كتب غسان صليبي
المصدر: جريدة النهار تاريخ 11 تموز 2021
بعد إعلان نتائج #انتخابات مجلس المندوبين في #نقابة المهندسين وفوز “النقابة تنتفض”، صدرت مواقف تنبّه إلى سيطرة الشيوعيين على مجلس المندوبين. وبعد اختيار “النقابة تنتفض” عارف ياسين مرشحاً لرئاسة النقابة، علت أصوات حزبية تؤكّد أنّ ياسين عضو في الحزب الشيوعي اللبناني.
“التخويف” من الشيوعيين يمكن وضعه في سياق إضعاف “النقابة تنتفض”، ومنعها من تحقيق انتصار في وجه أحزاب السّلطة على مستوى رئاسة النقابة، علماً أنّ مصادر التخويف غير صحيحة. فالشيوعيون لا يسيطرون على مجلس المندوبين، وإن كان لديهم بعض التمثيل، وعارف ياسين ليس عضواً في الحزب الشيوعي وقد خاض نضالات واتخذ مواقف سياسية مناقضة لمواقف الحزب الشيوعي. لكن السؤال الاهم هو لماذا يعتقد البعض أنّ “التخويف” بالشيوعية يمكن أنّ يعطي مفعوله؟
من الملاحظ أنّ المواقف جميعها صادرة عن قوى مسيحية. الخوف من الشيوعية ليس جديداً في الأوساط المسيحية. فمنذ الاستقلال ورغم انضمام الكثير من المسيحيين إلى الحزب الشيوعي وتبوئهم مراكز قيادية فيه، بقي الشارع المسيحي وخاصة الماروني متوجساً من الاتجاهات الشيوعية واليسارية بشكل عام، بسبب سعيها لتغيير النظام السياسي والاقتصادي. أضف الى ذلك أنّ الحزب الشيوعي حارب إلى جانب الحركة الوطنية والفلسطينيين ضدّ القوى المسيحية، وها هو اليوم يبرّر أحياناً ويساير أحياناً أخرى مواقف وسياسات “حزب الله”، التي أصبحت مرفوضة من معظم المسيحيين.
منذ الحرب حتى اليوم، من الملاحظ أنّ المسيحيين بشكل عام لا يميّزون كثيراً بين الشيوعيين والقوميين والبعثيين، بل يضعونهم في سلّة واحدة، اذ يعتبرونهم جميعهم يعملون ضدّ مصلحة لبنان.
كما أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي كنظام شيوعي، وتراجع قوة الأحزاب الشيوعية في أوروبا، على مستوى العضوية والتمثيل البرلماني، يجعلان الشيوعية مشروعاً غير مقنع بالنسبة لمعظم المواطنين، مسيحيين ومسلمين.
أريد في هذا النّصّ الإفادة من ردود الفعل على انتخابات نقابة المهندسين، لأطرح تساؤلات حول “اليسار” كاتجاه سياسي معارض، في الوسط اللبناني، ممّا يفترض بداية تَنقيَة النظرة إلى اليسار من تشوهات الحرب من جهة، وعدم اختصارها بالحزب الشيوعي من جهة ثانية. فصحيح أنّ الحزب الشيوعي هو الأكثر تمثيلاً عددياً لـ”اليسار” في لبنان، لكنّه لا يختصر اليسار الذي يضمّ مجموعات أخرى، هي أقلّ عدداً منه منفردة، لكنّها جميعها تعارضه على المستوى السياسي، من مثل منظمة العمل الشيوعي واليسار الديموقراطي وقوى تروتسكية وراديكالية. وقد برزت أخيراً مجموعات طالبية ذات توجهات يسارية خاصّة بها، وتتمايز بطرحها للعلمانية. لا يمكن لليسار أنّ يصبح جزءاً من الصراع السياسي في لبنان، كما هي الحال في الكثير من البلدان الديموقراطية، إذا بقي يثير المخاوف الواعية وغير الواعية، في أوساط لبنانية واسعة، مسيحية وغير مسيحية، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، بما فيها الطبقة العمالية.
