ساري حنفي*
استخدم الباحثون الاجتماعيون مفهوم التحديث تاريخياً لوصف عملية التنمية بكل أبعادها التي قامت به الدولة الوطنية، خصوصاً بعد الاستقلال من الاستعمار. أي إنشاء البنية التحتية للتعليم والصحة وبناء مؤسسات الدولة، وإقامة مشاريع تنمية ضمن عمليةٍ قادتها بشكل عام الدولة الاستبدادية. وواكبت العلوم الاجتماعية عمليات التحديث لدعمها بالدراسات اللازمة منذ خمسينيات القرن الماضي، واتسم ذلك بنزعة احتفالية بما قامت به الدولة العربية من تحديث، لكن ذلك كان على حساب النزعة النقدية، التي تشكل الوظيفة الجوهرية للعلوم الاجتماعية. وأقصد بذلك نقد كل أشكال الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية، إن كان من الدولة أو النخب السياسية والاقتصادية والدينية.
لقد خلط ناسٌ عاديون كثيرون بين عملية التحديث والحداثة. وتعني الحداثة (Modernity) منذ استخدمها أول مرة الفيلسوف الألماني هيغل الشيء الجديد والقطيعة مع القديم، بطريقة مرتبطة بالتطورات الفكرية والاجتماعية التي حصلت في أوروبا في القرن التاسع عشر، والتي يمكن اختزالها بتطوّر المعرفة العلمية وعلمانية الدولة وصيرورة الفردنة، مقابل الهويات الجماعية القديمة. ويفصل صاحب هذه المقالة مفهوم الحداثة عن التحديث، ليوضح أننا، بشكل عام، نعطي مفهوم الحداثة طابعاً إيجابياً، بينما يجب أن نفهم التحديث على أنه عملياتٍ قد تؤدّي أو لا تؤدّي إلى الحداثة، قد تكون مجرّد عملية “تكديس” لما هو جديد من تكنولوجيا، حسب تعبير مالك بن نبي، فالحداثة تعني انتقالاً نوعياً وليس كمّياً، مبنياً على التمايز بين الفضاءات الدينية والسياسية والاقتصادية وإعطاء استقلالية نسبية لهم. لذا، ارتبطت الحداثة بالليبرالية والديمقراطية والتنوير، باعتبارها أسساً لهذا التمايز والاستقلال النسبي.
بناءً على ذلك، لا يعني تحديث الدين أننا حللنا بعض المشكلات المتعلقة بفهم الدين وقيمه. ما يحصل اليوم في العالم العربي، وخصوصاً في بعض الدول الخليجية (وكذلك في جمهوريات آسيا الصغرى ذات الأكثرية المسلمة)، هيمنة للدولة على المؤسسة الدينية، وسلبها استقلاليتها عن المؤسسة السياسية. بدأ السلب منذ الخمسينيات، عندما أمّم مثلاً الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الوقف الإسلامي الذي كان يؤمن استقلالية مؤسسة الأزهر عن المؤسسة السياسية. ومن ثم هيمنة الدولة على قيادات المؤسسة الدينية من خلال تعيين رؤسائها بدلاً من انتخابهم أو اختيارهم من ضمن المؤسسة الدينية. بعد ترسيخ الهيمنة، فرض الحاكم المستبد تغيير بعض الأحكام الفقهية التقليدية التي لم تعد تتناسب مع الواقع المعاش، أو حتى الواقع المأمول للتوصل له. الأمثلة كثيرة هنا، منها: السماح للمرأة بقيادة السيارة في السعودية، الحريات الفردية في المجال العمومي ضمن حدود معينة، التركيز على فكرة المواطنة دون تمييز حسب الديانة، عودة التواصل مع زعماء الطوائف الدينية والأديان الأخرى للتركيز على فكرة أن الإسلام دينٌ، ليس فقط يعترف بالأديان الأخرى، ولكنه يدعو إلى العيش معها بسلام، رابطاً ذلك بـ”وثيقة حلف المدينة” مثلاً يُحتذى به في التاريخ الإسلامي. هل يسعدني ذلك؟ بالطبع، نعم، ولكن واجبي، بصفتي باحثاً اجتماعياً، أن أحلل ما أسميه التحديث الاستبدادي للدين، ليس فقط لمحاولة فهمه، ولكن أيضاً للتنبيه بتبعاته لاحقاً.
