زهير هواري*
ــ الجزء الأول
اعلم أن قرار المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه ، فتؤثر الدِعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار والمأوى، وجب أن يُراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها، فأما الحماية من المضار فيُراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة، إما على هضبة متوعرة من الجبل ، وإما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها الا بعد العبور على جسر أو قنطرة، فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها… وقد يُراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية … ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل، أو تكون بين أمة من الأمم، موفورة العدد، تكون صريخاً للمدينة متى طرقها طارق من العدو.”1″
هذا بعض ما جاء لدى ابن خلدون حرفياً ، ويمكن عطف ذلك على لب نظريته في العصبيّة و قيام العمران وعوامل خرابه ، وأعمار الدول وأجيال الحكّام وغيرها مما فاضت به مقدمته… لكن سابقيه من المؤرخين أضافوا إلى ما ذكره العديد من العناصر التي تدخل في اختيار مواضع المدن مثل أن تتوسط أنحاء البلاد، وأن تتسع لإدارت الدولة ودواوين الخلفاء والأمراء والولاة وأرباب الصنائع والحِرف، وأن تكون طرقاتها البرية أيضاً مفتوحة على الأقاليم ومحيطها الزراعي والرعوي كي تصلها منها قوافل الميرة، تحمل معها البضائع في حركة التبادل، وكذلك المؤن من خضار وفواكه وحبوب ومواشي وغيرها من ضرورات حياة الخاصة والعامّة. وقد باتت المدن منذ أن كتب هذا المؤسس مقدمته أكثر تعقيداً، فقد قسّم تلامذته المدن إلى : صناعية، زراعية، تجارية، منجمية، علمية ، دينية.. ومحلية ووطنية واقليمية وكوزموبوليتية وغيرها.. أيضاً درسوا الشكل الذي اتخذته المدن فوجدوها شطرنجية أي مربعة أو مستطيلة أو مستديرة وغيرها تبعاً لما اعتمده منشئوها والتوسع الذي طرأ عليها.
وبيروت منذ أن كانت عبارة عن قرية فينيقية ، ضمت في أطوارها المتعاقبة نتفاً مما ورد أعلاه من عناصر محددة لقيام المدن، وإن ظلت حتى القرن التاسع عشر عبارة عن قرية أو بلدة ساحلية، تتعيش على تجارة البحر استيراداً وتصديراً وبعض الزراعات والحِرف، لكن الثنائية التي ظلت تحكمها هي ثنائية الحرب والبحر. الحرب في الداخل، وعليها من الخارج . فقد أدى تركيبها الداخلي المتقلقل والمحيط الذي يزنرها إلى معادلة متفجرة ، كما أتاح لها موقعها على الساحل المتوسطي إمكانية أن تكون رأس جسر يمكن منه اجتياز العقبات الجبلية واختراق الصخور والوصول إلى ” سورية المجوفة” كما وصفها اليونان القدماء، بدءاً من سهل البقاع نحو بادية الشام ، وأبعد منها بما يفتح على كل من البحرين الأحمر والعربي بجناحيهما الأفريقي والآسيوي. البحر هو التجارة والتبادل بين منتجات الشعوب، والحرب هي الاحتمال الأكثر رجحاناً عندما تتصادم مصالح الدول وأساطيلها سعياً وراء الأسواق، وما تحمله قوافل الجمال أو ينتجه الجوار. لعل انفجار المرفأ في الرابع من آب العام الماضي هو تكثيف لهذه الثنائية المترعة بالدماء والزجاج المتناثر والشرفات الممزقة والخراب المقيم. معطوفاً على قرار المغالبة على النهوض دوماً بعد حدث التدمير. وكأنها المدينة تعيد على نحو ما تفسير ما ذهب إليه فرويد عندما تحدث عن ثنائية الموت والحياة، أو البناء والهدم كدوافع غريزية لدى الانسان . لكن مثل هذا التعميم لا يفيد في الكثير. وقد روى كثيرون قصتها ، كما فعل سمير قصير بأشلائه ونزيز دمه بعضاً من سردية قصتها وقصة حداثتها.
