مجتمع

الدولـة الطوائفيـة العميقـة “قوية في ضعفها”

كتب الدكتور بول طبر

يفيد الخطاب الشائع عن الدولة في لبنان أنها ضعيفة ومنهوبة وعاجزة عن القيام بدورها المفترض، بسبب تصرفات القوى السياسية المتحكمة بها وبمؤسساتها. ويفترض هذا الخطاب وجود طرفين هما الدولة من جهة، والقوى الفاعلة سياسياً من جهة ثانية، وأن الطرف الثاني يسيطر ويتحكم بالطرف الأول ويمنعه من تحقيق ذاته والقيام بواجباته.

هذا الخطاب هو خطاب مغلوط، ولا يقدم فهماً دقيقاً عن الدولة في لبنان، ولا عن علاقتها بالمشهد السياسي العام والقوى المتحكمة فيه. حقيقة الأمر هو أن الدولة في لبنان قوية، وقوية جداً، وأن قوتها المميزة مستمدة مما يسمى ب”ضعف” الدولة وتجويفها وحرمانها من وظائفها الأساسية. إن تحاصص موارد وصلاحيات الدولة، وتقاسم وظائفها الأساسية والثانوية من قبل القوى السياسية المسيطرة في لبنان، هو بالضبط ما يضفي عليها هذه المناعة والقدرة على البقاء والصمود في وجه المعارضين لها، والطامحين لإصلاحها. الدولة في لبنان قوية بقدر ما تتنازل عن دورها في التحكم بمواردها وإدارتها، وبقدر ما تتراخى وتتخلى أحياناً عن تحقيق إرادتها السياسية لصالح فرقاء، لا يجمعهم سوى الإبقاء على حالة الدولة هذه. وعلى هذا الأساس، تكتسب الدولة شرعيتها وتصبح “مرهوبة” الجانب.

يدفع بنا هذا الأمر للبحث في شروط تأسيس الدولة اللبنانية منذ نشأتها لنفسر بمزيد من الدقة هذه الحالة الخاصة التي يتصف بها هذا الكيان. فمنذ صياغة دستور الدولة اللبنانية، ومن ثم عقد الميثاق الوطني عام 1943، قامت الدولة على أساس أن تستمد شرعيتها من إقرار وتكريس توزيع متفاوت للسلطة السياسية على ممثلي الطوائف سياسياً، وعلى قاعدة دستورية تعطي بموجبها مؤسسات الطوائف الدينية الحق الحصري في تدبير وإدارة الأحوال الشخصية للطوائف التابعة لها. وعندما حاول الرئيس شهاب مدعوماً بتفاهم إقليمي – دولي ملائم، أن ينتزع بعض صلاحيات ممثلي الطوائف سياسياً عن طريق إعادة هيكلة الدولة، بما يؤدي إلى اكتسابها القدرة على القيام ببعض الوظائف العامة بعيداً عن تدخل السياسيين المباشر (مثلاً، إنشاء مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي)، تحالف أركان النظام الطائفي وعلى رأسهم التحالف الماروني الثلاثي (بيار الجميل، كميل شمعون، ريمون إده)، لإبعاد الشهابية عن الحكم. وبالتالي استعادة قبضتهم على مفاصل الدولة والتحكم في مواردها، الأمر الذي توِّج لاحقاً في انتخاب الرئيس سليمان فرنجية، رمزاً ساطعاً من رموز عهد “الإقطاع السياسي” السابق للعهد الشهابي الذي استمر من 1958 وحتى 1970 ، مضافاًر إليه عهد شارل الحلو.

ومع سقوط الشهابية، بدأ ترجيح مسار جديد في تحدي دولة الطوائف (المتحالفة دوماً وأبداً مع مافيا التجار والمصارف) تكوّنت عناصره من نقابات العمال والمزارعين والحركة الطلابية والأحزاب اليسارية وجماهير الطوائف المحرومة، نسبة إلى نظام توزيع السلطة ومواردها ما قبل فترة الحرب الأهلية (1975-1989) واتفاق الطائف (1989). وبعد مخاض عسير تخللته مواجهات دموية ليس فقط بين قوى التغيير المتمثلة آنذاك بالحركة الوطنية اللبنانية وميليشيات الطوائف، وإنما أيضاً بين ميليشيات الطوائف وضمن الطوائف نفسها، انهزم مشروع الحركة الوطنية أمام الاجتياح الاسرائيلي والوصاية السورية والقوى السياسية الطائفية، وتمَّ إعادة إحياء الدولة الطائفية نفسها، وإنما على أسس جديدة من إعادة توزيع السلطة ومواردها، الأمر الذي أدى إلى تعميق تطييف السلطة، وجعل شرْعيتها مرتهنة بذلك التوزيع الأكثر “رجرجة” لاحتكامه إلى موازين قوى طائفية (وإقليمية ودولية) غير مستقرة.    

 تُظْهر هذه المفاصل في سلسلة الأحداث التي مرت على لبنان منذ نشأته، أنه كلما حاولت قوى سياسية من داخل الدولة (الشهابية) أو من خارجها (الحركة الوطنية مع الإشارة إلى رئيسها كمال جنبلاط الذي كان قد غادر المنظومة الحاكمة وانتسب إلى القوى الشعبية)، أن تعيد النظر أو تطالب بتغيير الأسس الطائفية للدولة والسلطة في لبنان، تصد السلطة الطائفية وأركانها هذه القوى، وتسعى إلى الإبقاء على أساسها الطائفي الواضح، مع إمكانية تعديل قواعد توزيع منافعها ومواردها لهذا الطرف أو ذاك، بحسب تبدل موازين القوى الطائفية. وعندما نشهد نزاعات بين أركان السلطة الطائفية تدور حول نسب المحاصصة وتوزيع مواردها، يتدهور الأستقرار السياسي بكل تأكيد، ولكن دون أن يمس بالدولة والسلطة السياسية بالمعنى العميق للكلمة. وغالباً ما يختلط في الخطاب السائد، موالياً كان أو معارضاً للنظام، هذا النوع من عدم الإستقرار السياسي مع تحديد هذا الخطاب لما يسمى بالدولة الضعيفة في لبنان. هذا مع الإشارة إلى عدم استبعاد أن يدفع هذا النوع من عدم الإستقرار السياسي إلى دخول لبنان في آتون الحرب الأهلية، أو إلى المكوث على حافتها. في المقابل، كلما اتفقت القوى السياسية على تقاسم السلطة، وظائف ومواردَ، كلما استقر الوضع السياسي واشتدت سطوة الدولة الموزعة عبر القنوات الطائفية وتعاظمت هيبتها المتشعبة طائفياً أيضاً وأيضاً.

فبدلاً من القول المأثور بأن “قوة لبنان هي في ضعفه”، ينبغي القول بأن قوة الدولة (والنظام) هي في ضعفها بالذات.

Leave a Comment