استنسابية المشروع التحديثي الاستبدادي للدين وانتقائيته وتلفيقيّته تحتوي على مخاطر كثيرة، لكونه ليس مشروعاً متكاملاً لعملية تحديثية تؤدّي إلى الحداثة
بادئ ذي بدء، يتّفق المؤرّخون على أن لأي تحديث استبدادي للدين آثار بعضُها سلبية وأخرى إيجابية. ولكنهم اختلفوا في تقييم المحصلة النهائية، أي الغلبة لأي نوع من الآثار. فمن ركّز على أهمية الآثار الإيجابية طويلة الأمد على المجتمع، اعترف بأن ما قام به كمال أتاتورك في تركيا أو الحبيب بورقيبة في تونس أنشأ وضعاً صحياً في التمايز بين السياسي والدعوي، وحيادية الحد الأدنى للدولة تجاه كل مواطنيها، ولكن ذلك رافقه فرض مفهومٍ أحاديٍّ للحياة الطيبة على كل المواطنين، وهذا مخالفٌ لأسس التفكير الليبرالي. فمثلاً، لا ينبغي للدولة أن تفرض على المرأة السفور. وقد أثار انتباهي مدح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، العلمانية التركية (نظاماً عاماً بغضّ النظر عن نقده منعها بعض الحريات الدينية)، وكيف أنها ضرورية حتى لحزب سياسي إسلامي، مثل حزب العدالة والتنمية. كان ذلك في كلمته في جامعة القاهرة في 2013. ويؤكّد هذا الاتجاه أن المؤسسة الدينية مترهّلة إلى درجة أنها غير قادرة على القيام بأي تجديد في الفكر الإسلامي، أو الأحكام الفقهية لحل معضلات الواقع. وربما المثال الأسهل لهم تبيان استعصاء المؤسسة الدينية الوهابية في السعودية على ممارسة الاجتهاد. من جهة أخرى، ركّز مؤرخون آخرون على أن للتحديث الاستبدادي تبعات خطيرة في التاريخ، وذلك لعدم توازنه، ولأنه قد أدى إلى تشنجٍ عند متدينين كثيرين ، وردود فعل مضادّة ومتطرّفة أخذت شكل محافظة اجتماعية متزمتة، أو عنف ضد المجتمع والدولة. وما تريد هذه المقالة أن تدعو إليه، أن استنسابية المشروع التحديثي الاستبدادي للدين وانتقائيته وتلفيقيّته تحتوي على مخاطر كثيرة، لكونه ليس مشروعاً متكاملاً لعملية تحديثية تؤدّي إلى الحداثة. سأركز هنا على خطرين:
الأول، التحديث الاستبدادي للدين ليس العلمانية الهنية/ مدنية الدولة. علمانية الدولة بمعنى التمايز بين السياسي والديني، والذي لا يمنع من أَخْلَقَة الدين للسياسي وحيادية الحد الأدنى للدولة بالنسبة إلى خيارات مواطنيها لمفهومهم المتعدّد للحياة الطيبة، فالتحديث الاستبدادي، وإن كان يؤثر بذلك بطريقة غير مباشرة، ولكنه يختلف كثيراً عن العلمانية الهنية للدولة، فالأخيرة تتطلب أولاً، وقبل كل شيء، أن تتمتع المؤسسة الدينية باستقلالية عن المؤسسات الأخرى. ولا أعني بالمؤسسة الدينية فقط دور الإفتاء، ولكن أيضاً كل المؤسسات المتعدّدة التي تلعب دوراً دعوياً في المجتمع، والتي قد تأخذ شكل حركات إسلامية أو صوفية أو قضاء شرعي أو مجتمع مدني دعوي.
أي عملية فيها انتقائية في مجالات الاجتهاد أو التحديث الديني من دون السياسي أو كليهما من دون عدالة اجتماعية وتنمية ما هي إلا لعب في النرد الثاني، أن استنسابية المشروع التحديثي الاستبدادي قد تؤدي إلى تشوّه في كيفية أخلقة الدين للمجتمع وحل المعضلات المعاصرة. كيف يمكن تجديد الأحكام الفقهية للتعامل مع هذه القضايا من دون أن يبدأ النقاش الداخلي داخل المؤسسة الدينية، ويكون هناك جدل حر في المجال العمومي (وسائط إعلام، الجامعة، الجامع، إلخ)؟ أي إمكانية طرح أفكار أخلاقية من مؤسّسة دينية ما، وقيام المؤسسات الأخرى بمناقشتها وإدخال مخرجات الفلسفة الأخلاقية وكل العلوم، وليست فقط الدينية في فهمها للواقع، الذي على أساسه ستُجدَّد الأحكام الفقهية. وهذا الذي كتبتُ عنه كثيراً، بأهمية التفكير الأخلاقي في الدين ومعرفة كيف يفكّر الناس أخلاقياً في مشكلة معاصرة ما، قبل أن يوجِد المشرع الديني الأحكام الفقهية لها، والمشرع السياسي بإيجاد قوانين لكل المواطنين. (انظر “تجاوز القطيعة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية”، ساري حنفي، مركز نهوض للدراسات والبحوث، الكويت 2021).
