سياسة مجتمع

حرب اميركا لاستكمال تفكيك بلدان المنطقة واعادة رسم خرائطها

زكـي طـه

 بيروت 22 تشرين الاول 2023 ـ بيروت الحرية

صحيح أن عملية “طوفان الاقصى” حدث استثنائي في مسار الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني الطويل، بالنظر لطبيعتها المختلفة عن كل ما سبقها من عمليات نوعية، تشهد عليها النتائج المترتبة عنها، على كل المستويات السياسية والعسكرية، سواء في الميدان الاسرائيلي والاستنفار الدولي لنجدته، أو على صعيد مصير الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه في ظل العجز العربي. لكن الصحيح أيضاً أن قرار الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية التي بدأت بذريعة الرد على تلك العملية، لا يمكن حصر استهدافاتها في الميدان الفلسطيني، لأن الاسباب والعوامل التي تجعلها موصولة بأوضاع المنطقة، أكثر من أن تحصى. إن لناحية ارتباط قضية ومصير الشعب الفلسطيني بأوضاع المنطقة العربية، وما آلت إليه راهناً، بعد عقود ثلاث على ما سمي “مؤتمر السلام العربي الاسرائيلي”. أو لجهة صلتها المباشرة بالتحديات والمخاطر التي تهدد مصير البلدان العربية المحيطة بفلسطين في ضوء نتائج انفجار أزماتها البنيوية والسياسية. يضاف إلى ذلك علاقات الجهة التي نفذت العملية، وارتباطاتها السياسية وموقعها في استراتيجيات كل من إيران وتركيا وتدخلهما في شؤون بلدان المنطقة، بالاضافة إلى رعاية إمارة قطر لها، في إطار دورها المتعدد الاوجه على الصعيدين الاقليمي والعربي.

من الواضح أن الحرب  الاميركية ـ الاسرائيلية المعلنة، الآن تختلف من حيث سياقها وأهدافها وتوازن القوى فيها عن كل ما سبقها من الحروب الاسرائيلية ـ الفلسطينية العربية المتداخلة. بدءاً من حرب تشرين 1973، التي كان من نتائجها اخراج مصر من دائرة الصراع العربي مع اسرائيل وتحييد سوريا، ومحاصرة الثورة الفلسطينية المسلحة والمأزومة في لبنان. مروراً باجتياح اسرائيل صيف 1982 للبنان واحتلال عاصمته، وإجبار منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها على الخروج منه إلى المنافي العربية. قبل أن يتخذ الصراع مع اسرائيل منحى سلمي عربياً تمثل باطلاق مبادرة “الارض مقابل السلام”. إلى الانتفاضة الشعبية السلمية في الضفة الغربية وقطاع غزة وتجدد الصراع مع اسرائيل على ارض فلسطين. وتحول قضيته الوطنية عائقاً اعتراضياً جدياً امام انعقاد مؤتمر السلام العربي، الذي نتج عنه لاحقاً اتفاق وادي عربة للسلام مع الاردن، الذي اضيف إلى إتفاق كامب ديفيد مع مصر. ثم اتفاق اوسلو  مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الضفة الغربية، وفي قطاع غزة الذي انسحبت منه اسرائيل.

وأمام مأزق استحالة استكمال تنفيذ الاتفاق، وانسداد أفق التسوية السياسية، اندفع الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي مجدداً في مسار صراعي مسلح وضع دولة اسرائيل أمام تحديات خيار الدولتين على أرض فلسطين، كما وضع السلطة أمام تحدي قبول ما هو ممكن ومتاح لها. مما كانت له تداعياته السلبية على أوضاعهما الداخلية، وكان من نتائجه صعود اليمين الاسرائيلي الذي لا يعترف بوجود وبحقوق الشعب الفلسطيني. مقابل انقلاب حركة حماس على وحدة السلطة الفلسطينية والانفراد بإدارة قطاع غزة، الذي تحوّل مسرحاً لمسلسل من المعارك والحروب المدمرة.

في المقابل وفي موازاة  التحضير لمؤتمر السلام العربي الاسرائيلي، كان من تداعيات نهاية الحرب الايرانية العراقية المرعية دولياً، أن اندلعت حرب “تحرير الكويت” من الاحتلال العراقي. ومن ثم احتلال وتدمير العراق بذريعة اسلحة الدمار الشامل،  بقيادة الولايات المتحدة للتحالف الدولي الذي شاركت فيه جهات اقليمية عربية ودولية. وهي الحرب التي حكمت بنتائجها ومضاعفاتها الخطيرة أوضاع سائر بلدان ودول المنطقة.

