كتب زكـي طـه
وأخيراً، وبعد طول انتظار بات لدى اللبنانيين حكومة، فهل هم أمام نهاية فراغ السلطة أم أن الأمر مرشح للتمديد؟ هي الرابعة في ظل ولاية العهد القوي الذي لم يتبنَ أياً منها، باعتبار أن الآخرين “ما خلوه” يشكل الحكومة التي يريد. لقد تحقق الأمر بعد ثلاثة عشر شهراً من التعطيل، واعتذار رئيسين كلفا بالتأليف لأنهما لم يستجيبا لشروط العهد وتياره السياسي ومن يقف وراءهما. وإعلان تشكيل الحكومة العتيدة يطرح الكثير من الأسئلة حول توقيت الموافقة على تأليفها، كما حول المحاصصة التي انطوت عليها، بالإضافة إلى العوامل التي ساهمت في إصدار مراسيم جعلتها أمراً قائماً. أما السؤال الأهم فيتعلق بمستقبل الحكومة ومدى قدرتها على وقف الأنهيار وتحقيق ما رافق ولادتها من وعود اصلاحية.
من حيث التوقيت، لا شيء يدعو إلى الاعتقاد أن الحكومة قد رأت النور في امتداد صحوة ضمير وطنية أو انسانية، حلّت على أركان منظومة السلطة ودفعت بهم لإعادة النظر بأدائهم وسياساتهم التي تسببت بالانهيار المريع الذي أصاب البلد. كما وأنها لم تأت نتيجة طول معاناة وتفكير منهم أمام هول الإنهيار والانفجار ومضاعفاتهما من الأزمات الخانقة، ما سهَّل عليهم تقديم التنازلات والتخلي عن الشروط المتبادلة، خلافاً لما كان عليه الوضع طوال ثلاثة عشر شهراً، مضت على استقالة حكومة اللون الواحد.
أما المحاصصة الفئوية التي حكمت مسار التعطيل، ورغم الاطاحة برئيسين سبق وكلفا تشكيل الحكومة، فإن معادلاتها وما ارتبط بها من شروط معلنة ومضمرة، لم يكن بالإمكان تجاوزها أو الخروج على أحكامها المستندة إلى ميزان القوى الداخلي. ولذلك فإن محاولات تعديلها عبر التهديد بالاعتكاف أو الاعتذار لم تفلح في تحقيق الغاية المطلوبة. أما التضليل حول حقيقة تنازل العهد عن الثلث المعطل، فقد كان قاصراً عن تغطية حقيقة الأمر، خاصة مع تكشف انتماءات ومرجعيات الوزراء التي تؤكد عدم صحة ادعاءات رئيس الحكومة بما فيها مواصفات العديد منهم، خاصة الذين دارت حول توزيرهم معارك التعطيل، لأنها لم تصمد أكثر من ساعات، حيث أن ما نشر حولهم وما صدر عنهم من مواقف، كان كفيلاً بتأكيد انتسابهم إلى مدارس منظومة الفساد التي يدينون لها بالولاء.
ما ورد يؤكد جوهرية السؤال المتعلق بالعوامل التي أدت إلى تشكيل الحكومة. وفي هذا الاطار لا بد من التذكير أن المساعي الفرنسية التي واكبت المبادرة التي اطلقت على رافعة إنفجار المرفأ قبل أكثر من عام، لم تنجح في تعديل أداء أهل السلطة في لبنان، كما كان يأمل الرئيس ماكرون. كما وأن الضغوط التي مورست من قبل الادارة الفرنسية وما رافقها من تهديدات بفرض عقوبات جرى التلويح بها مراراً وتكراراً، لم تفلح في دفع اطراف الطبقة السياسية الحاكمة إلى تشكيل حكومة إنقاذ توقف الإنهيار. كذلك فإن الاستنجاد بالاتحاد الأوروبي والاستقواء بالعقوبات الاميركية لم يجدِيا نفعاً في ردع اطراف السلطة أو إجبارها على إعادة النظر بممارساتها أو سياساتها.
