مجتمع

تهديد حقوق المستأجرين بالسكن

حالات تهديد حق السكن

تُعتبر الدولة اللبنانية، وبموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي انضّم إليه لبنان عام 1972، ملزمة بتقديم تقارير دوريّة عن الوضع السكني في لبنان11، على أن تكون هذه التقارير مبنيّة على الرصد الفعّال للواقع السكنيّ، وتضمّ معلومات مفصّلة عن الجماعات المهمّشة والمفقّرة، والتي تشمل الأفراد والأسر الذين لا مأوى لهن\م، وأولئك اللواتي والذين يعيشون في مساكن غير ملائمة أو مناطق “غير رسمية”، واللواتي والذين يتعرّضون لإخلاءٍ قسريّ، إلخ12. على هذه التقارير أن تشمل أيضاً تقدّماً على طريق ضمان احترام هذا الحقّ. غير أنّ الدولة اللبنانيّة تقاعست في رفع تقاريرها الدورية إلى اللجنة الدولية المكلفة رصد تنفيذ هذا العهد، بحيث تمّ إحالة تقريرين وحيدين ذوي صلة بالحقّ في السكن، وذلك في عامي 1993 و2015.

في ظلّ عجز الدولة اللبنانية عن الإيفاء بأدنى التزاماتها، تبرز معضلة محورية مرتبطة بقدرتها على صياغة استراتيجيّة وطنيّة فعّالة من أجل ضمان احترام الحق في السكن اللائق، على مستوى نقص البيانات والمعطيات الدقيقة والدراسات والإحصاءات الدورية عن الأوضاع السكنية للناس في لبنان.

في هذا السياق، يسعى استديو أشغال عامة إلى معالجة هذه الإشكالية عبر السبل المتاحة، من خلال تطوير أدوات للدفاع عن الحقوق السكنية في لبنان، وجمع بيانات فعلية عن الانتهاكات المتعدّدة لهذا الحقّ، وذلك عبر برنامج “مرصد السكن” الذي يحثّ السكّان على التبليغ عن التهديد بالإخلاء وانتهاك حقوقهم السكنية، مستجيباً من خلال طرق مختلفة، كإرساء مسار قانوني لكل بلاغ، والضغط على الجهات المعنيّة المسؤولة، والتضامن الجماعي. تستند بيانات المرصد إلى بلاغات يتلقّاها عبر خطّه الساخن، أو عبر الفريق الميداني للمرصد، أو عبر مجموعات وأفراد متعاونين معه، ويتابعها فريق المرصد المؤلّف من باحثات\ين وحقوقيات\ين. ومنذ عام 2020، يقوم مرصد السكن بإصدار تقارير دورية عن معدلات عمليات الإخلاء المتزايدة، ويحذّر منذ بداية عمله من الأزمة السكنية المتفاقمة نتيجةً لعوامل قديمة ومتجذّرة وأخرى مستجدّة، تمّ ذكرها آنفاً.

وفي إطار عملنا لتوثيق مدى انتهاك الحقّ في السكن اللائق، قمنا أيضاً، وبالاستناد إلى المعايير والخصائص التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 4، بإعادة تعريف هذه المعايير وتكييفها بما يتلاءم مع السياق الاجتماعي والثقافي المحلي ومع أشكال الانتهاكات الشائعة والممارسات التي تحكم قطاع الإسكان في لبنان. وُضعت مؤشرات لقياس هذه المعايير، ثمّ تُرجمت هذه المؤشرات إلى مجموعة من الأسئلة ضمن استمارات تُطرح على الحالات المُبلّغة.

لذا، يأتي هذا التقرير، كمسعى لإعطاء صورة كافية وشاملة للحالة السائدة، ومدى إنتهاك لبنان للحقّ في السكن. بذا، سنبدأ بتحليل كمّي للبلاغات المرصودة والنظر في حجم الإخلاء ونطاقه؛ لننتقل بعدها إلى استعراض مفصّل لمدى الانتهاك الحاصل لكلٍّ من المعايير الموضوعة للحقّ في السكن؛ ونستعرض أخيراً طرق الاستجابة التي قمنا بها لنبيّن قصور الإطار القانونيّ الذي يحدّ من القدرة على الدفاع عن الحقّ في السكن اللائق، ونقدّم توجّهات متعلّقة بالقوانين والبرامج والممارسات اللازمة لضمان توفير السكن الميسّر واللائق للجميع.

