صحف وآراء

حماية أهراء مرفأ بيروت… حفاظاً على الذاكرة ومن أجل العدالة

د. رنا الدبيسي*

النهار   25-03-2022    

شـكّل قـرار مجـلس الـوزراء الـصادر فـي ١٢ آذار ٢٠٢٢ الـقاضـي بهدم أهراء الـمرفـأ صـفعةً جـديـدةً لأهالي ضـحايـا انـفجار الـمرفـأ تحـديـداً، ولـكلّ الـلّبنانـيين عـمومـاً. فـمنذ الـتفجير الـمشؤوم مباني الأهراء شـامـخةً بـانـتظار تـحقيق الـعدالـة والإنـصاف، خـاصـة أن الـمنطقة الـمحيطة لا تـزال تحـمل فـي ثـنايـاها أجـساد بـعض الضحايا وذاكرة لحظاتهم الأخيرة.

وتـدفـع وزارة الأشـغال الـعامـة والـنقل ووزارة الاقـتصاد إلـى هدم الأهراء بـذريـعة الـحفاظ عـلى السـلامـة الـعامـة وضـرورة الإسـراع فـي تجديد البـناء ربّـما فـي نـفس الـموقـع. وهذه الـذرائـع مـا هي إلا ذرّ رمـاد فـي عـيون الـلّبنانـيين لسـلبهم مجـدّداً ركـيزة أسـاسـية مـن ذاكـرتهم الجـماعـية. فـالأهراء ليسـت آيلة لـلسقوط بحسـب الـتقاريـر الإنشائية رفيعة المستوى، وبناءُ أهراء جديدة ليس من الضروري أن يكون في نفس الموقع. الـسؤال الأبـرز الـذي يـطرح نـفسه هنا هو لماذا هذا الإصـرار والـمسارعـة فـي مشـروع هدم الأهراء فـي ظـل الـترهّل غـير المسـبوق لـمؤسّـسات الـدولـة، والـغياب شـبه الـتام للخـدمـات الأسـاسـية؟ مـمّا يـطرح أسـئلة أخـرى تـتعلق بإعادة إعمار المرفأ والطموحات التوسّعية للشركات الأوروبية، والطموحات الأوسع للشركاء المحليين!

فـردّاً عـلى ذريـعة ضـرورة إعـادة بـناء أهراء جـديـدة فـي نـفس الـموقـع، نـسأل الـحكومـة ومسـتشاريها: هل الأهراء المركزية هي الحلّ الأنسب لحفظ الحبوب والقمح؟ فـقد يكون مـن الأنسـب بـناء عـدد مـن الأهراء الأصـغر حجـماً لتخـزيـن الـقمح والـحبوب فـي أمـاكـن مـتعدّدة لسهولة توزيعها عـلى الـمناطـق. وأمّـا إذا كـان الإصـرار عـلى بـنائها فـي مـوقـع مـركـزي، فـمن الأجـدى تـبنّي نـصيحة الاتـحاد الأوروبـي وبـنائها عـلى طـرف مـرفـأ طـرابـلس الـجنوبـيّ، وتـجنيب قـلب بـيروت الـمزيـد مـن الـشاحـنات وعـمليات النقل المستمرّة.

أمـا لـجهة السـلامـة الـعامـة والـتهويل بـإمـكانـية سـقوط الأهراء أمـام الـعواصـف، فـبالإضـافـة إلـى إيـمانـويـل دوران، الـمهندس الـفرنسـي، الـذي بـرز اسمه بـعد الانـفجار، والـذي عـمل عـلى أخـذ مقاييس الأهراء بـشكل دوريّ ومــراقــبتها، هــناك بــحث مــيدانــي بــالــغ الــدّقّــة، وقــد نشــر فــي أهمّ الــمراجــع الــعلمية مــن الــفئة الأولى (ENGINEERING STRUCTURES)، وهو يُشكّل الـدراسـة الـعلمية الـمرجـعية الـوحـيدة الـمعلنة حـتى الآن فـي مـوضـوع انـفجار الـمرفـأ، وهو بـحث الـدكـتور يـحيى تـمساح ومساعديه. والـبحث مـنشور فـي مجـلة عـلمية، وفـي مـتناول أيّ شـخص يـسعى لـمعرفـة الـوضـع الإنـشائـي لأهراء الـمرفـأ. يخـلص الـبحث إلـى عـدد مـن الـنتائـج فـي مـوضـوع الانـفجار والأهراء، إنّـما مـا يهمّنا الآن مـا اسـتنتجه عـن الـوضـع الإنـشائـي لـلصوامـع، مـؤكّـداً أنّها لـن تـسقط فـي أي وقـت قـريـب، وأنها عـلى الـمدى الـبعيد قـد يحـدث فـيها انهيارات جـزئـية. وكـأيّ مـنشأ خـرسـانـي عـلى وجه الـخصوص، هي قـابـلة لـلتدعـيم والـترمـيم أيضاً، إذا أراد الـلبنانـيون ذلـك. لـذلـك هي لا تهدّد السـلامـة الـعامـة عـلى الإطـلاق، ولـن تـسقط جـراء عـاصـفة أو إذا مـرت مجـموعـة مـن الـناس بـقربها؛ وبـالـتأكـد لـن تهدّد مـناطق مار مخايل والجميزة بالغبار والفطريات والأسبستوس.