وهذه المدينة يمكن تتبع تاريخ حداثتها القريب منذ أن حطت أوائل الارساليات والبعثات والمبشرين وجيوش ابراهيم باشا رحالها في رحابها، وما أقره الأخير من جديد في مجالات تنظيمات كثيرة ، فعمل على توسيع مرفئها، وبنى الكرنتينا قرب برجها أو قلعتها الشرقية، والتي ما تزال تحتفظ باسمها إلى الآن، لعزل التجار والرحّالة القادمين مدة أربعين يوماً قبل السماح لهم بدخول بلادنا، خوفاً من حمل أؤبئة داخل أجسادهم، أو بين ثنايا ثيابهم والبضائع. لكن التأثير المصري كان أبعد غوراً عندما عمل على فتح الآفاق أمام شتى العناصر والقوميات والملل والنحل، وساوى بينهم في الفرص، ودعاهم للمساهمة في مشروعه. ثم كان ما كان عندما أرغمت اساطيل الدول الاوروبية المتدخلة في “المسألة الشرقية” قواته على الإنكفاء عن بلاد الشام إلى مصر، ومنحت عائلة محمد علي باشا في المقابل، الموافقة على إقامة حكم سلالي حكر على أسرة كبير العائلة العلوية. وهكذا كسرت مشروعه النهضوي الأصلي في وراثة الامبراطورية العثمانية، وعوَّضته عنها حكم هبة النيل مصر. بعدها مباشرة تندلع فتنة الأعوام 1840 – 1860 في الجبل والداخل، فيأتيها من الجبل الهاربون من المجازر الأهلية، طامحين إلى السلم في ربوعها شبه القروية. كما يفد إليها من عاصمة الأمويين السابقة في الداخل، كثيرون فارين من سيف الظلم الطائفي الذي يطالهم في بيوتهم ومشاغلهم، التي ظنوها آمنة على حياتهم وموجوداتهم ووسائل عيشهم، فأكلتهم وأكلتها النار. لكن الأهم هو أن هذا الاقتتال الأهلي الذي أضرمته المشاريع الدولية المتطاحنة قاد إلى تأخير إنجاز طريق بيروت الشام، وهو المشروع الطموح نحو ربط الساحل بالداخل العربي الواسع، ومع مرافئ أوروبا حيث قادتها يبحثون عن المواقع الاستراتيجية لمجاراة النهضة الصناعية التي أطلقت طاقة معاملها التي تحتاج إلى أسواق لتصريف منتجاتها، وللحصول على المواد الأولية اللازمة لمزيد من التصنيع. لكن التقدم والحداثة لم تتوقف فتابعها العثمانيون وجعلوا من بيروت ولاية ومدينة ممتازة أيضاً، وتابعوا ما شَرَع به الباشا المصري.
أيضاً، وأيضاً ما كان لمرفأ بيروت أن يصل إلى ما وصل إليه لو لم يصلها التجار من شتى الأصقاع القريبة والبعيدة ومعهم بضائعهم محميون بنظام الحماية والحقوق العثماني على أنفسهم وما يحملونه للإتجار. قبلهم كان المرسلون يتسابقون للوصول إليها والاستقرار في أحيائها مثلهم مثل القناصل المعتمدين. كان المبشرون ينتمون إلى شتى الطوائف المسيحية القديمة والمستجدة. أما المدينة التي ظلت بمنجاة عن تلك الحرب الأهلية ، فقد عرفت فورة تجارية رفعت عدد سكانها من خمسة الآف في مطلع القرن التاسع عشر إلى 46 ألف قرابة العام 1860 ، ثم إلى 80 ألف عام 1888 ، فإلى 120 ألف عشية الحرب الكونية الأولى . ومع زيادة السكان تغيرت الديموغرافيا وما يرتبط بها من توازنات وعادات وتقاليد راسخة، وانتقلت من مدينة سنية على نحو خالص تقريباً إلى مدينة مسيحية ( ارثوذكسية ثم مارونية ) – سنية ( مع وجود شيعي ودرزي ) بواقع 60 % للأولى و40 % للثانية. الحداثة الزاحفة من البحر والبر غيرّت في شكل المدينة وحاراتها وطرقاتها ومبانيها وأثاث بيوتها، وأخرجتها من شرنقتها تباعاً ، باعتبار أن الأسوار باتت عاجزة عن ملاءمة متطلبات عمرانها العصري. إذن انفتحت بواباتها السبعة على الجوار، وبدأت بالتهام الأراضي الرملية الزراعية تباعاً بما فيها من مزارع خضار وفواكه وآبار مياه للشرب والري.