أما الغزل الذي اعتمده المسؤولون الفرنسيون مع حزب الله والنظام الايراني في هذا السياق، فإنه لم يقابل بخدمات مجانية تساهم في تسهيل نفاذ المبادرة وما تضمره من أهداف سياسية ومصالح استثمارية تحت شعار المساهمة في النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار. كما وأن الحزب لم يبادر إلى تعديل أدائه أو وجهة تعامله مع الأزمة، واقام عند تجاهل الصراع الدائر بين الطرفين المعنيين شكلاً بتأليف الحكومة وهما العهد والرئيس المكلف، رغم ما تسبب به فراغ السلطة من أزمات خانقة لأكثرية اللبنانيين وسط حشد المخاطر الزاحفة على البلد.
وإذ رأى العهد في الانهيار مناسبة لفرض شروطه وتحقيق طموحاته واهدافه غير المشروعة، بصرف النظر عن نتائج نهج التعطيل الذي أدمن عليه. فإن الحزب، لم يألُ جهداً في متابعة تنفيذ الدور الاقليمي المناط به على صعيد أزمات المنطقة. كما في استغلال فائض قوته والسعي لتعزيز هيمنته، وتكريس تحمكه بقرارات البلد سياسياً وأمنياً، سواء تحت راية حمايته من الخطر الاسرائيلي وكسر الحصار الاميركي، أو لناحية القيام بمهام الدولة البديلة، بذريعة تأمين حاجات اللبنانيين من السلع الاساسية ومواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. أما سائر اطراف السلطة ومن شتى الضفاف، وعدا الشراكة في تحمل مسؤولية الانهيار، فقد حاصرهم همّ الدفاع عن مواقع نفوذهم وحماية وجودهم السياسي من التهميش أو الفناء.
وعليه، فإن الحكومة لم تتشكل إلا في أعقاب الاستجابة لشروط الاطراف التي عطلت تأليفها طويلاً، سواء تعلق الأمر بصلاحيات رئيس الجمهورية والحصص المموهه له وللتيار، أو لناحية التسليم بموقع لبنان تحت راية النفوذ الايراني وهيمنة حزب الله استناداً إلى الخلل الفادح في ميزان القوى الداخلي والإقليمي. ما يعني أن قبول ميقاتي بتشكيلة غير متوازنة قد أتى في اطار تسوية خارجية قضت بالافراج عن الحكومة برئاسته، الأمر الذي يعزز طموحاته في منافسة رئيس تيار المستقبل على زعامة الطائفة، رغم أنه لم يعطَ ما لم يعطَ الأخير، وهو الذي توهم أن باستطاعته استعادة ما كان تنازل عنه ثمناً لعودته إلى الموقع الذي أُقصي عنه، جرَّاء رفضه التسليم بمعادلات اختلال توازن القوى الداخلية والاقليمية لغير مصلحته.
والتسوية المشار إليها لم تولد فجأة لأن التحضير لها بدأ مع اطلاق المبادرة الفرنسية، حيث أن الاتصالات المباشرة بين المسؤولين الفرنسيين والايرانيين لم تنقطع بما فيها التواصل الدائم مع قيادات حزب الله. لم تقتصر اهداف الاتصالات على تسهيل تشكيل حكومة في لبنان، بل استهدفت أيضاً استرضاء ايران التي خسرت الرهان على التزام فرنسا تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية بين البلدين، وعلى دورها في تعطيل مفاعيل الحصار والعقوبات الاميركية في اعقاب تجميد العمل بالاتفاق النووي مع ايران. ولذلك ساد الحرص على إدامة الاتصالات بانتظار توفر الظروف التي تضمن لكل جهة تحقيق ما تسعى له من أهداف ومصالح.
