شباب

تسونامي الكورونا يطلق أول تصادم أميركي- صيني

صنعت أميركا نظاماً عالمياً خدمت معظم أدواته الدولية [خصوصاً الأمم المتحدة ومتفرعاتها] توجهها في السيطرة بقوة النفوذ الاقتصادي و”القوة الناعمة” للنموذج الأميركي، وإدارة سياسية للنظام العالمي.

يحدث الآن عبر وباء كورونا، أول صدام مباشر تاريخياً بين أميركا والصين. الحدث ليس تفصيلاً، بل يكاد صعود الصين كقوة هيمنة عالمية (وإزاحتها اليابان) هو المتغيّر العميق شبه الوحيد منذ سبعينيات القرن العشرين وربما عشرينياته، وللمحطتان دلالة، خصوصاً لجهة الهيمنة الأميركية المستمرة (والأرجح أنها ستستمر، ولنترك الأوهام).

يحدث الآن عبر كورونا، للمرّة الاولى “أزمة مُرَكَّبة” في أميركا تترافق مع

فشل مذهل لمؤسسة دولة الحداثة وما بعدها حيال كورونا، وكذلك يتصل مع تفجّر واسع للعنف المنفلت المتمازج مع عنصرية مريرة لم تنجح قرون الحداثة في إخراجها، بل زادت مع موجة الشعبوية التي أوصلت دونالد ترمب إلى الرئاسة.

يحدث الآن عبر كورونا، تسونامي ثالث في النظام العالمي، يعيد تشكليه مع استمرار تفرّد أميركا بكونها قوّة عظمى على رأسه [وتستمر، إلا إذا حدث شيء خارق]، وبلا مواربة. يمرّ العالم في مخاض ولادة عالم ما بعد كورونا، ما يعني ان الفيروس “أعلن” نهاية النظام العالمي السابق، وكل الأمل أن يكون الجديد أكثر عدالة وإنسانية، باقتباس كلمات البابا فرانسيس.

باختصار مُخِل، تشكّل عالم الحداثة مع تسونامي أول مثّلته انهيار الإمبراطورية الإسلامية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وتلاه سلام ضمانته نظام عالمي لم ينجح في التوازن، فانهار في دوي الحرب العالمية الثانية. يجمع بين الحربين، تهاوي الامبراطوريات الاستعمارية القديمة [يشمل روسيا القيصرية]، وصعود أميركا المستمر وصناعتها لـ”النظام العالمي الليبرالي”. وفي ظل قيادة أميركا “العالم الحر”، سقط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، فكان ذلك التسونامي الثاني في تاريخ عالم الحداثة.

ويروج القول دوماً بأن بريطانيا رعت خصمها الألماني مرتين، وصارعته مرتين، أولهما بعد سقوط مشروع نابليون بونابرت واتفاقية فيينا وسلام المئة عام الذي تلاها وشكل ضمانة لانتشار الثورة الصناعية انطلاقاً من بريطانيا. استطاعت الأخيرة هزيمة الخصم الذي صنعته في الحرب الأولى. تكرّرت رعاية بريطانيا لصعود القوة الألمانية [الأسباب شتى، بما في ذلك التحكم في توازنات القارة الأوروبية]، بعد الحرب الأولى. هذه المرّة، لم تستطع بريطانيا الانتصار، بل حُسِمَتْ الحرب بفضل الولايات المتحدة.

الإمبراطورية الصينية

قبل الحرب الأولى بأكثر من قرن، تمدّد النفوذ الأميركي في آسيا [بعد إحكام السيطرة على محيطه الجغرافي- السياسي المباشر في أميركا اللاتينية، ونسبياً كندا وأستراليا]. المفارقة أن ذلك الصعود للنفوذ الأميركي آسيوياً تصادم مع اليابان [وقد تكرّر بالسلاح في الحرب الثانية]، لكن مهّد له فعلياً انهيار الإمبراطورية الصينية لأسباب متنوّعة، بعد أن وصل حجم اقتصادها في مطلع القرن التاسع عشر إلى 40% من اقتصاد العالم. في الحربين العالميتين، برز ميل القوة الأميركية إلى ترك الاستعمار المباشر. وبعد الثانية، صنعت أميركا نظاماً عالمياً خدمت معظم أدواته الدولية [خصوصاً الأمم المتحدة ومتفرعاتها] توجهها في السيطرة بقوة النفوذ الاقتصادي و”القوة الناعمة” للنموذج الأميركي، وإدارة سياسية للنظام العالمي.