البعثات التبشيرية التي سبق واستقر معظمها في الجبال القريبة هبطت نحو المدينة النابضة لتحظى بمساحة فيها، أو نزلت فيها أصلاً ، وتبارت في إنشاء المدارس. كان الهدف المباشر والرئيس هو تعليم وتثقيف أبناء طوائفهم بلغاتهم وتاريخهم وعاداتهم . ومن منهم ممن لم تكن لديه طائفة أو أتباع ، جهد من أجل إكتساب حصة خاصة به لتكريس نفوذ بلاده وكنيسته وثقافته التي حملها معه. فرنسيون وايطاليون وانكليز واميركيون وألمان وروس كلهم حضروا في حلبة التنافس.الجماعات المحلية السنية خصوصاً التي اعتمدت تاريخياً على نفوذ “الدولة العليّة” أدركت بعد انتظار أن عليها أن تشمِّر عن سواعد أبنائها، وتنشئ هي الأخرى مؤسساتها دفاعاً عن وجودها، الذي شعرت أن الطوفان قد يجرفه في مجرى لا تريد أن يبلغه أبناؤها. وهكذا قامت مدارس من كل نوع. بعضها من نتاج التحديث العثماني ، لكن الأهم منها كان يتبع الارساليات، وبعضها الآخر أنشأته جمعيات طائفية أو وطنية محلية لحماية وجودها الذي تخوفت أن تكون موجة الحداثة التي دخلت المدينة في خضمها تكاد تطيح بما تعودته من علاقات وهدوء ورتابة عيش. وكانت الحصيلة أن نجحت بيروت في غضون فترة قياسية قصيرة أن تصبح مختبراً تتفاعل فيه كل هذه العناصر ، بعد أن تمكنت من أن تفرض على هذه البعثات إزاحة الرداء اللاهوتي التبشيري عن مؤسساتها التعليمية والأكاديمة التي باتت تستقطت تلامذة وطلاباً من عموم الملل والمذاهب والديانات ومن البلدان المحيطة. كان التنافس بين هذه المكونات ضارٍ إلى حد مدهش ، وصح ما ذكره دانيال بلس من أن إنشاء الكلية السورية الانجيلية هو المدخل لقيام كلية ثانية في بيروت، لأن عمله سيدفع بالآباء اليسوعيين هم الآخرين لإنشاء كليتهم – جامعتهم ، وهكذا نهضت في بيروت أول جامعتين حديثتين في الشرق العربي ممثلتين بالكلية السورية الانجيلية التي صار اسمها الجامعة الاميركية، وجامعة القديس يوسف المعروفة باسم الجامعة اليسوعية .
وسط هذا الصخب نشأت حركة الترجمة والتأليف متأثرة بمراكز الحضارة الاوروبية والاميركية، وصدرت الصحف والمجلات بالعربية والفرنسية ثم بالانكليزية ، وكانت باكورتها حديقة الأخبار في العام 1858، ثم كرت السبحة لتصبح بيروت رائدة المشرق والمغرب العربي في تطوير اللغة العربية وإصدار المعاجم والموسوعات وترجمة الكتاب المقدس وإعادة طباعة كتب التراث الاسلامي والمسيحي ونشر الصحف، إن لم يكن على مسرحها الصغير، ففى ميادين عواصم شتى الأقطار العربية. لقد ساهمت الأقلام اللبنانية في تأسيس وتطوير الصحافة العربية في معظم الدول العربية على حقبات زمنية متلاحقة في مصر وتونس والعراق والسودان ولاحقاً في دول الخليج العربي. وخلال تلك الأزمان كان مرفأ بيروت يواكب التطور الذي بلغ ذروته قبيل ومع قيام دولة لبنان الكبير، حيث لم تعد وارداته للسوق اللبناني بل لقسم من سوريا وكذلك العراق وشبه الجزيرة العربية . من مرفأ صغير يصدر الحرير والصابون ومصنوعات نسيجية حرفية ومواداً زراعية بسيطة إلى مرفأ يتعاطى في تجارة المنطقة مع العالم، ويشغل موقعاً رئيسياً بين موانئ شرق البحر المتوسط.