إذاً، لا يوجد اجتهاد من دون حوارات في المجال العمومي. وخير مثل على ذلك ما حصل في تونس في السنوات العشر بعد الثورة، حيث اختُبِرَت اجتهادات فقهية (وقانونية) مهمّة، استطاعت أن تمرّ بسلام بعد جدل، بعضها حامي الوطيس، في الوسائط الإعلامية والصحف بين أبناء هذا البلد الطيب، والمنتمين إلى اتجاهات فكرية شديدة التباين. وكيف يمكن أن يكون هناك حدٌّ أدنى من الحوار في بلدانٍ يدخل المرء إلى السجن، بسبب تغريدة على “تويتر” أو جملة في “فيسبوك” تعارض سياسة حكومية ما؟ إن أي عملية فيها انتقائية في مجالات الاجتهاد أو التحديث الديني دون السياسي أو كليهما دون عدالة اجتماعية وتنمية ما هي إلا لعب في النرد. ألم يذكّرنا هيغل بـ”مكر التاريخ”، أي إنّ التاريخ لا يُسيّرهُ الأفراد، بل هو الّذي يتحكّم فيهم ويقودهم، وبالتالي لا يوجدُ شخصٌ ما هو صانع التاريخ، التاريخ صانع كلِّ شيء. والتاريخ هنا يعني صيرورة مجتمعية يقوم فيها العقل والتعقل بدفع التحديث الى الحداثة.
عندما تكون الدولة مستبدّة، كيف يمكن أن يكون ذلك دون حد أدنى من التحديث السياسي، أي بعملية انتقال ديمقراطي؟
سرّني للغاية اطلاعي على كتاب حديث للصديق الاقتصادي والمؤرخ والدبلوماسي الفرنسي لوي بلان “رابطة العالم الإسلامي: مشروع تجديد الإسلام؟ (La ligue islamique mondiale: Le renouveau musulman؟) من خلال ندوة نظّمها المركز العربي للدراسات والسياسات في باريس. لقد اعتبر بلان أن ما تقوم به هذه الرابطة هو إدخال العلمانية على المجتمعات أو الجاليات المسلمة، واعتبر أن ذلك سيكون له أثر طيب على الجالية المسلمة في فرنسا، حيث سيساعد بذلك رئيس الرابطة، الشيخ محمد العيسى، الدولة الفرنسية في مشروعها لمحاربة التطرّف الديني. وركّز على أنسنة الدين عندما اتصل الشيخ مع قيادات دينية للأديان السماوية والهندوسية. أختلف هنا مع بلان، لاعتباري أن ما تقوم به هذه الرابطة، على أهميته، جزء من مشروع تحديث استبدادي للإسلام، وليس كما أعتقد، أنها عملية علمنة. سيكتب التاريخ يوماً إذا كان ما تقوم به هذه الرابطة سيقود الى علمنة جزئية بطريقةٍ غير مباشرة. وعلى كل حال، علينا دراسة استنسابية التحديث بدقّة لمعرفة ما هي درجة الاغتراب الهوياتي الذي تحدثه مثل هذه المشاريع التحديثية من فوق على المؤمنين والتبعات الحالية، وعلى المديين، المتوسط والبعيد، على شعور الفرد بتحقيق حريته ضمن مفهوم الحياة الطيبة له. لا أرى ذلك على المدى القريب إن كنت أفكّر مثلاً بامرأة محجّبة تعيش في فرنسا، فهذا المشروع التحديثي مليء بالتناقضات، ومن الواضح أنه يأتي تحت ضغط عوامل معينة، منها تصحيح صورة بعض الدول الخليجية أمام الغرب. لذا، لا أعتقد أن ذلك سيكون له تأثير كبير في المسلمين الذين يتوقون إلى دور متوازن بين المؤسسات السياسية والاخرى الدينية، تحترم الواحدة الأخرى، لدعم مطالبهم في العدالة والحرية والمساواة. وعندما تكون الدولة مستبدّة، كيف يمكن أن يكون ذلك دون حد أدنى من التحديث السياسي، أي بعملية انتقال ديمقراطي، وإيجاد عدالة اجتماعية، بما في ذلك التمتع بالحريات الفردية والجماعية، ومن ضمنها حرية العبادة.
*نشرت في الزميلة العربي الجديد في 07 تشرين الثاني / نوفمبر 2022
Leave a Comment