زهير هواري
بين 14 و16 أيلول ثلاثة أيام فقط. ثلاثة أيام كافية لتبيان الانفصام اللبناني والخلاف المستدام بين اللبنانيين على هويتهم الوطنية، والموقف من قضايا المنطقة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، وبالتالي الصراع العربي الصهيوني. في 14 أيلول 1982 حدث التفجير في مكتب حزب الكتائب في الاشرفية الذي أدى إلى مصرع الرئيس المنتخب بشير الجميل والعشرات من رفاقه في الحزب. وفي اليوم التالي حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا كما هو معلوم بإدارة وتخطيط اسرائيلي وإن بأدوات محلية، واجتاحت القوات الاسرائيلية ما كان يسمى في حينه “المنطقة الغربية” من بيروت. ومباشرة وجه القائدان الشيوعيان أمين عام منظمة العمل الشيوعي محسن ابراهيم وأمين عام الحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي نداءهما الشهير من منزل كمال جنبلاط إلى اللبنانيين واللبنانيات داعين إلى حمل السلاح ومواجهة الغزو الصهيوني، دفاعاً عن وحدة لبنان وحريته والديمقراطية على أرضه، وبين مكوناته بتنوعها الاجتماعي والثقافي. تجاوز ابراهيم وحاوي انقسام اللبنانيين وحربهم الأهلية الطاحنة، داعين المواطنين إلى النضال من أجل دحر الاحتلال كمهمة أولى ورئيسة. كانت المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا، تلملم جراحاتها، بينما تتناقل وسائل الاعلام الدولية الخبرين كمفصلين من مفاصل الحرب الاهلية في لبنان. لكن ذلك كله لم يحدث عفو الخاطر بل في حمأة صراع مستعر استغرق السنوات السبع بين 1975 – 1982.
حزب الكتائب أحيا الذكرى السنوية الأربعين لمصرع الرئيس بشير الجميّل ورفاقه في ساحة ساسين في الأشرفية. شارك في الذكرى أفراد العائلة والحزب بقياداته وكوادره ونوابه ووفد من القوات اللبنانية وعدد من النواب والشخصيات. أعادت المناسبة تقديم بشير الجميل على النحو المعروف منذ رحيله: القائد، الرئيس القوي والتاريخي الذي يحتاجه لبنان الآن، كما كان بحاجة إليه في حينه لاستعادة السيادة المفقودة، الحلم، الأسطورة وصاحب مشروع بناء الدولة، وما شابه من كلمات تلقى آذاناً صاغية في المناسبة. بالطبع بشير الجميل كأي قائد سياسي إشكالي في بلد تقسمه الحرب الأهلية عمودياً، وتدفع بمكوناته الاجتماعية والطائفية إلى الوقوف على المتاريس المتقابلة. ينسحب الأمر على سائر القادة الذين عرفتهم البلاد خلال تلك المطحنة الدموية، لذلك يصعب القول، بل يستحيل تكليفه مهمة استعادة السيادة ومساحة الـ 10452 كلم متر مربع التي كان يكررها كمساحة كيان لبنان، وهو شعار رفعه في حينه في دغدغة لتصورات اللبنانيين في استعادتهم بلادهم لسويتها الطبيعية كدولة ذات سيادة وقرار حرباً وسلماً وانتظام عمل مؤسساته. الدليل الصادم هو محاولة استكمال مشروعه بعد غيابه على أيدي تلامذته، ما قاد إلى شحن الحرب الاهلية بالمزيد من الديناميت الذي فجر ما تبقى من الاجتماع اللبناني في الجبل والجنوب. وكل هذا كان يتم تحت عين الرضا الاسرائيلية. صحيح أن البلد كانت مثخنة بجراحات الحرب وتنشد خلاصاً، ولكن بشير وسواه أيضاً من قادة الحرب الأهلية من المستحيل أن يصبحوا قادة سلام وطني بمعنى لملمة النسيج الاجتماعي الممزق والانشطار الطائفي الذي طغا على حياة البلاد وأهلها، وجعل أبناء طرابلس يلجأون إلى الدوران حول “المناطق الحرة ” للوصول إلى بيروت. هذا ولم نتحدث عن ألوف المفقودين والمخفيين قسراً من اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم، والذين ما تزال قضيتهم عالقة، في ملفات الدولة وأجهزتها وانكار وجودهم من جانب القوى التي شاركت في الحرب. ثم إن هناك العامل العربي الذي تمثل آنذاك بالعنصر الفلسطيني الذي أخرجه الغزو الاسرائيلي من معادلة البلاد قيادة وكوادر وعناصر، لكنه لم يستطع اقتلاع لبنان من محيطه العربي، والدفع بالعدو نحو اعتباره عامل انقاذ من تجاوزات الفلسطينيين وفوضاهم. وحزب الكتائب مثله مثل سائر الأحزاب التي خاضت في تلك المعمعة الدموية ثم خرجت منها بالكثير من الجراحات التي لم تبرأ منها، كونها لم تجر مراجعة لفكرها السياسي وممارساتها خلال تلك السنوات. خصوصاً وأنها كانت السباقة إلى اقتناء السلاح والتدرب عليه وتأسيسها الميليشيا الآهلية المسلحة، لذلك فإن ما قاله أميننا العام الراحل محسن ابراهيم عندما أخذ على الحركة الوطنية استباحة البلد للسلاح الفلسطيني واستهسال اعتماد لغة السلاح سبيلاً لتغيير النظام الطائفي، هو أكثر صحة على حزب الكتائب الذي تبنى هذا النظام، ودافع عنه حتى الرمق الأخير بين مقاتليه ومحازبيه وجمهوره، واستعان بكل من سوريا واسرائيل لتحقيق طموحه بإعادة تركيب النظام الطائفي، توصلاً إلى النهايات غير السعيدة التي تمخضت عنها الحرب الأهلية، وقادت إلى تمزيق لبنان، وجعلت منه فريسة سائغة بين أنياب الغزو الاسرائيلي والوصاية السورية، وصولاً إلى الوصاية الايرانية من خلال قوة حزب الله ونفوذه المتنامي والمهيمن على المعادلة اللبنانية. الكلمتان اللتان ألقاهما كل من النائبين نديم الجميل ورئيس الحزب سامي الجميل لم نعثر بينهما على كلمة واحدة تنطق بما يمكن أن يطلق عليه تسمية مراجعة لما حدث، ولو من باب النقد الذاتي المعروف في الاحزاب، وتوجيه رسائل سياسية لتطمين شركائهم في الوطن، خصوصاً ونحن على مسافة أربعين عاماً، وحدث فيها ما حدث من تطورات أوصلت الكيان والدولة والمؤسسات إلى ما يشبه الخواء الكامل، تتقاذفها قوى الداخل والخارج، دون أي أمل فعلي بالانقاذ على أيدي المنظومة المافياوية السياسية – المالية، أو بالحد من النتائج الكارثية المتصاعدة عبر خطة التعافي، والتي قاد تأخرها إلى حدود فقدان المؤسسات العسكرية والأمنية والادارية والقضائية الحد الأدنى مما تستطيع به الوصول إلى مراكز عملها والقيام بواجباتها.
صحيح أن كليهما- نديم وسامي الجميل- تحدثا كثيراً وطويلاً عن هيمنة حزب الله على البلاد، والعهد الذي تحول إلى مدافع عن سلاحه لدى الخارج، والذي يحاول إيجاد الفتاوى لبقائه في في سدة الرئاسة، والاستحقاق الرئاسي وضرورة تنفيذه كمدخل للانقاذ، مؤكدين على ضرورة خروج عون ولو قسراً من بعبدا، والوصول إلى رئيس انقاذي للبلاد لا مجال للتردد في اختياره من خارج تركيبة 8 آذار، لكن هذا لا يكفي للقول الفصل في السبيل إلى الخروج من المعادلات التي فُرضت مرة ومرات من تعطيل، وآخرها تلك التي جاءت بالرئيس ميشال عون بعد تعطيل الاستحقاق أكثر من عامين ونصف العام، وفي أعقاب تسويات قادت إلى ما قادت إليه من تحلل وانهيار شامل. الكلام الذي قيل حول مناسبة الاستحقاق كان موجهاً للنواب كمسؤولين عن الانتخاب، مع الاستعداد للتفاعل مع الطروحات التي تأتي برئيس انقاذي يخرج البلاد من نير الوصاية والعزلة إلى عودتها إلى الاندماج بالمدى العربي والدولي، بدل التمحور في خندق الممانعة. لكن السؤال هو ما هي مهمة الحزب، ونحن هنا نتحدث عن حزب تاريخي له جذوره وقواعده وتأثيره على الرأي العام، وبما يتجاوز اقتراع أو عدم اقتراع نوابه؟ وكيف تستعاد كتلته التاريخية في مجرى الضغط من أجل فرض الاستحقاق في موعده، وتأتي برئيس يفتح الأفق أمام الخروج من المآزق المستعصية على الحل، نتيجة نظام المحاصصة وتوزيع الأدوار على يد حزب الله “اعطنا القرار السيادي ونعطيك حصة في الصفقات والسمسرات”. لم نلمح في نص الكلمتين أي اصرار على النضال من أجل استعادة السيادة عبر الديمقراطية بمستوياتها الاجتماعية والشعبية، ومن خلال مشاركة أوسع كتلة مجتمعية في صناعة الاحداث على النحو الذي يحقق مصالحها في الإنقاذ للكيان والدولة ومؤسساتها. لا يعني أن حزب الكتائب يلّوح بالسلاح، بل على العكس كان واضحاً في رفض اللجوء إليه لفرض الخيارات على اللبنانيين، مقابل تلميح رئيس الحزب النائب سامي الجميل إلى الطلاق في حال أصر حزب الله على خياراته محاولاً فرضها على اللبنانيين، عندما توجّه الى امين عام حزب الله قائلا: “الخيار عندكم يا “سيّد حسن” إن كنتم تريدون العيش مع بقية اللبنانيين بالمساواة، وتحت سقف الجمهورية اللبنانية ودستورها شرفوا لننتخب جميعاً هذا الرئيس ليبدأ ورشة الانقاذ، أما إن كنتم تريدون فرض تغيير هوية الجمهورية، وعلى اللبنانيين حياة الذلّ التي نعيشها، فأنتم تتحمّلون مسؤولية الطلاق مع بقية اللبنانيين لأننا غير مستعدين للعيش على هذا النحو”.
ليس صحيحاً القول إن بشير الجميل كان سيادياً بالمطلق، والا كيف وصل إلى رئاسة الجمهورية على مسافة أكثر من شهرين فقط على انطلاقة الاجتياح الصهيوني من الشريط الحدودي في الجنوب إلى بوابات العاصمة بيروت. ومن دون عودة إلى ذلك الماضي وأدبياته، يمكن القول إن موضوع السيادات في عالم اليوم شائك وبالغ التعقيد في زمن العولمة، فكيف اذا أضيف إليها هذا الكم المتراكم من الانهيارات المحلية وحاجة البلاد من الأصدقاء والأشقاء إلى أبسط مقومات العيش والحياة اليومية؟
لا يعني ذلك تسليم البلد مقاليد أمورها إلى الخارج من يكون صديقاً أو عدواً، أو إلى قوة داخلية تملك ترسانة لا يملكها سواها، ولكن للقول إن الموضوع ليس مبسطاً على النحو الذي تطلقه الحناجر على المنابر. ثم إن الأهم من كل ذلك هو كيف يعيد اللبنانيون وصل ما انقطع بين مكوناتهم المجتمعية على تنوعها بعد انقسامات الحرب، وما تلاها من معازل نفسية وطائفية واجتماعية واقتصادية حتى، مضروباً بدمار الاقتصاد والنقد الوطني والافلاس والعجز عن واجبات الحد الأدنى للدولة، إزاء حقوق المواطنين كما في كل الدول والمجتمعات.. أسئلة كثيرة مطروحة على حزب هو مكوِّن رئيسي للاجتماع السياسي اللبناني. المسألة اذن أعقد من احتفالية بذكرى رحيل بشير الجميل الاربعين أو سواه. الموضوع يجب أن يكون مفتوحاً من حزب الكتائب وكل القوى السياسية اللبنانية مهما بلغ وزنها ودورها على محاولات جادة للاجابة عن الأسئلة الكبرى التي تتعلق بمصير هذا الكيان ووحدة الشعب وسط تفكك عرى الدول والكيانات العربية المحيطة، وما تفرزه من منوعات وصراعات مفتوحة على مزيد من المنازعات والنزاعات القاتلة.
Leave a Comment