حديثاً ينهض المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، وتسقط حيفا ومعها تلك المدن الفلسطينية التي لم تكن قبلاً تخاف من هدير البحر. وصودف أن ذلك حدث في الوقت نفسه الذي كانت فيه اميركا واوروبا بأمس الحاجة إلى النفط لإستعادة معظم مصانعها هدير الآتها الثقيلة، التي قد يكون بعضها صدىء بالاهمال، أو تحول للانتاج العسكري خلال الحرب الثانية. وتحولت البواخر المحملة بالبضائع الوافدة نحو المنطقة العربية، من حيفا إلى بيروت، ومع الاقتلاع الصهيوني للفلسطينيين من ديارهم ، وفدت إلى بيروت أيضاً طبقة من الانتلجنسيا الفلسطينية بما حملته من علوم وثقافة وأموال، فساهمت في إعادة تشكيل خارطة هذه العاصمة ودورها الداخلي والاقليمي في ذلك المفصل…
لم تكن أحداث الفتنة الأولى حصيلة فتيل خلاف فردي. كما لم يكن احتلال مرفأ حيفا وغيره من مدن فلسطينية تحقيقاً لوعد قطعه الآله لشعبه اليهودي المختار.. كما أننا لا يمكن لنا أن نصدق الرواية التي قدمها لنا أحد كبار الضباط اللبنانيين، والتي تقول أن انفجار الرابع من آب والذي نجم عنه من أكثر من مائتي شهيد ومفقود وحوالي 7 الآف جريح وتشريد 300 ألف انسان ودمار ثلث العاصمة تقريباً ، ناجم عن قيام عمال بعملية تلحيم في أحد العنابر.. تلك اللازمة التي باتت مرافقة لكل حريق وانفجار في البلاد.
بعض ما ذكرناه قديم وجديد يؤكد على حقيقة تلك الثنائية القاتلة التي تجمع في فضاء المدينة بين البحر والحرب ، والتي لا تحتاج سوى إلى ابدال بسيط في ترتيب حروف الكلمتين. قد تكون عملية الاقلاب هذه أقرب منالاً من هذه الاستعادة لقرون وعقود طويلة. والمرفأ دوماً يجمع بين العالمين فهو على حافتهما معاً. يحمل من الحرب أوجاعها والجراح، ومن البحر الجموح نحو الحرية، والتواصل مع العوالم البعيدة وتجاوز مساحة هذا اللسان الممتد في البحر وظهره متكئاً على الجبل، فيما تمثال المهاجراللبناني يقف مديراً جانبه للمدينة، ووجهه على ” بوابير ” عائمة، حملت آباءه وأجداده إلى العالم الجديد، الذي كان يومها محتاج إلى أيدٍ عاملة فتية للمصانع والمزارع والتجارة الصغيرة المحمولة أكشاكاً على الرؤوس، يدورون بها في الأحياء والأرياف، ثم يؤسسون محالاً صغيرة تبيع أشياء رخيصة، فشركات تجارية وصناعية، وتباعاً يدخلون في نسيج المجتمع الجديد، كما دخل آخرون في نسيج مجتمعهم الأصلي وباتوا جزءاً من دينامياته .