سأطرح في ما يأتي بعض الأفكار التي تساعد، بحسب اعتقادي، على التمييز بين اليمين واليسار في السياق التاريخي والعالمي، وتسمح بطرح تساؤلات حول الموقف “اليساري” عندنا؟
أولاً: برز “اليسار” تاريخياً كتيار سياسي، في حقبة الثورة الفرنسية، عندما كان على نواب الأمة التصويت مع أو ضدّ حقّ الفيتو المنوي منحه للملك. وكان النواب الجالسون إلى يسار الملك هم الذين يرفضون إعطاءه هذا الحقّ، فيما كان الذين يوافقون، هم الجالسون إلى يمينه. وقد تطور مفهوما اليمين واليسار في ما بعد، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
اليسار هو إذًا في الأصل، جزء من الحياة الديموقراطية البرلمانية، وليس من خارجها أو ضدّها. ما ميّزه في البداية هو وقوفه ضدّ إعطاء أيّ شخص مهما علا شأنه، حقّ نقض قرار سياسي جماعي، وهذا تمسك بمبدأ الديموقراطية، التي لا يمكن فصلها عن الاتجاه اليساري. لسنا في لبنان بالطبع، في نظام ملكي، بل جمهوري برلماني. لكن “حزب الله” يلعب دورا يشبه دور الملك، ويمارس من خارج البرلمان ومن داخله، حق الفيتو على القرارات السياسية.
وقد تبين ذلك في الممارسة في محطات عدّة، أبرزها انتخابات رئاسة الجمهورية، وفرض انتخاب ميشال عون، وأحدثها محاكمة المسؤولين عن تفجير مرفأ بيروت، والتصدّي لأيّ تقدّم في هذا المجال.
اليسار اللبناني غير ممثل في البرلمان، وهو منقسم في شأن الموقف من حقّ الفيتو الضمني الذي يمارسه الطرف السياسي العسكري. الحزب الشيوعي، وعلى عكس قوى يسارية أخرى، لا يعلن صراحة معارضته لذلك، ولو من باب الحرص على الديموقراطية.
ثانياً: القيم التي ينادي بها اليسار هي عادة: المساواة، العدالة الاجتماعية، الأخوّة، التضامن، التقدم، الحرية الفردية، عدم الانصياع. فيما قيم اليمين هي: السلطة، الحرّية الاقتصادية، الهوية الوطنية، النظام الاجتماعي، الامن، المحافظة على العادات والتقاليد.
اليسار اللبناني يشاطر اليسار العالمي قيمه، لكن الحزب الشيوعي متردّد بالنسبة للحريات الفردية التي تخالف التقاليد، ومواقفه غير حاسمة تجاه من يحدّ منها او يقمعها. هو بذلك على يمين المجموعات اليسارية الأخرى. فقد أذعن مثلا لضغوط البيئة الاجتماعية، عندما نزع صورًا لشهيدة من المقاومة الوطنية لأنّها لم تكن محجبة، ووضع مكانها صورًا أخرى، بعد ان ألبس الشهيدة كوفية فلسطينية على شكل حجاب.
ثالثا: تنوعت الاتجاهات اليسارية، بين الشيوعية والاشتراكية والديموقراطية الاجتماعية والليبيرالية الاجتماعية. في البلدان التي حكمت فيها الديموقراطية الاجتماعية، تقلصت الفوارق بين اليمين واليسار على المستوى الاقتصادي – الاجتماعي واعطت مكانها لثنائية أخرى هي “التيارات التقدمية” في مقابل “التيارات المحافظة”، وتركزت الاختلافات حول التحرر الاجتماعي، حيث ناصرت القوى التقدمية حرية المرأة وحقوق الاقليات والمثليين مثلاً.
اليسار اللبناني ممثلاً بالحزب الشيوعي لا يزال يطرح الشيوعية كنظام بديل للرأسمالية، فيما قوى يسارية أخرى تخلت عن طرح الشيوعية وباتت اقرب الى الديموقراطية الاجتماعية. أمّا في ما يتعلق بالموقف من التحرر الاجتماعي، فتُميّز القوى اليسارية بين قضايا النساء، التي تدعمها بقوة، وقضايا الاقليات والمثليين، التي يتفادى بعضها اعلان موقف صريح في شأنها.
رابعاً: نمت التيارات اليسارية في العالم في موازاة تحولات مجتمعية مفصلية: الثورة الفرنسية، الثورة الصناعية وصعود الحركة العمالية، العولمة واتساع دور الحركات الاجتماعية الجديدة الخاصة بالنساء والمثليين والسود والبيئة والمناخ والتسلح وغيرها.