في “الحرب الباردة”، رعت أميركا صعود قوة الصين، بل بدّلتها تبديلاً يجد ربما صورته الأكثف في سقوط الماوية، وصعود “إصلاحية رأسمالية مدارة من حزب مركزي” بداية من عهد دينغ خسياو بينغ. لم يتصادم الطرفان مباشرة، بل جاءت حروب فيتنام وكوريا ولاوس وكمبوديا ضمن “الحرب الباردة” مع العملاق السوفياتي آنذاك. واستمرت “التغذية” الأميركية للقوة الصينية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، خصوصاً مع العولمة.

رافق تناقضان كبيران العولمة، داخل مركز قواها المُحَرِّكَة وفي الدول الأطراف خارجها. في الخارج، مالت العولمة إلى نشر نموذج وحيد (نيوليبرالي غالباً)، مع تركيز على الأعمال والأموال، وتجاهل خصوصيات الشعوب وثقافاتها وتاريخها، ربما إلى حد الإقصاء باعتبارها “عوائق” أمام العولمة [لنتذكر بنجامين باربر وكتاباته “الجهاد في مواجهة الـ”ماك”]. ورأى مفكّرون كجان بودريار في 11/9 “تصادم عولمتين”، ثانيهما هي تلك “القديمة” التي سحقتها اقتصادات العولمة الغربية. لم يكن ذلك تبريراً، بل وصفاً ربما يكون وجهاً آخر لمقولة “صدام الحضارات” عند صاموئيل هنتغتون.

شعبوية مناهضة للعولمة

كذلك استندت العولمة إلى توظيف رأسمال المركز الغربي خارج دوله، ما تسبب في تأثير جانبي قوامه معاناة شرائح واسعة داخل تلك الدول، خصوصاً المزارعين والعمال في الصناعات الكبرى والتحويلية. وولدت المعاناة إحساساً بالخذلان من قِبَل مؤسّسة الدولة، مع إحساس بالعداء حيال “الخارج” الذي توجهت إليه الرساميل. واضح أن الشعبوية المتسربلة بالعنصرية تحمل تلك السمات، وقد أججتها مشكلة المهاجرين إلى الغرب. في تلك الموجة وُلدت قيادات كترمب وبوريس جونسون وسالفيو مالديني (إيطاليا) ومارين لوبان (فرنسا) وفيكتور أوربان (النمسا) وغيرها، إضافة إلى صعود النازية والفاشية و”تفوق العرق الأبيض” و”حليقي الرؤوس” والإسلاموفوبيا وغيرها. لاحظ هنتغتون ذلك في وقت مبكر، إذ تحدث في 2004 عن “إحباط الشعب الأميركي حيال كل النخب السياسية والثقافية التي تدير الدولة الأميركية”. ومن خارج تلك النخب، جاء بليونير مستثمر واعداً بأن يقلب مسار العولمة من الخارج إلى الداخل، مع انحياز واضح للمقولات الشعبوية العنصرية، بل وصولاً إلى الدفاع عن تنظيمات عنصرية؛ ففاز بالرئاسة الأميركية في 2016.

ثم جاء التسونامي الثالث. انتشر الفيروس شرقاً وغرباً. كشف عمق قمع النموذج الصيني، لكن انتشاره الذريع في الغرب وفشل نظم الرعاية الصحية المشربة بروح النيوليبرالية، ترك تأثيرات عميقة. وفرض كورونا التخلي عن منظومة النيوليبرالية، وإعادة انخراط الدولة الواسع والمباشر في الاقتصاد، وتوجيه أموال مباشرة إلى قوى العمل؛ مع انكشاف خطورة تضخم رأس المال المالي. ولعل الأهم أنه رفع قيمة رأس المال الإنساني إلى حدّ ضخم، بل صار مجرد وجود الإنسان واستمراره على قيد الحياة شرطاً أساسياً للاقتصاد كله. لم يعد البشر مجرد أدوات انتاج واستهلاك، وصارت حياتهم ضرورة في صلب الاقتصاد. في قلب “العقد الاجتماعي” المقبل، الأرجح أن يوضع “ثمن” لوجود الإنسان واستقراره وأمنه الجسدي.

ربما تعطي شوارع أميركا نموذجاً أول عن ذلك. ارتفعت وفيات كورونا بين السود في أميركا بشكل يفوق كثيراً عددهم، فترابطت وقائع الاقتصاد والعدوى والسياسة والعنصرية، في مُرَكّب واحد. فهل ابتدأ هناك عالم ما بعد كورونا؟

[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]