قبل الحريق حريق أقدم
تبع الانفجار الهيروشيمي بداية، والذي ظنه البيروتيون واللبنانيون عامة ممن شعروا به أو سمعوا دَويَّه عن قرب أو بُعد ، أنه زلزال كالذي كانت تتعرض له بيروت كل خمسماية عام، وباتت تنتظر حدوثه، حدوث حريق في المرفأ بعد عدة أيام في المكان الذي شهد انفجار نيترات الامونيوم، مع عناصر تفجير إضافية مضاعفة . الحريق الذي لم يفصل بينه وبين التفجير الأكبر سوى وقت قصير لم يُتح الوقت لدفن الشهداء ولأم الجراح. الآن يضيع قاضي التحقيق في متاهة مخالفات وتراتبيات ومعطيات ودهاليز سياسية – إدارية لتفسير كيف أقامت هذه المواد المتفجرة منذ العام 2014 في العتبر رقم 12 دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها وإبعادها عن الحَرَم. مرت أشهر على محاولة المحقق رسم سيناريو وتحديد المسؤول عما حدث ولم تصدر أي نتيجة بعد، بينما كانت حكومة الرئيس حسان دياب قد وعدت بتحقيق لا يحتاج لأكثر من خمسة أيام فقط كي يكون ناجزاً، وتظهر معه خفايا وحقيقة حدث الجريمة. ما زال ذوو الضحايا ينتظرون أن يعرفوا لماذ وكيف سقط أحبتهم ودمرت بيوتهم، بينما المدينة تعيش جراحاً راعفة لا مجال لها أن تلتئم ، طالما أن النسيان لم يحدث والإعمارلم يتحقق . كانت الكثير من الأوراق والمستندات عما جرى ويجري في المرفأ منذ زمن، ما تزال سليمة مخزنة في العراء بشكل عشوائي، كما هي عادة فوضى المحفوظات في الدوائر الرسمية. بعد الحريق باتت هذه السجلات مجرد رماد اختلط بأنقاض سابق عليه. تماماً كما اختلطت أجساد الشهداء والمفقودين بصهارات الحديد وركام العنابر بمحتوياتها المختلفة. بالطبع لا يمكن لمقولة التلحيم ومصادفاتها أن تضيئ على المجريات القديمة – الجديدة. يحدث هذا في ما أهالي الجميزة والمدوَّر ومار مخايل والأشرفية ما زالوا يلملمون أشلاء ضحاياهم من البشر والحجر، ويحاولون إعادة ترتيب الذكريات المبتورة من دواخلهم، قبل أن تجمع فرق الدفاع المدني الباقى من أعضائهم، ويكنس المتطوعون الشوارع، ويرفعون ركام البيوت التي تسد الطرقات بمخلفاتها من زجاج مهشم وخشب ممزق وقرميد مكسور و…
تذكر الأهالي القدامى منهم روايات سمعوها من آبائهم وأجدادهم الذين قضوا في العقود الماضية، أن محلة المدوَّر نفسها كانت قد شهدت في احدى ليالي كانون الثاني / يناير من عام 1904 وقوع حريق كبير التهم كازاخانة بيروت في تلك المحلة، وما لبث أن امتد إلى المباني والقصور المجاورة، فقضى على أجزاء كبيرة من الأحياء الواقعة بين هضبة الأشرفية والبحر. أي ذات الأحياء تقريباً التي طالها، إن لم يكن الانفجار فعصفه المدمرعلى الأقل. والكازاخانة هي مستودع للكاز، وهي مادة المحروقات والطاقة الأساسية في حينه . .. وكان مقرها في محلة المدوَّر نفسها، وكانت تحوي مئات البراميل التي نقلتها السفن وأفرغتها في مرفأ بيروت قبل أن تصل إلى مستقرها. وكانت الكميات تكفي لتغطية حاجات المدينة لعدة أشهر. البائعون من أصحاب الطنابر التي تجرها الحمير والأحصنة الهَرِمة كانوا يقصدون المكان مع خزاناتهم ليقوموا بملئها ثم توزيعها لاحقاً بالمفرق على سكان المدينة للإضاءة والطبخ والتدفئة شتاءً.. ولأن التلحيم بالكهرباء لم يكن في حينه معروفاً، وكان يستبدل بـ “تبشيم” الحديد عبر مسامير يصنعها الحدادون أنفسهم، فقد قيل إن السبب أنه في احدى ليالي كانون العاصفة سقط قنديل في اسطبل الحمير التابع للكازخانة ، ولأنه يحوي الكثير من القش والتبن، فقد انتشرت النيران بسرعة، وامتدت إلى مستودعات الكاز وأحرقتها. واستمر الحريق متواصلاً يومين قبل السيطرة عليه ، ولم يسلم من الأحياء المجاورة سوى كنيسة مار مخايل، ليس لأن أعحوبة هذا القديس أنقذتها من ألسنة الحريق، بل لأنها كانت تنتصب وحدها وسط ساحة، ولا تتصل بأي مبانٍ أخرى. هذا الحريق بات علامة تأريخ في قيود النفوس، إذ أورد بعض المخاتير عبارة ” يوم حريق الكازاخانة ” بدلاً من تاريخ ميلاد صاحب العلاقة. حدث ذلك في عهد والي بيروت العثماني خليل باشا الالباني، والذي استمرت سلطته حتى سنة 1908 عندما قامت ثورة تركيا الفتاة واعلان الدستور العثماني وإزاحة السلطان.
