سياسة

حروب اميركا وإيران واسرائيل وأوهام الانتصار

زكـي طـه

 بيروت 9 شباط 2024 ـ بيروت الحرية

لم تتأخر الإدارة الأميركية عن نجدة الكيان الصهيوني، والمشاركة في قيادة حربه، لحماية وجوده وضمان دوره في المنطقة. وفي السياق نجحت تلك الإدارة في دفع النظام الإيراني لإعلان براءته من عملية حماس، والتزام عدم مشاركته في الحرب التي قررتها بالتنسيق مع اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه. وبذلك تخلت إيران عن شعار “زحفاً زحفاً نحو القدس” الذي دأب فيلق القدس في الحرس الثوري على ترداده منذ تشكيله في أعقاب الثورة الايرانية.

لكن النظام الايراني لم يتخلَ عن طموح المشاركة  في إدارة أوضاع المنطقة وتقرير مصير بلدانها على رافعة تدخله في أزماتها. ولذلك استغل اعلان الإدارة الاميركية بأنّها لا تريد الحرب معه. وقرر دخولها مواربة عبر معارك “مساندة غزة”، التي تكفلت بها ميليشيات محور الممانعة، انطلاقاً من لبنان والعراق وسوريا واليمن. غير أن تلك المعارك لم تعدّل في أهداف الحرب الاسرائيلية ولم تبدّل في مساراتها التدميرية. ولم تجعل من إيران شريكا مقرراً لنتائجها، وفي ما يترتب عليها بشأن القضية الفلسطينية واوضاع المنطقة ككل.

ورغم تنصل ايران من المسؤولية عن معارك المساندة، التي تصادر قواها الطائفية إرادة بلدانها وتختزل مصالحها الوطنية. إلا أنها نجحت في تهميش الحرب على غزة. وجعلت المنطقة رهينة حروبٍ متوازية ومتشابكة، لكل منها ايقاعها ومسرحها الخاص، لأنها موصولة بأزمات البلدان التي يساهم  التدخل الايراني في بقائها مفتوحة، تحت سقف استراتيجية الادارة الاميركية لها، وبذريعة مقاومتها.

ولأن طموح النظام الايراني لم يتحقق. فقد كان من الطبيعي أن تتعمد الميليشيات المدعومة منه تصعيد عملياتها. ما أدى إلى شد أنظار العالم نحو الساحات التي تدعي وصلاً بالحرب على غزة. وفي تشتيت تفاعل دوله مع ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتدمير ولا يزال.

وبعيداً عن صيغة الرد الاميركي، على عمليات القصف التي نفذتها ميليشيات الحشد الشعبي، ضد قواعده في العراق وسوريا، وآخرها قصف قاعدة التنف عند الحدود الأردنية – السورية – العراقية، والذي سقط بنتيجته عدد كبير من الجنود بين قتيل وجريح. واختلافها عن صيغة الرد على استهداف ميليشيات الحوثي اليمنية للسفن التجارية في البحر الأحمر بذريعة منعها من التوجه نحو الموانىء الإسرائيلية. وبغض النظر عن التحليلات حول اسباب تأخر الرد، بين مطالب بالتسريع ومشكك بحصوله، وراغب في  التعرض المباشر لإيران. ودون الغرق بالنتائج الميدانية لتلك الردود التي لا يمكن الاستهانة بها، إن على صعيد تصفية بعض قيادات الميليشيات، أو المراكز والمواقع التي تعرضت للتدمير سواء في سوريا والعراق، أو اليمن. لكن الثابت  لغاية الآن أمران. الأول: تكرار الحرص المتبادل بين اميركا وايران على عدم الدخول في مواجهة مباشرة بينهما، رغم تحميل أو نفي الاخيرة المسؤولية عن العمليات التي تنفذها التنظيمات التابعة لها. والثاني: أن ما قامت به اميركا حتى الآن هو بداية الرد الذي يتناسب مع  مصالحها وسياستها ودورها. ما يعني أن مسارح تلك المعارك ستكون امام ردود متنوعة ومتدرجة يستحيل معرفة أهدافها مسبقاً أو التحكم بطبيعتها ونتائجها. هذا ما أكدته الوقائع اليومية، وآخرها استهداف بعض قادة ميليشيات حزب الله العراقي والحشد الشعبي وسط بغداد.