لقد وجدت كل من ايران وتركيا في استراتيجية “الفوضى الخلاقة” الاميركية، مظلة لمخططات توسيع وتعزيز نفوذهما في المنطقة. ولذلك سارعت إلى رفع راية المواجهة مع اميركا واسرائيل. وسعت للاستثمار في أزمات بلدان دول الجوار العربي من خلال التدخل في شؤونها الداخلية، والعمل على استغلال مأزق انظمة الاستبداد التي تحكمها بقوة القمع والقهر، من أجل تزخيم الأزمات البنيوية لمجتمعاتها وتفجير الخلافات بين تشكيلاتها الطائفية والعرقية الموروثة. وعليه تحولت هذه البلدان ساحة مفتوحة لمسارات من النزاعات والحروب الاهلية التفكيكية والتدميرية لا نهاية لها، وسط تنافس محموم من الجهات الاقليمية والدولية على المشاركة فيها بكل الوسائل والامكانات المتاحة لها.

إن المحصلة الاجمالية لتلك المسارات، التي يمكن وصف ما أنتجته بالوضع الراهن في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان و…  وجهه الاول النتائج التدميرية الهائلة والخطيرة لعمرانها واقتصاداتها. ووجهه الثاني والأخطر  هو حالة الفوضى الكيانية المطلقة، على صعيد هوياتها الوطنية التي جرى تبديدها، واوضاع مجتمعاتها، التي تعرضت للتفكيك والفرز السكاني وحملات التهجير في الداخل وإلى الخارج، وتقاسم مناطقها على اسس طائفية وعرقية، وانهيار مؤسسات الدولة فيها ودمار قطاعاتها الخدماتية ونهب مواردها. انتهاء بأحوال قواها الأهلية الخاضعة بالكامل لهيمنة ووصاية مرجعياتها الخارجية. وهي التي جعلت منها ركائز وأدوات في حروبها المستدامة لحماية مصالحها وضمان حصصها من النفوذ والمغانم. في وقت اصبحت فيه نخب تلك المجتمعات ملاحق تابعة ومجموعات عاجزة، فاقدة لأهلية القيام بأي دور انقاذي لبلدانها، أو المشاركة في البحث حول اسئلة المستقبل والمصير، وانتظار ما سيقرر لها من مصير مجهول.

إن تداخل وتشابه القضايا التي تواجهها كيانات وشعوب البلدان العربية، وخاصة منها المجاورة والمحيطة بفلسطين، وفق ما انتهت إليه أوضاعها بعد مائة عام على إعلان تأسيسها في صيغتها الراهنة. يشكل الوضع الراهن والمشترك لها، بالنظر لطبيعة التحديات والصعوبات والمخاطر المصيرية المتداخلة والمتشابكة التي تواجهها شعوبها ومعها الشعب الفلسطيني في الشتات وتحت الاحتلال. وهو الوضع الذي يفرض طرح الكثير من الاسئلة التي تتعلق بمصيرها وبقدرتها على الصمود في مواجهة  مخاطر التبديد والتهجير، وفي إعادة تشكيل وبناء وطنياتها وتجميع وتوحيد قواها حول حقوقها ومصالحها المشتركة كمجتمعات، وبناء دولها سبيلاً وحيداً لأنقاذ بلدانها كي تبقى اوطان لها في المستقبل.

مع تحديات الحرب  الاميركية ـ الاسرائيلية والدعم الدولي غير المسبوق لأهدافها الخطيرة التي لا تقتصر على حماية دولة اسرائيل وتكريس وجودها على حساب وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته الوطنية على أرضه، وعلى حساب مستقبل شعوب وكيانات ودول المنطقة، عبر استكمال تفكيكها قبل إعادة رسم خرائطها وترسيم دويلات الامر الواقع الطائفي والمذهبي والعرقي فيها. وهي الاهداف التي لا تتناقض مع مخططات وسياسات كل من ايران وتركيا، التي ثبت بالملموس لغاية الآن أن نتائجها كانت كارثية على شعوب ودول المنطقة، لم ولن يستفيد منها سوى أميركا واسرائيل.

أمام تصاعد التحديات والمخاطر، وفي موازاة إرتفاع وتيرة الإنذارات والتهديدات الاميركية، وتقاطر رؤساء الدول الغربية لشد عصب دولة اسرائيل، ومع إستمرار عمليات القصف التدميري للمرافق السورية دون رد. وتكرار عمليات إدامة الاشتباك بشكل عبثي على الحدود الجنوبية للبنان، من قبل دُعاة وحدة الساحات الوهمية مع العدو الاسرائيلي وخطر تعريضه للدمار والخراب والدفع به نحو المجهول. وأمام تصاعد وتيرة عمليات الإبادة والقتل الجماعي للشعب الفلسطيني، ومتابعة عمليات التهجير والحصار والتدمير التي يتعرض لها على أرضه وفي وطنه. وكما تتجدد التحديات، تتجدد الاسئلة المصيرية التي طال الهروب من تنكب مسؤولية البحث فيها. كذلك يتجدد بصيص الأمل الآتي من صمود شعب فلسطين المتروك وحيداً لقدره وهو يدفن ضحاياه وأشلاء إطفاله تحت ركام بيوتهم المدمرة وفوق أنقاض مدنه المنكوبة، ومعها مناشدات القادة العرب غير القابلة للصرف في سوق نخاسة قادة دول العالم المتحضر التي تشرّع وتراقب بأعينها مذبحة أطفال فلسطين بأسلحتها “الحديثة”.

Leave a Comment