الدور الذي لعبته الكازخانة لعب أضعافه المرفأ راهناً، كون المدينة تشكلت حوله وربما نتيجة وجوده. كانت القاعدة أنه كلما زاد عدد أحواضه وعنابره تنفلشس المدينة نحو ما بات ضواحيها شرقاً وشمالاً وجنوباً. تتسع المدينة بعيداً عنه، لكنه يظل مصدر شعورها باستمرار وجودها في عالم التبادل، مرفأ للسفن بحمولاتها ومحطة للترانزيت ومنطلقاً للتصدير، وسط عالم من الدينامية قبل أن تصل إليه المعازل الكورونية مؤخراً. ومن المرفأ يرد للمدينة أكلها وشربها وهلمجرا من الحاجات ، وما هو أبعد منها للأنحاء اللبنانية، وبعض ما يرد إلى دول عربية من مستوردات في ما تبقى من تجارة الترانزيت اللبنانية الشهيرة. ولأن عملية التلحيم التي قيل إنها تسببت بالانفجار والحريقيْن الأخيريْن، أكبر من قيام ثلاثة عمال جرى تصويرهم خلال العمل، وهم يؤدون مهمتهم “الجليلة ” كشهادة موثقة، لا يدرك المسوُّقون أننا نعلم أن خرائط ترسم في كبرى أروقة العواصم المقرِّرَة والمكاتب الدولية ، ومشاريع توضع للمنطقة، يطمح واضعوها من خلالها أن يطوي مرفأ حيفا صفحة المقاطعة بعد اثنين وسبعين عاماً على قيامها..
المدينة والدولة المنكوبة
لعل القصة ، قصة المدينة في طورها الراهن ، بدأت بنسختها الأخيرة في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج مئات الألوف من اللبنانيين احتجاجاً على مرحلة الوصاية السورية وما تخللها، متوجة بالجريمة الصاعقة. ترافقت التظاهرات مع تظاهرات مضادة وفاء لسوريا إقامتها في ربوع لبنان ضمن قوات الردع العربية ووارثة لها بعد سنوات قليلة. التظاهرات من الضفتين عبرت عن عادة المجتمع اللبناني بالإنشطار دوماً على نفسه، وقسَّمت الوسط التجاري إلى مربعين، أحدهما لما سيوصف بأنه قوى 8 آذار والآخر لما يعرف بـ14 منه . ساحة مقابل ساحة . حشود هنا وحشود تقابلها هناك. ولم يملك الجيش اللبناني في حينه، سوى أن يضع حائطاً من الأسلاك الشائكة بينهما لتلافي التصادم. ما حدث لاحقاً من أشكال الصراع يصب في هذا الاطار من دون سواه. ومعه تسارعت عملية القضم التدريجي لسلطة الدولة وقرارها. أصلاً في غضون سنوات الحرب جرى إلحاق المؤسسات بطرفي الحرب الأهلية كقوى أمر واقع . أما بعد الطائف والدوحة فقد تحولت الدولة دستورياً بمؤسساتها إلى ملاحق مستباحة للقوى الطائفية . بات العبور للوظائف والحصول على أبسط الحقوق ووظيفة عامة، ناهيك بحصة من المشاريع يرتبط بالولاء للمرجع الطائفي الأبرز. والأهم أنه جرى تباعاً إفراغ الموقع المتميز للمدينة من آفاقه العربية والدولية الذي تشغله على صعد الفكر والثقافة والتجارة والتبادل المتدفق والدبلوماسية. وهكذا ذوى مشروع الوسط التجاري وطموحات صاحبه في ربيع عربي يجذب الاستثمارات ويعيد لبيروت محوريتها في المشرق العربي. خلال هذه السنوات الفاصلة باتت المؤسسات الدستورية مشلولة، ويحتاج أي تحريك لها إلى ما يشبه التوافق الاقليمي الدولي تتشارك في وقائع المفاوضات بشأنه عواصم كثيرة، وجرى بالتدريج تدمير منطق الدولة، ومعه كامل النظام اللبناني على علاته لصالح صيغ أكثر انغلاقاً وتخلفاً. وشيئاً فشيئاً انزاحت السلطة من مكانها الأصلي بما هو المجلس النيابي ومجلس الوزراء والقضاء والأجهزة الأمنية وباتت في مكان آخر، أو ما يسمى الغرف السرية. وشهدت البلاد عملية زحف ممنهجة باتت معها التراتبيات والمؤسسات والأنظمة والقوانين والمواعيد الدستورية مجرد اجتهاد لا قوة أو حُرمة أو احترام لأحكامه. يمكن وصف ولاية الرئيس الحالي بأنها التعبير الأصفى عما بدا متواضعاً، ولكن متدرجاً على نحو تصاعدي. وهكذا سقط الدستور والقانون والنظام الديموقراطي البرلماني تباعاً في فخ من الفجاجة المذهبية التي لم تعرفها قبلاً. ومعها لم تعمِّر التسويات التي جرى التوصل إليها سوى يسيراً من الوقت، تخللتها مناكفات يومية وأسبوعية شلت ما تبقى من هيئات ومرافق وعطلت الاحتمالات المتاحة لبعض الفاعلية على كل صعيد .