إلى وقت قريب، بقيت جميع هذه التحوّلات المجتمعية في لبنان في مراحلها الجنينية، ممّا يساهم ربما في تفسير ضعف اليسار اللبناني بشكل عام. لكن الجديد والمختلف على مستوى التحولات الاجتماعية منذ الاستقلال، هو الانتفاضة اللبنانية سنة ٢٠١٩، بما شكلت من حراك شعبي واسع ومعارض، حمل ابعادًا سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية.
أفترض أنّ هذه الانتفاضة هي الظرف المجتمعي التاريخي لقيام يسار لبناني اكثر ارتباطًا ببنى لبنان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأكثر تعبيرًا عن توجهات شعبه. على عكس ما يعتقد البعض، ليس على الانتفاضة ان تسترشد بالتوجهات اليسارية العاجزة عن الفعل تاريخيًا، بل على التيارات اليسارية ان تستمد رؤيتها من الانتفاضة بما تمثل من توجهات شعبية على جميع المستويات. ربما حان الوقت أيضا لقيام يسار آخر أكثر تعبيرًا عن الواقع المحلي اللبناني.
تُقدّم تجربة “النقابة تنتفض”، مثلًا لهذا اليسار المنبعث من الانتفاضة. فـ”النقابة تنتفض” تجمع بين أفرادها مشاركتُهم معاً في الانتفاضة ورغبتهم في ترجمة توجهات الانتفاضة على المستوى النقابي.
ليس صدفة أنّ تتحالف “النقابة تنتفض” في الانتخابات مع الحزب الشيوعي وحزب الكتائب، اللذين شاركا في الانتفاضة، التي هي التيار التغييري العام في البلاد، والتي تلقّح أحزاب اليمين وأحزاب اليسار على حد سواء، فتجعل الأولى اكثر اجتماعية والثانية أكثر ديموقراطية، في إطار نزعة وطنية استقلالية بارزة. أعتقد أنّ عارف ياسين، يمثل هو ورفاق له، يسارًا جديدًا بدأ بالتبلور. ولأنّ نقابة المهندسين تجمع في تركيبتها، المهندسين الاجراء إلى جانب المهندسين اصحاب العمل، فهي تشبه تركيبة الانتفاضة التي غلبت عليها مشاركة الطبقة الوسطى، فيما كان العمال على هامش التحرّك. هذه دلالة مجتمعية فاقعة بوضوحها، على الاتجاهات اليسارية أنّ تأخذها في الاعتبار، اذا أرادت أنّ تعبّر عن التوجهات الشعبية وتصبح جزءًا من الحياة السياسية اللبنانية.
ولأنّه لا يمكن تحديد التوجهات اليسارية بمعزل عن توجهات اليمين، ساعدت الانتفاضة من خلال الممارسة على تحديد هوية اليمين في الظرف الحالي، وهي ما عرّفَت عنه بـ”كلن يعني كلن”، أيّ ما تمثله المنظومة الحاكمة مجتمعة على المستوى الاقتصادي والسياسي والقيمي. وفي هذا الإطار تُطرح اشكالية الموقف اليساري من “حزب الله”.
باستثناء الحزب الشيوعي، تميل المجموعات اليسارية إلى معارضة “حزب الله”. معارضته يساريًا، وهو التنظيم الديني المسلح، يمكن أنّ تكون من منطلق علماني ديموقراطي. لكن الانتفاضة أضافت بعدًا آخر لهذه المعارضة، كون “حزب الله” وقف في وجه الانتفاضة إعلاميا وعلى الارض، وهو يُعتبر اليوم الحامي الاول لمنظومة “كلن يعني كلن”.
إذا كان اليسار جزءًا من الانتفاضة، فلا يمكنه تجنّب مخاصمة “حزب الله” الذي خاصم الانتفاضة بشراسة ووقف في وجه فرصة وطنية نادرة لإحداث تغيير في الواقع اللبناني. الحجة “اليسارية” الوحيدة المعلنة لعدم معارضة “حزب الله”، مقاومته لإسرائيل وعداؤه لأميركا.
