سياسة منشورات

ترامب ـ سوريا: نظام عالمي “مُعاكِس ومُطابِق” للحرب العالمية الأولى!

عبر “عاصفة السوخوي” ونسج تحالف مع ايران وتركيا في عزّ الضجيج في المنطقة عن صراع سني شيعي! ومع علاقات روسيّة أولى في التاريخ الحديث مع الصين وباكستان، يصبح التقرّب الاستراتيجي الروسي من “درب الحرير” (بل صيغته الجديدة التي تقودها الصين) أشد وضوحاً، ما يعاكس صور الحرب العالميّة الأولى

لولا الصين وروسيا، لكانت الصورة العامة للنظام العالمي شديدة الشبه بعوالم الحرب العالميّة الأولى بعد مائة سنة منها، إضافة إلى جهد أميركي “مُعاكِسْ” لما كانه آنذاك في صناعة النظام العالمي.

إنها مرّة اخرى، أرض الجغرافيا السياسيّة لـ “الرجل المريض”: الامبراطوريّة العُثمانيّة قبيل تلك الحرب التي أدّت إلى تقاسمها بين المنتصرين، بداية من سوريا والشرق الأوسط الذي صنعته خرائط اتفاقيّة “سايكس بيكو”. وفي عددها لربيع 2018، لم تتردّد مجلة “فورين آفيرز”، الناطقة بلسان “مجلس العلاقات الخارجيّة” في وزارة الخارجية الأميركيّة، في القول بأن العالم يقترب حثيثاً من صورة النظام العالمي الذي تبلور عبر الحرب العالميّة الأولى، معتبرة الصين الاستثناء الوحيد فيه. وتضمن تحليلها تذكيراً بأشياء من نوع سعي الغرب الأوروبي إلى ضرب التمدّد المتصاعد لروسيا آنذاك (على رغم هزيمة مدويّة أمام اليابان)، في آسيا وآسيا الوسطى، والذي كان يجهد في اقتحام الجغرافيا السياسيّة العُثمانيّة، خصوصاً عبر حروب القرم. وأضافت المجلة إلى ذلك، ملمح السعي إلى تعديل موازين قوى النظام العالمي الغربي (خصوصاً عبر ضرب ألمانيا)، بما في ذلك تقاسم الثروات عالمياً، إضافة إلى تحالف مضمر مع اليابان. ولم يفتها أن المساحة الأبرز في بلورة ذلك النظام لم يكن سوى الشرق الأوسط الذي كان يسوده انهيار المنظومة السياسيّة- الجغرافيّة التي أدارته (مع المصالح والثروات فيه) آجالاً طويلة، بما في ذلك السيطرة على “درب الحرير”. وعندما صدر ذلك العدد، لم تكن الخلخلة التي أحدثها الرئيس دونالد ترامب في “حلف الأطلسي” إلا في بداياتها، لكنها الآن باتت أكثر وضوحاً وتأثيراً، بل تعبر عن توجه استراتيجي ملفت.

والأرجح أن السجال النقدي مع تلك الصورة يحضر إلى الذهن مع خطوة الانسحاب الترامبي من سوريا، بصرف النظر عن أمديتها الفعلية، إذ يرجح أنها ليست إزالة للنفوذ الأميركي بل تعديل لـ”توازن ما” مع روسيا بات لازماً لإقامة نوع من تشارك (مختل لمصلحة أميركا) بين الطرفين.

النفط ويليه… “العُثمانيّة”