ومعه باتت بيروت مسلوخة عن بُعدها السياسي والثقافي والاجتماعي الذي طالما عُرفت به عندما كانت منفتحة ومتصلة بالعواصم العربية في دمشق والقاهرة والرياض وبغداد وتونس والجزائر والرباط .. فضلاً عن هواها الفلسطيني وعلاقاتها اليومية بالقدس وشعور بالخطر على فلسطين، ناهيك بباريس وروما وواشنطن وغيرها ..
ففي شهر تشرين الأول من عام 2019 أعلنت المديرة العامة لمنظمة الأونيسكو أودري ازولي بيروت مدينة مبدعة في الأدب، وبذلك انضمت عاصمة لبنان إلى شبكة المدن المبدعة التي أنشأتها المنظمة الأممية منذ عام 2004، والهادفة إلى تسليط الضوء على ابداعات المدن في مجالات مختلفة . صدر الاعلان عشية الاحتفال باليوم العالمي للمدن الموافق 31 تشرين الأول. عبَّر الاعلان عن إقرار الأونيسكو بالمكانة الإبداعية الثقافية الخاصة لبيروت ، لا سيما في المجال الأدبي ، وهي التي صنعتها عقود من الريادة في مجالات الصحافة والنشر والترجمة والجدل وإقامة معارض الكتب، وكذلك بالدور المميز لجامعاتها ونواديها الثقافية ، وباحتضانها لكتَّاب وأدباء وشعراء من مختلف أنحاء العالم العربي ، لطالما جذبهم إليها مناخها الفكري المنفتح وصحافتها الحرة ، كما قالت سفيرة لبنان لدى الأونيسكو سحر بعاصيري . وبذلك باتت بيروت زميلة لمدن غرناطة وبرشلونة (اسبانيا) ودبلن (ايرلندا) ودربن ( جنوب افريقيا) وهايدلبرغ (المانيا) وميلانو (ايطاليا) وكيبيك ( كندا ) وغيرهم . وقبلاً كانت بيروت قد أُعلنت عاصمة عالمية للكتاب بعد أن سبقتها بغداد.
قد يكون الاعلان من باب الصُدف الغريبة بعض الشيء ، ففي ذلك العام جرى بعد هذا التكريم لبيروت إلغاء الموعد السنوي لإقامة معرض الكتاب العربي والدولي الذي ينظمه النادي الثقافي العربي واتحاد الناشرين اللبنانيين. أيضاً وبالتوازي مع الإلغاء كانت دور النشر تقفل أبوابها تباعاً، ومعها الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. من يستعرض أسماء الصحف المتوقفة عن الصدور يجدها أضعاف أضعاف الباقية . بينما أصبحت الأعمال الابداعية والمعارض أقل حضوراً في حياة المدينة ومثقفيها وأهلها خلال العقود الأخيرة. كانت الأزمة التي تتخبط بها المدينة تزحف على حياتها الثقافية والفنية والابداعية بثبات، وترافقت تلك الأزمة مع عشرات الحرائق مجتاحة المناطق الحرجية وهددت بألسنتها البيوت في القرى والبلدات، وسط عجز مطبق عن مواجهتها، فيما النفايات تتكدس على نحو فضائحي في الشوارع وعلى الطرقات وبين البيوت. انفجر اللبنانيون على نحو لم يعرفوه قبلاً محاولين استعادة مدينتهم “الموقوفة ” أو “المعلّقة “من المصير المطبق عليها، وامتلأت الساحات بالشباب والشابات، قبل أن يتم إجهاض انتفاضتهم، وتفريغها من قواها، ومضمون الرسالة التي عبَّرت عنها حناجرهم، لتعود دورة ثنائية الحياة والموت كما كانت عليه.