عن البلاغات

يُوثّق هذا التقرير حالات تهديد السكن بين أوّل آذار حتّى آخر تشرين الثاني من عام 202213. وقد وصل إلى المرصد خلال هذه الفترة 170 بلاغاً14. وقد حُلّلت الظروف السكنية لـ 163 حالة من بين هذه البلاغات. تُشكّل هذه البلاغات التي تمّ تحليل ظروفها السكنيّة، العيّنة التي سيُبنى التحليل على أساسها في هذا التقرير.

بلغ عدد الأفراد المتأثرات\ين بهذه التهديدات السكنية 659 شخصاً. وقد طالت هذه التهديدات بشكلٍ خاص العائلات بنسبة 82.2%15، إلى جانب أفراد بنسبة 11%، وتوزّعت النسبة المتبقّية على عاملات أو سيدات مستقلّات (3.8%)، موظّفين (1.8%) وطلّاب (1.2%). مع ارتفاع نسبة العائلات التي تواجه تهديداتٍ على مستوى سكنها، جاء توزيع المتأثّرات\ين بحسب الفئات العمريّة بشكلٍ شبه متساوٍ بين الأفراد المتضررين فوق الـ 18 سنة (58.3%) والأطفال دون الـ 18 سنة (41.7%)، ومن ضمنهم 3.5% هم من الأطفال ما دون الثلاث سنوات. من ناحيةٍ أخرى، ومن بين الفئات الأكثر هشاشة التي تمّ رصدها، بلغت نسبة النساء اللواتي يعشن وحدهنّ أو مع أولاد 8.8% ونسبة المسنين 3.95% ونسبة الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة 0.91% ونسبة الأفراد من مجتمع الميم 0.46%.

جغرافياً، جاء العدد الأقصى من البلاغات من بيروت الإدارية بنسبة 24.5%، ضمنها 10.4% من مجمل البلاغات أتت من المناطق العقارية المتضرّرة مباشرةً من تفجير 4 آب (المدوّر التي تشمل حيّي الكرنتينا والرميل) ونسبة 3% من المناطق المتاخمة لها (الأشرفية، زقاق البلاط والباشورة)، و11% من مناطق عقارية أخرى في بيروت16. بعد بيروت، احتلّت مدينة طرابلس النسبة الأعلى من البلاغات (23.3%)17.

بالنظر إلى بيروت الكبرى، يتبيّن لنا أنّ 30% من البلاغات جاءت من المنطقة الممتدّة عملياً على طول الساحل اللبناني بين خلدة وضبية وعلى السفوح الغربية لأقضية عاليه وبعبدا والمتن، بينها وبنسبٍ بارزة، 9.2% من البلاغات من برج حمود التي تأوي حالياً السكان من ذوي الدخل المحدود والطبقة العاملة من جميع الجنسيات (اللاجئات\ين، والعمال المهاجرين)، إلى جانب بلاغات متعدّدة أغلبها من المناطق الأقرب من بيروت الإدارية18. وقد توزّعت البلاغات المتبقية (22.2%) على مناطق لبنانية مختلفة، بينها بلاغات واردة من مدن رئيسية ومحيطها كصور، صيدا، زحلة وجونيه أو من مناطق أخرى خارج المدن الرئيسية وضواحيها19.

