ثقافة

عن موقع “بيروت الحرية” واحوال الثقافة

كمال اللقيس

إن افظع ما نتج عن اجتياح هولاكو خان لبغداد في العام 1258م لم يكن قتل الخليفة العباسي المستعصم بألله، مع عدد كبير من انصاره وحاشيته ونهب قصره، بل كان رمي مكتبة المأمون بما تحتويه من كتب ومخطوطات نفيسة قيمة ونادرة في نهر دجلة.

هذه الحادثة التي اودت بإرث ثقافي لا يستهان به، جاءت لتطبق الخناق على العقل العربي /الاسلامي الذي عانى من ضربات قاسية، سددت له على امتداد قرون، وبلغت ذروتها في عهدي الدولة البويهية الشيعية (1055-932م) والسلجوقية السنية (1186-1037م)، ومذاك رسم هذا العقل النكوصي خطًا بيانيًا انحداريًا مرعبًا .

ثم حل البلاء الأعظم مع حكم الامبراطورية العثمانية لبلادنا فجثا على صدورنا جبل جليدي دام اربعة قرون، اعدم اي امكانية لتحفيز هذا العقل على استعادة المبادرة في انتاج معادلة فكرية قابلة للحياة، وما إن استبشرنا خيرًا في بدايات القرن العشرين ببعض الاصوات التنويرية الحداثوية، حتى اجتاحت مشرقنا العربي ومغربه الانظمة الشمولية الآحادية (ملكية كانت ام جمهورية ام جماهيرية) الموصوفة – زورًا وافكًا – بـ ” التقدمية”، فسجنت ونفت واعدمت كل فكر حر تجرأ على استبدادها، وسعرت النزاعات الطوائفية كبيئة حاضنة لكل تخلف وادخلتنا نفق الشقاق والتفتت .ولا شك بأن نار الجهالة والضلالة عندما تستعر ويشتد اوارها تأتي على كل شيء فتحيله عدمًا .

لكن في قلب هذا الرماد/العدم تلوح بقية حياة تقاوم الفناء، هذه البقية التي تشكل ثقافة الحياة ما فتئت تقاوم صلف هولاكو وامثاله من الاقربين والابعدين ومن الاولين والمعاصرين.

والفعل الثقافي النقدي اقتحامي بطبيعته فلا ينتظر الظروف الموضوعية المؤاتية بل يعاند الريح فيعمل على انضاج الظرف الذاتي لاختراق كل المعوقات فيلبي بالتالي حاجة ملحة في زمن ملح وفي هذا الزمن الملح حيث يعلق لبنان الراقص على صفيح ساخن على مشنقة اسئلة الهوية، الموقع، الانتماء والدور، وحيث يتقهقر اليسار – بكل مكوناته ومن دون استثناء – الى حدود الفاجعة، وحيث ينشط اعداء لبنان في السر والعلن لإجهاض فتات امل، ولد موقع “بيروت الحرية” اليساري المستقل والذي شكل امتدادًا لمجلة “بيروت المساء”. منذ انطلاقتها قبل أقل من عامين ارادت “بيروت الحرية” أن تجري مقاربة ثقافية/سياسية متميزة ومتمايزة للمعضلة اللبنانية ولمفهوم اليسار الجديد، فهل كانت على مستوى التحديات ؟ هل تمكنت من ان تنتزع

 

لنفسها موقعًا متقدمًا في هذا المشهد الثقافي السريالي، موقعًا يخولها ان تدون اسمها في سجل الحريصين على رسم خارطة طريق تغييرية؟ كقارئ متابع وكمراقب اظنها نجحت بمقدار كبير .

لكن الحكم القاطع والحاسم لـ “بيروت الحرية” او عليها من خلال تجربتها الحديثة العهد ينافي – في اعتقادي – الرصانة العلمية، لأن الاجابة التقييمية على السؤال المطروح حول نجاح او اخفاق “بيروت الحرية” ستكون نسبية ومفتوحة، وهي ستبقى كذلك حتى لو بلغت “بيروت الحرية” من الخبرة والتمرس عتيًا فهذه طبيعة الاشياء وهذا منطق الامور، وللزمن وحده أن يحكم لها او عليها . وبعد،

فإن هذا الجهد الثقافي الاستثنائي الذي يجسده العمل الطوعي المضني لأسرة التحرير يأتي في ظروف بالغة التعقيد ماليًا وسياسيًا.

وهذه بداهة مع وسيلة اعلامية تمارس استقلالية في القرار والموقف تتقاطع مع قوى وشخصيات وبعض مجموعات انتفاضة 17 تشرين الاول 2019 .

وبناءً على ما تقدم فإن هذه التجربة جديرة بالإحتضان، وكل من يقرأ يكتب يحرر يراسل يحاور ويخرج فيها جدير بالإحترام والتقدير والتكريم .

 

ولطالما صادفت كثيرين قد سخروا من هذه “الهرطقة” ( والهرطقة في اعتقادي هي روح الفلسفة) في زمن السائد الثقافي الفاسد، وامطروني بوابل من الأسئلة من نوع من انتم ؟

علام تراهنون في هذا المشهد الضبابي؟

فأنتم قليلو العدد والعدة في هذا العباب الهائج المائج، وفي كل مرة كنت ابتسم واحيلهم الى بيت شعري للسموأل بن قريض بن عاديا اشعر الشعراء العشاق الصعاليك :

تعيرنا انا قليل عديدنا / فقلت لها إن الكرام قليل .

وانا ههنا لا انتقص من كرامة احد، وما كنت لأفعل ذلك، لكني اعتقد بأن من يقاوم المألوف النمطي السائد في هذا الزمن الرديء هو كألقابض على الجمر.

واسأل “بيروت الحرية” لأختم:

ماذا في جعبتها من اجوبة المستقبل لأسئلة الزمن الحاضر؟

Leave a Comment