ولذلك استعمل لبنان بكل أوجه أزماته ساحة لتبادل الرسائل وورقة ضغط في بازار مشاريع التسويات التي قضت بتمرير الانتخابات الاميركية ومن ثم الانتخابات الايرانية، وانتظار وضوح التوجهات الاستراتيجية لسياسات الادارة الاميركية الحالية، التي قضت بالسعي لضبط استراتيجية النظام الايراني في المنطقة تحت سقف أولويات مصالحها وسيطرتها العامة. والعمل على استيعاب الطموحات والمصالح المحدودة للدول الاخرى، في ظل التأكيد على عدم استعداد الولايات المتحدة للقتال دفاعاً عن أي نظام أو بلد والتسليم بالأمر الواقع والتعامل معه، شرط عدم المساس بما تعتبره أولويات اميركية في المنطقة، وفي مقدمها الأمن الاسرائيلي والنفط. هذا ما يعكسه الأداء الاميركي راهناً حيال أزمات المنطقة، والذي كشف الحيز المحدود الذي يحتله الموقع اللبناني باعتباره ساحة لتبادل الرسائل، الأمر الذي سمح بإجازة ما سعت له فرنسا.
لا شك أن وجود أي حكومة يبقى أفضل من الفراغ، خاصة في ظل انهيار مؤسسات الدولة وأجهزتها وقطاعات الخدمات ودمار الاقتصاد وتفكك المجتمع وسيادة الفوضى الأهلية والأمنية. ورغم أن وجود حكومة يعني بالبديهة وجود مرجعية مسؤولة، يبقى من الوهم أيضاً انتظار الإنقاذ والحلول للأزمات بواسطة حكومة هي من تأليف وانتاج ومحاصصة منظومة الفساد السياسي التي قادت البلاد ودفعت بها إلى ما هي عليه راهناً من كوراث اقتصادية واحتماعية وانسانية بكل ما للكلمة من معنى.
وبصرف النظر عن حسابات الربح والخسارة، سواء بين اطراف السلطة أو الجهات الاقليمية المرتهنة لها، وبعيداً عن مواقف التأييد والتشكيك بالحكومة الجديدة، فإن المنظمات والجهات الدولية قد أعادت وبسرعة التذكير بشروطها للمساعدة والدعم، ما يعني طول انتظار لأن من دفع البلد نحو الهاوية وقاد المواطنين والمقيمين إلى جهنم يبقى غير مؤهل لاخراجهم منها.
أما دُعاة تشكيل حكومة إنقاذ مستقلة عن منظومة السلطة، فالسؤال الذي يجب يصفع عقولهم قبل وجوههم، هل سعيتم حقاً لبناء ميزان قوى قادر على تحقيق ما تطالبون به؟ وهل اجتهدتم كي تكسبوا ثقة اللبنانيين المتضررين بكم، أم أدرتم ظهركم لهم وأقمتم بين الشعارات الرنانة؟ وهل سعيتم لتوفير ضمانات الفوز باصواتهم في الانتخابات الموعودة باعتباركم البديل؟ فيما انتم مستمرون في التخبط واستنباط الشعارات والبرامج، وتتابعون تبادل التشكيك الاتهامات ورفض الآخر.
يبقى أن خيارات الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، تقع بين التسليم بالأمر الواقع والخضوع لأحكامه القاتلة، وبين المواجهة والاعتراض. أما دعاة التغيير فهم مدعوون إلى تجاوز حرفة اصدار بيانات الاستهجان لتشكيل الحكومة وتجاهل مرجعيتها وتوصيفها بشكل ملتبس، واعلانات اللا ثقة التي لا تجد ترجمتها في الشارع الذي يسكنه الفراغ، في وقت تؤكد كل الوقائع والمعطيات أن ما تستطيعه مثل هذه الحكومة لن يتعدى أكثر من التمديد للفراغ ومضاعفة المآسي الاجتماعية والمعيشية.
Leave a Comment