فيما يتعلّق بجنسيات المبلّغين، فقد جاءت النسبة الأعلى من التبليغات من حاملات\ي الجنسية اللبنانية (55.2%)، على عكس التقرير السنوي السابق الذي وثّق حالات تهديد السكن بين أوّل أيّار من عام 2021 وآخر شباط من عام 2022 والذي كانت فيه فئة اللاجئين/ات السوريين الفئة الأكثر تضرراً. بعد اللبنانيين/ات، كانت النسبة الأعلى للمبلغين من اللاجئين/ات من الجنسية السورية (27.6%)، وسجّلت بعدها فئة المهاجرين/ات نسبة 11.75%، وهي تضمّ أفراداً متضرّرين من أثيوبيا، الكاميرون، السودان، كينيا، أميركا، تركيا، ساحل العاج ونيجيريا. تُبيّن لنا هذه الأرقام، إلى جانب معرفتنا وإدراكنا للواقع اللبنانيّ الحالي الذي لم يعد يخفى على أحد، أنّ الأزمة الاقتصادية الحادة والمستمرّة إلى أجلٍ غير محدد، تُلقي بثقلها على اللبنانيين/ات وعلى الفئات الأكثر هشاشةً من اللاجئين/ات والمهاجرين/ات على حدٍّ سواء، خصوصاً فيما يتعلّق بالحقوق السكنية.

وقد وجدنا تفاوتاً ملحوظاً في نسب المبلّغين بحسب نوع الوصول إلى السكن. فقد حصدت البلاغات المتعلّقة بإيجارات جديدة20 الحصة الأكبر من البلاغات بنسبة 85.3%، مقابل 6.1% للإيجارات القديمة21 و3.1% في حالات الوصول إلى السكن من خلال التملّك. كما وثّق المرصد أنواعاً أخرى وأكثر هشاشة من الوصول إلى السكن، كالسكن بواسطة الإيجار في مخيمات اللاجئين، السكن بالتسامح، السكن مقابل عمل أو وظيفة، السكن من خلال وضع اليد أو من خلال الإيواء المؤقت لدى معارف. وقد يكون ارتفاع نسبة البلاغات للإيجار الذي يخضع لقانون الإيجارات الجديد، مؤشّراً على قصر هذا القانون -الذي يتحيّز بشكلٍ واضح في تشجيع الاستثمار العقاري بدل السكن المستدام- في حماية وصون الحقوق السكنيّة للمستأجرين. كما يشير ارتفاع نسبة هذه البلاغات إلى انتهاك صريح لهذا القانون الذي، وعلى الأقلّ، من المفترض أن يضمن الحق في استخدام المأجور لمدة ثلاث سنوات.

حجم الإخلاء ونطاقه

بحسب لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، “إنّ حالات إخلاء المساكن بالإكراه لا يمكن أن تكون مبرّرة إلا في بعض الظروف الاستثنائية جداً ووفقاً لمبادئ القانون الدولي ذات الصلة”22، حيث تشكّل ممارسة الإخلاء القسري انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، كونها تمسّ بأمن الأفراد السكني. وبالرغم من ذلك، ومن ضمن مجمل البلاغات التي تلقّاها المرصد، تمّ رصد 92 حالة طلب إخلاء و13 حالة إخلاء منفّذ.

تتّخذ طلبات الإخلاء أشكالاً متعددّة، لكنّها في غالبيتها غير قانونية. فيما يحدّد القرار رقم 501 الصادر بتاريخ 11/11/2002 عن القاضي المنفرد في بيروت، وجوب المؤجر اللجوء إلى القضاء لإخلاء المستأجر حين يرفض الأخير الإخلاء بالتراضي23، فإنّ الطلبات الشفهية شكلت نسبة 78.3%، مقابل 19.5% لطلبات الإخلاء المكتوب و2.1% للدعاوى القضائية. بالنسبة لطلبات الإخلاء المكتوبة، فقد صدر بعضها عن كاتب عدل (44.4%)، أو  محامٍ (33.3%)، كما أرسلت بلدية طرابلس 3 طلبات إخلاء مكتوبة لتشكّل نسبة 16.6%. وفي حين يكون المالك (68.5%) أو الوكيل أو الوسيط (26.1%) الجهة التي تطلب عادةً الإخلاء، فقد رصدنا أيضاً 4 حالات (4.3%) جاء فيها طلب الإخلاء من قبل جهة رسمية (بلدية)، إضافةً إلى حالة واحدة (1.1%) طلبت فيها منظّمة غير حكومية الإخلاء بشكلٍ مؤقت، وهي حالة متعلّقة بمشروع ترميم أبنية سكنية تراثية متضرّرة من تفجير 4 آب.