بعد الحرب أجرى محسن ابراهيم ورفاقه في “منظمة العمل الشيوعي”، مراجعة لسياسات الحركة الوطنية ونقدًا ذاتيًا لليسار الشيوعي. وقد ركّز محسن ابراهيم في مناسبة ذكرى اغتيال جورج حاوي على خطأين: “الخطأ الأول: إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيدًا في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافًا. والخطأ الثاني: إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديموقراطي. فكان ما كان ـ تحت وطأة هذين الخطأين ـ من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة كبرى الى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعدًا في يوم من الأيام”.
للأسف، لا يزال الحزب الشيوعي يكرّر بعض أخطاء الماضي. ليس فقط لأنّه لا يتخذ موقفًا واضحًا من إقحام “حزب الله” لبنان في مشكلات المنطقة وإلحاقه بمحور اقليمي، بل لأنّه ينادي بـ”المقاومة العربية الشاملة”، في إغتراب تامّ عما يحصل في المنطقة وعدم مراعاة لقدرات البلاد. على الحزب الشيوعي أنّ ينأى بنفسه عن ايديولوجيا الممانعة إذا كان يعتبر نفسه يساريًا. فهذه الايديولوجيا تلغي في الواقع الفكرة اليسارية.
“الممانعة”، هي ممانعة الأطراف الخارجيين وتحديدًا أميركا من تحقيق مشروعها في المنطقة، أيّ السيطرة على بلدانها.
لكن أصحاب أيديولوجيا الممانعة لا يتوقفون عن إدعاء لعب دور الممانعة في وجه الخارج، حتى ولو نجحت ممانعتهم واصبحوا هم في السلطة وحكموا بلدانهم لسنوات طويلة. انهم يقدمون انفسهم كيمين ويسار في آن واحد. ولا عجب، فعندما تحكم الممانعة، تُعطل الديموقراطية ويتوقف تداول السلطة، ولا يعود هناك من معنى ليمين وليسار.
وإذا كان الحزب الشيوعي بات أكثر حرصًا على عدم التورط في النزاعات الطائفية، إلّا أنّه أصبح بحكم الانتماءات المذهبية لأعضائه، أقرب إلى المزاج الشعبي في البيئة الشيعية، بعدما هجره كثيرون من المذاهب الاخرى. التحدي الاكبر امامه اليوم هو استعادة تركيبته الوطنية التي تميّز بها منذ نشأته. فالسلوك الحزبي، وبحسب النظرية الماركسية المادية نفسها، لا يتأثر فقط بأفكار بل بموقع أعضائه في النسيج المذهبي اللبناني. لذلك عليه أنّ يأخذ جديًا مخاوف وتوجسات البيئة المسيحية وبيئات أخرى، ولا يكتفي بالنظر إليها كدعاية يمينية ضدّه.
لقد أسّس الحزب الشيوعي للحركة النقابية اللبنانية وأنشأ أول اتحاد عمالي، وكان له دور كبير في الحفاظ على وحدة الحركة النقابية إبان الحرب ومدها بزخم مناضل وأطروحات تغييرية. كما كان له وجود فاعل ولا يزال، في نقابات المهن الحرة وفي روابط الموظفين كافة. وقد أصبح دوره الكبير في إطلاق المقاومة الوطنية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي معروفاً.
حزبٌ يحمل كل هذا التاريخ ويختزن كل هذه الشجاعة والطاقات، لا بد أن يجد طريقه إلى تجديد نفسه، حتى ولو اقتضى الأمر تغيير اسمه، كما فعلت أحزاب شيوعية عريقة. ولا بد للبيئة المسيحية التي أنجبت رجالات النهضة العربية وغذّت قوى التغيير بأفكار التنوير والحداثة والعلمانية، أنّ تتصالح مع التيارات اليسارية، من أجل وطن مستقل تسوده المساواة والعدالة الاجتماعية. وأرجو أنّ يكون حزب الكتائب وحزب الكتلة الوطنية قد باشرا السير على هذه الطريق، من خلال انخراطهما الفعلي في تحركات الانتفاضة وائتلافاتها.
العمل النقابي، الديموقراطي والمستقل، هو مدرسة للمساعدة على إنتاج هذه التحولات. ونجاح نقابة المهندسين بعد أسبوع، في انتخاب ممثل “النقابة تنتفض” رئيسًا، ستكون مدماكًا قويًا في هذا الاتجاه.
Leave a Comment