يبقى الأهمّ مـن هذا كلّه، وبـغض الـنظر عـن تـكلفة تـدعـيم مـبنى الأهراء مـقابـل تـكلفة هدمها، أن هذا الـمعلم أصـبح مـلكاً اجـتماعـياً ومـوقـعاً يـذكّـر الـلبنانـيين والأجـيال الـقادمـة بحجـم الـكارثـة الـتي وقـعت نـتيجة الإهمال بـالإضـافـة إلـى تخـليد الـضحايـا ومـأسـاة الـلبنانـيين؛ ومـن غـير الـمقبول الـتعاطـي معه مـن مـبدأ مصلحة الفئات المهيمنة عـلى الـقرار السـياسـي مـن دون الأخـذ بـعين الاعـتبار الـبعد الـوطـني والاجـتماعـي والـرمـزيـة الـتي تحملها، وأهمّيتها لأهالي الـضحايا، الـذیـن فـقدوا أحبّاءهم فـي ذلـك الـموقـع. فـالـقضية تـعبيرٌ عـن تـمسّك الـمجتمع الـلبنانـي بـذاكـرة جـماعـية تُـدين سـقوط أبـريـاء، دفـعوا حـياتهم ثـمناً للإهمال وسـوء الإدارة، بـالإضـافـة إلـى كونها مـعلماً من معالم العدالة التي يسعى إليها أهل الضحايا وأهل المدينة على حدّ سواء.

إن لـبنان وطـن مـحكوم بسـياسـيين وأصـحاب قـرار مـتّفقين دومـاً ضـدّ شـعبهم، واسـتخدمـوا بـبراعـة سـياسـة النسـيان القسـريّ ضـدّ الـلبنانـيين عـبر إخـفاء دلائـل الحـرب والـمجازر ومـحو الـمعالـم بـحجة اسـتمرار الـحياة الـعامـة، وهم يـعرفـون تـمامـاً أنّهم بـذلـك يـقتلون الـذاكـرة الجـماعـية، وبـذلـك تـنتفي أيّ إمـكانـية لـلمصالـحة والـتعافـي وإمـكانـية الـعدالـة الانتقالية. على اللبنانيين دوماً ابتلاع غضبهم ودفن ألمهم في داخلهم، وفقدان ذاكرتهم الجماعية إلى غير رجعة.

فـي ١٨ آذار ٢٠٢٢ تـم وضـع الأهراء عـلى لائـحة الجـرد مـن قـبل وزيـر الـثقافـة، لـكننا نـعلم بـأنّ قـرار الـوزيـر يمكن لأيّ وزيـر آخـر مـعارض له تخـطّيه، والـمضيّ قـدمـاً بـقرار الهدم الـصادر عـن رئـاسـة مجـلس الـوزراء. الـمطلوب هو الـدفـع لـلمصلحة الـعامّـة، وإزاحـة هذا الـمبنى الـشاهد عـلى ثـانـي أكـبر انـفجار فـي مـديـنة سـكنية، وإزاحته من حقل التجاذبات السياسية والمحاصصة الداخلية.

أكـيد مـطلوب إعـادة إعـمار الـمرفـأ، إنـّما بـشكل يـكرّم بـيروت، ولا ينكأ جـراحها. بـيروت تـريـد مـرفـأً حـيويـاً، وتـريد أن تـعيد تـواصـلها مـع البحـر الـذي فـصلوها عنه لـسنوات كـثيرة. وبـيروت تـريد الـشاهد عـلى جـريمة الـمرفـأ والـمنطقة المحيطة به منطقة مفتوحة تكرّم الضحايا وتعطي عبرة للأجيال القادمة.

* أستاذة في قسم العمارة، الجامعة اللبنانية

Leave a Comment