غالباً ما يترافق طلب الإخلاء مع ممارسات تعسفيّة، وبالفعل فقد تتبعنا 36 حالة ترافق فيها طلب الإخلاء مع ممارسات تعسفية. يشكّل التعدّي اللفظيّ الإنتهاك الأكثر شيوعاً (20)، يليه التهديد بالاعتداء (13 حالة)، ثمّ قطع الماء والكهرباء (8 حالات) وصولاً إلى دخول المنزل بالقوّة، حجز المستأجر خارج المنزل أو داخله، التهديد برمي ممتلكات المستأجر خارج المأجور، رفض تسلّم بدل الإيجار، وغيرها من الممارسات، أو حتّى عدّة ممارسات تعسفيّة معاً.

فيما خصّ خيارات السكن البديل للحالات المهدّدة بالإخلاء، فقد اعتبر 14.3% من الحالات المهدّدة بالإخلاء بأنّهم سيتعرضون للتشرّد في حال تمّ إخلاءهم، وسيسكن 11% منهم بشكلٍ مؤقت عند أصدقاء أو أقارب، فيما سيتمكّن 2.5% فقط من الانتقال إلى شقة مُلك، بينما أعربت النسبة الأكبر (74.8%) أنّها ستدخل في علاقة تأجيرية جديدة إذا ما تمّ إخلائها – ممّا ينبئ بتهديد مستمر للاستقرار السكني. تبقى البدائل المتوفّرة أمام الحالات المهدّدة بالإخلاء محدودة وهو ما يتسبّب غالباً بتدهور في حياة الأفراد والعائلات المهدّدة، خصوصاً بالنسبة للمهمشات\ين أو المستضعفات\ين في المجتمع، ويعرّضهم إلى الفقر المدقع والعوز.

بالنسبة للحالات الـ 13 المرصودة والتي نُفّذ فيها الإخلاء، فقد انتقل 6 منها إلى حيّ آخر ضمن المدينة ذاتها، وانتقل ثلاث منها ضمن الحي ذاته، بينما أُجبرت حالتان على الانتقال إلى خارج المدينة (الضواحي) وهو ما قد يُكبّدها نفقات إضافيّة مخصّصة للمواصلات؛ ولم تستطع سوى حالة واحدة الانتقال ضمن الحيّ نفسه، فيما انتقلت حالتان أيضاً إلى خارج البلد.

يجدر الإشارة هنا، إلى تركيز لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 4 المتعلّق بالحق في السكن الملائم على أهميّة توفير ضمانات قانونيّة تحظر ممارسة التمييز والتعسّف، وتعزّز الإجراءات القانونية الواجبة والإنصاف الإجرائي بما فيها التشاور والمشاركة في صناعة القرار والوصول إلى سبل الإنصاف والتعويض وتوفير مأوى بديل لائق، ويشمل ذلك إمكانية تقديم الطعون أو الاستئنافات القانونية التي ترمي إلى منع عمليات الإخلاء المخطط لها من خلال إصدار أوامر قضائية بأمر من المحكمة؛ تأمين الإجراءات القانونية اللازمة لضمان الحصول على تعويض بعد الإخلاء غير القانوني؛ تقديم الشكاوى ضد الأفعال غير المشروعة التي يقوم بها الملاك فيما يتعلّق بتحديد قيمة الإيجار وصيانة المسكن وأيّ شكل من أشكال التمييز والشكاوى بخصوص ظروف السكن غير الصحية أو غير الملائمة؛ كما والبحث في إمكانية تيسير إقامة الدعاوى الجماعية في الحالات التي تنطوي على مستويات متزايدة بشكل كبير من التشرد. 

* من التقرير السنوي المرفوع إلى الأمم المتحدة  الذي اعده مرصد السكن في لبنان/ القسم الثاني.

*  يعمل مرصد السكن على توثيق حالات تهديد السكن، وبناء تضامن جماعي ودعم الحق في السكن للجميع دون تمييز، كما يضغط نحو سياسات سكنية دامجة.

بلّغ/ي عن انتهاك حقك بالسكن الآمن واللائق والمستدام عبر  على الرقم  81017023، أو عبر البريد الالكتروني: [email protected].

Leave a Comment