وعليه بات العالم مشدوداً لمتابعة الرد الاميركي ونوعية الاسلحة المستخدمة والاهداف التي طالها لغاية الآن. وفي مدى تأثيرها على دور تلك القوى وقدرتها على المواجهة والرد. بالاضافة إلى انعكاساتها على الدور الايراني الذي يتجنب المواجهة المباشرة. وبصرف النظر عن تحميل واشنطن المسؤولية عن دفع المنطقة نحو حرب شاملة، وعما يُطلق من شعارات تطالبها بالانسحاب من العراق وسوريا، والكف عن قصف مواقع الحوثيين في اليمن، وإدانة دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل. يبقى الأهم، هو إفراط النظام الايراني في استخدام اوراق القوة التي يمتلكها، لتحصين نفوذه ومواقعه وانتزاع دور في تقرير أوضاع المنطقة. دون ان يعني ذلك إستسهل التفريط بها، لأنها تساهم في  تعزيز قدرته على خوض معركة الدفاع عن وجوده في ظل احتدام الصراع بين أجنحته على السلطة، وفي موازاة مضاعفات الاستبداد والقمع  للحركات المطلبية، ومفاعيل اضطهاد سائر مكونات المجتمع الايراني وخطر انفجاره الماثل للعيان.

وعليه، لا يعود مستغرباً أو مستهجناً، أن يُمعن النظام الايراني في إدامة المعارك التي يشرف عليها، وإبقائها عصية على التسويات أو الحلول. معتمداً في ذلك على استجابة القوى التي تحتاج دعمه وتستقوي به. عدا كونها ركائز نفوذه وأدوات الاشتباك مع مجتمعاتها، ومواجهة قوى الخارج من مواقعها الطائفية والفئوية. يعني ذلك أن المصالح والسياسات الايرانية تتقاطع مع مثيلتها الاميركية في اطار استراتيجية الفوضى الخلاقة وسياسة الاستثمار في الازمات والحروب القائمة.

في هذا السياق تتزامن الحرب الاسرائيلية التي تهدف إلى تصفية قضية وحقوق الشعب الفلسطيني، مع المعارك المفتوحة في العراق وسوريا واليمن ولبنان تحت راية مساندة غزة، والتي تشكل محطات في حروب مستدامة تتعلق بأوضاع ومصائر تلك البلدان، حيث تتشابك عوامل الانقسام الداخلية بمع التدخلات الخارجية. ما يمكن الولايات المتحدة الاميركية من التدخل المباشر فيها، ومن لعب دور المقرر وضابط الايقاع لمساراتها ولمستويات التصعيد والتهدئة، لتنفيذ مشاريع سيطرتها على المنطقة، ومخططات الهيمنة على مواردها، والتحكم بأوضاع بلدانها ومصائرها في آن.

وفي معمعة الحروب المتوازية، تختلط المسارات وتتشابك الأحداث، وتضيع أولوية متابعة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، من مجازر بشرية وعمليات تهجير وتجويع وتدمير، وتكاد تصبح شأنا خاصاً بمنفذيها وضحاياها. ولذلك تفقد قرارات محكمة العدل الدولية أهميتها، رغم مطالبتها اسرائيل بوقف الأعمال العسكرية المتصلة بحرب الإبادة، والسماح بدخول المساعدات الانسانية.

ولا تختلف عنها المساعي الاميركية للتوصل إلى هدنة هدفها الاساسي الافراج عن الاسرى الإسرائيليين، وإعادة تنظيم العمليات الحربية لمطاردة المقاومين، بديلاً عن الوقف النهائي لحرب الإبادة المفتوحة التي تتحكم الادارة الاميركية بمساراتها. كما تتحكم أيضاً بالاتصالات والضغوط الدولية والعربية على حماس والسلطة الفلسطينية من أجل دفعهما للتسليم بالأمر الواقع الكارثي، بقوة رفضها لوقف اطلاق النار.