بعد مئة سنة من الحرب العالميّة الأولى، تحضر أشباحها بقوة مذهلة، لكن ترافقها كل التناقضات والمُعاكَسات أيضاً، بل تستحضر الوصف الشهير لكارل ماركس في كتاب “الثامن عشر من برومير للويس بونابرت”، عن التناقضات العميقة التي تحملها التشبيهات السطحيّة لمراحل مختلفة من التاريخ. وبداية، يبدو ترامب أنه يعاكس الجهد الأميركي آنذاك الذي انصب على ضرب مركز القوة الروسي (إلى حدّ ظهور حديث عن علاقة “ملتبسة” مع الثورة البلشفية)، وإخراجها من صوغ الخريطة الكبرى للقوى العالميّة، إضافة إلى العمل للمرّة الأولى على بلورة نظام عالمي متعدّد الأطراف (الغربية) تقوده أميركا، وهو عكس ما يفعله ترامب في ذلك النظام نفسه حاضراً! وعلى عكس الإصرار الأميركي آنذاك على ضرب روسيا في آسيا والشرق الاوسط (وهو أمر استمر بعد الحرب العالميّة الثانية)، ثمة تناغم ما بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ربما أبعد من الضجة المدويّة عن العلاقة بينهما. لنبدأ بالنفط والغاز. هناك مفارقة صارخة. قاد بوتين معركة منع التدهور المستمر في أسعار النفط عبر تحالف تاريخي أول مع “آوبك”. وبعد أن أنجز ترامب ضربته الكبرى اقتصادياً بإقرار تخفيض تاريخي للضرائب على رؤوس الأموال الكبرى، أعلن أن خطته الاقتصاديّة ترتكز أيضاً إلى أسعار منخفضة في النفط. وبسكون، وافقه بوتين بأن أعلن أن سعراً لبرميل النفط يتراوح بين 50 و60 دولار، يكون مقبولاً للمنتجين ولأميركا سويّة. يجدر التذكر أن أميركا استقلت عن نفط الشرق الأوسط منذ زمن الرئيس باراك أوباما (وآنذاك، بدأ الحديث أميركياً عن “شراكة ما” مع قوة دوليّة في المنطقة)، ثم صارت منتجاً طليعيّاً له، وتتجه لإنتاجٍ يفوق روسيا والسعودية مجتمعتين بعد سنوات قليلة!

كذلك جرى التقارب الروسي مع العُثمانيّة الجديدة للرئيس رجب طيب أردوغان، في ظل ضغط أميركي على الأخير في الاقتصاد والسياسة سويّة. واستطاعت روسيا أن تثبت أنها تقدر على مشاركة أميركا في الشرق الأوسط (وخريطته المفتاحيّة بدايتها سوريا)، عبر “عاصفة السوخوي” ونسج تحالف مع ايران وتركيا في عزّ الضجيج في المنطقة عن صراع سني شيعي! ومع علاقات روسيّة أولى في التاريخ الحديث مع الصين وباكستان، يصبح التقرّب الاستراتيجي الروسي من “درب الحرير” (بل صيغته الجديدة التي تقودها الصين) أشد وضوحاً، ما يعاكس صور الحرب العالميّة الأولى.

الإرهاب يجمع التنافر!

ماذا عن “القاعدة” وأخواتها؟ في أفغانستان وباكستان، تتقرّب روسيا من “طالبان”- “القاعدة”، وترعى تفاوض النظام معها، وتالياً، يستفيد الجهد الروسي (الذي بدأ منذ 2001 والاجتياح الأميركي لافغانستان- “طالبان”) من خفض القوات الأميركيّة هناك! هل ترتسم في سوريا مشهدية مُشابِهَة (ربما بالتفاعل مع “مُعاكَسَةْ” تأتي من “علاقة” أميركا مع “القاعدة” وربما بعض “داعش”) بعد الانسحاب الترامبي؟ تسعى روسيا بوضوح إلى صوغ حل سياسي، ولا تتردّد في نثر بالونات اختبار عن إمكان التفاوض مع قوى إسلامويّة مسلحة، إضافة إلى قوى المعارضة السوريّة. ومع علاقات متشابكة مع تركيا تشمل علاقة روسية متينة مع الكرد، تكون روسيا في وضع مؤاتٍ استراتيجيّاً لرعاية توازن ما أو تفاوض محتمل، أو بعبارة أوضح، رسم حدود سياسيّة- استراتيجيّة للنفوذ التركي في سورية، وربما في المنطقة. إذ لا يغيب أيضاً أن الخطوة الترامبيّة والتوتر في العلاقة مع السعودية، يفتح آفاقاً مختلفة نوعيّاً للعلاقات الخليجيّة مع روسيا، خصوصاً مع متانة العلاقة النفطيّة معها ومع… تركيا!

لعل الأهم هو التبدّل داخل الميزان “الغربي”، بمعنى اقتراب حدوث تغيير أساسي في علاقة أوروبا مع روسيا، يخدمه التخلخل المستمر في حلف الأطلسي (وتكفي كلمات الجنرال المستقيل جيمس ماتيس)، والمُكابِدَة للـ”بريكست” حتى لو لم يحصل، ربما عبر إمكان استفادتها من القوة الروسية مع/ من دون “الجيش الأوربي”؟

منذ مدّة، شرع ميزان القوى العالمي في التبدّل، مع تفكك في مركزيته الغربيّة المديدة، وصعد الحديث عن نظام عالمي متعدّد مع هوامش واسعة لقوى محلية/اقليميّة. من يدر؟

[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]