبنانيين بين مخلصين يريدون التدويل، وغير مخلصين يعترضون عليه. الأمر الذي يساهم في تسعير الخلافات بينهم، بقدر ما يبرر خطاب المؤامرة، والاستقواء بالخارج، جواباً على المطالبة بوصاية خارجية على البلد عبر قرارات دولية لن تكون قابلة للتنفيذ. أما النتيجة الحتمية لهكذا دعوات، فهي الإيغال في تعريض أمن اللبنانيين للخطر والدفع بالبلد نحو المجهول، وتكريسه مسرحاً مشرعاً للنزاعات الداخلية، وللصراعات الدولية والاقليمية في آن، كما هو الحال راهناً في سوريا أو سواها من دول الجوار العربي أو الاقليمي.

إن مقاربة القضية اللبنانية على نحو مسؤول وطنياً، تستدعي من الغالبية الساحقة من اللبنانيين المبادرة إلى تحمّل مسؤولياتهم، وإعادة النظر في صيغة مقاربتهم وتعاملهم مع تاريخ الانقسام اللبناني وخلافاتهم دون خجل، أو عقد من الأخطاء والخطايا، التي ارتكبوها خلال تجاربهم السابقة. سواء منهم من تولى السلطة أو لم يزل، أو من الذين تنكبوا محاولات التغيير والاصلاح. إن التخلي عن السياسات والرهانات الخاطئة والمدمرة بما فيها الاستقواء بالخارج، والتي لم تحكم التجارب السابقة لمصلحتها، يبقى اقصر الطرق لانقاذ البلد وبقائه وطنا قابلا للحياة والتطور، وهو المدخل الوحيد لتجاوز اللاثقة بين اللبنانيين للتوافق على الحد الأدنى المشترك حول قضايا البلد الجوهرية، والتلاقي حول المصير والمصالح والحقوق المشتركة. وفي هذا السياق فإن المسؤولية الأكبر تقع أيضاً على قوى المعارضة بكل تلاوينها الفكرية والسياسية وعلى الفئات المتضررة من الوضع الراهن، باعتبارهم جميعاً اصحاب المصلحة الحقيقة والتاريخية في بقاء لبنان وطناً لجميع ابنائه ومكوناته.

Leave a Comment