المؤكد أن المرفأ هو عصب بيروت منذ العصر الفينيقي وإلى اليوم ، لكن الكارثة لم تُحِق بالميناء وحده، بل طالت أهلها وإيمانهم بالغد، وعصفت بما تبقى من مناطق تراثية إلى الشرق منه، حتى باتت المدينة مدينة منكوبة كما أعلنها محافظها والمجلس الأعلى للدفاع. والمدن المنكوبة في تعريف القانون الدولي، وكما تنص عليه اتفاقيات لاهاي وجنيف الرابعة وميثاق الأمم المتحدة، هي تلك المصابة، والتي لم تعد حكوماتها قادرة على تقديم الخدمات الأولية فيها كالتعليم والصحة والخدمات والأمن وإدارة المرافق الاقتصادية والعامة. والنكبة كما هو معلوم قد تكون بفعل كارثة طبيعية كالأوبئة والزلازل والبراكين والفيضانات، أو من فعل بشري كالحروب والتسرب الإشعاعي مثلاً. وعندما تعلن دولة ما عن مدينة أو منطقة منكوبة يترتب على حكومتها المسؤولة الإستعانة بالدول الأخرى والمنظمات الأممية، لتأمين مساعدتها على القيام بعمليات الإنقاذ والإغاثة وتقديم الخدمات.
لكن بيروت فعلاً لم تتعرض للنكبة وتصبح مدينة منكوبة وفق التعريف القانوني منذ أن تجاوزت الساعة السادسة من مساء الرابع من آب 2019، رداً على محاولة اللبنانيين ومنذ 17 تشرين الأول الدفاع عن تعددية وتنوع المجتمع اللبناني بتلاوينه وإنتماءاته، ورفضهم تحول عاصمتهم، مدينة للتعصب والإقصاء والفساد، خلافاً لما نشأت عليه كموقع تنويري حداثي يفيض دوماً على ما حوله بالتجريب والطروحات والابداع في جميع مضامير الفن والفكر. ومثل هذا المنحى للحضور المجتمعي الرافض لواقع التعفن من شأنه أن يقود إلى كسر سطوة وتسلط الفساد والسلاح ، ووصاية أمراء الحرب على الدولة ومؤسساتها من قضاء وأمن… وبيروت منكوبة قبل الموعد المشؤوم بطويل وقت.
فقد أظهرت التطورات السياسية المتسارعة منذ 17 تشرين الأول / اكتوبر 2019 والانتفاضة على الطبقة السياسية ونظامها وشركائها في الجهاز المصرفي ، وفي ما بدا للبعض أن الدولة الـ “غنائمية” كما صنفها اديب نعمة أو “المناهبة” تبعاً لتعبير أحمد بيضون قد سقطت، تبين بعدها أن هذا النظام المهترئ من أقوى وأعتى الأنظمة. وفي مثل هذا المناخ من التخثر عاشت المدينة أبشع الموبقات التي بلغت رقماً قياسياً في الفساد الذي طبقت أخباره الآفاق ومراكز القرار في عواصم العالم، لذلك اشترطت الدول المندفعة للمساعدة متأثرة بصدمة ما جرى في المرفأ وحوله، عدم تسليم ما تقدمه من مساعدات صحية وغذائية عاجلة للدولة وأجهزتها المتهالكة.
“1”ـ ابن خلدون، المقدمة،المجلد الأول – الفصل الخامس : فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث اذا غفل عن تلك المراعاة. اصدار دار الكتاب اللبناني – مكتبة المدرسة – طبعة العام 1982 ص 617 و 621.
*كاتب وأكاديمي
Leave a Comment