وعليه فإن البحث في اتفاقات اطار لتمرير الهدنة، يبقى محكوماً لموازين قوى تعاني خللاً فادحاً، لا يخفف من وطاته سلاح الرهائن، ولا تصوبه العمليات البطولية. وفي هذا الاطار تقع الاعلانات الاميركية والاوروبية حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والغير قابلة للصرف. أولاً لأنها مرفوضة من قادة الكيان الصهيوني. وثانياً لأن صيغة وجودها وموعد ولادتها يبقيان رهن نتائج الحرب التي لن تنتهِ. عدا حالة الانقسام التي تساهم في هدر تضحيات الشعب الفلسطيني، كما تجعل من أعداد الشهداء والجرحى والمفقودين والنازحين إلى مجرد أرقام.

لذلك، بات الاولوية الاهتمام بأخبار الردود الاميركية التي تُنفذ في سوريا والعراق أو اليمن، بالتزامن مع عمليات القصف الاسرائيلي التي تستهدف قيادات الحرس الثوري الايراني ومراكزه ومواقع الميليشيات الملحقة به في سوريا، وسط تبادل الاتهامات عن اختراقات أمنية بين النظام الباحث عن ضمانات بقائه، والميليشيات المشغولة بتنظيم التلاعب بالديمغرافيا عبر عمليات الاستيطان مكان السوريين الذي اجبروا على الهروب أو هربوا من القتال والبراميل المتفجرة أولاً، والمجاعة الزاحفة ثانياً.

في المقابل يستمر التصعيد وتبادل عمليات القصف التدميرية على الجبهة اللبنانية مع العدو الاسرائيلي، الذي يُكثر قادته من تهديداتهم في حال فشل المساعي الدبلوماسية لتنفيذ القرار 1701. وهي المساعي التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية والدول الاوروبية الداعمة لاسرائيل، تحت راية التهدئة التي يربطها حزب الله بوقف الحرب على غزة، ولا تقبل بها اسرائيل لأنها ترفض العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل السابع من تشرين الاول الماضي. وعليه، يبقى الوضع مشرعاً على شتى الاحتمالات.

في هذا السياق تتوالى التحليلات حول أزمة الرأسمالية والدور القيادي للولايات المتحدة للنظام العالمي وعجزها عن تحقيق الانتصارات على خصومها ومنافسيها. ويتسع سيل القراءات التي تبشر بنهاية الكيان الصهيوني تحت وطأة خسائره الكبيرة، والخلافات التي تعصف بصفوف قياداته، التي فشلت في تحقيق اي من أهداف حربها. وتتصاعد الرهانات حول ما تقوم به  أميركا أو ايران، انطلاقا من رغبات اصحابها، وتتعدد الاجتهادات بشأن المنتصر والمهزوم منهما.

لقد فات هؤلاء جميعاً، أنهم بذلك هجروا البحث في أزمات بلدانهم أولاً، وأداروا الظهر للواقع الصعب الذي ياسر مجتمعاتنا ويبقيها مستباحة وخارج القدرة على الفعل، وغاب عنهم حجم الخسائر المهدورة التي ندفعها. وإنا ضحايا  الهروب من المسؤولية وادمان إحالتها على الآخرين.  يؤكد  ذلك حالة العجز عن الانتساب إلى المصالح الوطنية لبلداننا وعن انقاذها في آن. إنه الواقع الصعب في سائر البلدان والمجتمعات التي تشكل ساحات حروب ومعارك تظللها رايات هزيمة اميركا وتدمير إسرائيل، وشعارات هزيمة الاحتلال الايراني وطرد عملائه، وأوهام الانتصار على الآخر في الوطن.

وعليه تتجدد المغامرات غير المحسوبة، ويستمر هدر التضحيات، وتتراكم الانتصارات التي لا نعثر على معالمها وسط  مقابر الشهداء والمفقودين تحت الركام، وتجمعات الجرحى المتروكين لمصيرهم،  أو بين قوافل وخيم النازحين والمشردين.  ولذلك يتجدد السؤال إلى متى نبقى ننتظر من يقيم لنا دول استسهلنا تدميرها والتفريط بما كان لدينا وكأننا لا نريدها؟؟…

Leave a Comment