مجتمع

بول طبر: تبتسم كلما نجحنا في تحقيق المزيد من العدالة والمساواة والحرية

بول طبر

نص كلمة بول طبر في تأبين الصديق والرفيق، جون بشارة الذي غادر الحياة صباح يوم الاثنين، 9 نيسان 2023، عن عمر ناهز الـ  ٨٤ عاماً ، وذلك في مدينة سيدني. وكان جون قد هاجر من لبنان عام ١٩٥٦.

إسمحوا لي أن أبدأ كلامي بالقول أننا نقف اليوم لنودعَ رجلاً كان مميزاً على مستويات مختلفة. رجلٌ مارس تأثيره على أقرب الناس إليه وعلى أبعدَهم. جون كان حاضراً في مسقط رأسه وادي قنوبين، وفي سيدني وملبورن. كان تأثيره بل قل شبحُه، موجوداً في أوساط الأكادميين والباحثين والمناضلين والأحزاب والمنظمات، لا سيما منظمة التحرير الفلسطينية. جون كان الشاري المفضل عند بائعي الكتب، أكانوا في بيروت أم في سيدني. وكانت علاقته بالكتب فيها مزيج من الرغبة الجارفة في القراءة والإطلاع على آخر النقاشات والكتابات في الفلسفة والإجتماع وغيرها من جهة، وشيء من الصنمية من جهة أخرى. ولتكتشف هذا الأمر، ما كان عليك إلا أن تزور مكتبته الضخمة التي كانت تحتوي على عشرات آلاف الكتب، رغم إدراكه أنه لن يعمِّر بكل تأكيد ليقرأها بالكامل. أضف إلى ذلك، وجود الكتاب بين يديه دائماً وأبداً وفي كل مكان كان يتواجد فيه.

كان جون بشارة صاحب شخصية مركَّبة لا يمكن اختزالها إلى مقوِّمٍ موحَّد. كانت شخصيته تتضمن الشيء ونقيضه في كثيرِ من الأحيان. كان يمتلك مزاجاً يجمع بين الهدوء والتفكُّر والنزق. كان سريع الغضب بقدر ما كان متسامحاً. يحب الآخر ويخاصمه في الوقت نفسه. إلا أنه كان شخصاً مخلصاً ومتمسكاً بمثل العدالة الإجتماعية وحرية الشعوب والديموقراطية الحقة، ولم يساوم عليها أبداً طوال حياته.

من هنا لا بدَّ من التطرق إلى دور جون في الفضاء العام، الفضاء الذي يتعلق بالقضايا العامة التي تتمحور حول الجماعات والأفراد وإدارة شؤونها السياسية والإقتصادية وصولاً الى كرامتها وسعيها للعيش الكريم. والملفت في هذا السياق، هي الحواجز العديدة التي تجاوزها جون بشارة ليحتل موقع المدافع والمناضل ولو بحدود عن قناعاته الإنسانية النابذة لكل ما يمس بكرامة الإنسان. وعندما أشير إلى الحواجز التي اخترقها وصولاً إلى موقعه الإنساني، أعني بها الحواجز الجهوية والطائفية والعنصرية والطبقية وحتى الجندرية. نعم ميزة جون بشارة أنه استطاع أن يغادر الولاءات الضيقة والتي تميِّز بين الناس إلى رحاب الولاء الإنساني الأشمل والقيم التنويرية المتمثلة في حقوق الإنسان وحرية الشعوب والعدالة الإجتماعية والمساواة.

لم يستبدل جون بشارة إنتماءه إلى وادي قنوبين، وادي القديسين الموارنة، بانتمائه إلى جميع المقهورين على هذه الأرض، وإنما أعاد صياغة انتماءه الأصلي ليجعله منفتحاً على مناصرة جميع الشعوب المقهورة، وعلى رأسها الشعبين اللبناني والفلسطيني. وهنا بالذات تكمن ميزة هذا الرجل: لقد جمع في شخصه ومسيرته بين انتمائه لقريته وطائفته ووطنه لبنان، وبين إنسانيته المتضمنة لمباديء حق تقرير المصير لدى الشعوب، ومباديء الإشتراكية والديموقراطية والحرية. ولقد جسد ذلك في عدة خطوات عملية، منها تأسيس جمعية أصدقاء فلسطين مع المرحوم بطرس عنداري والصديق طوني مارون، وفي الكتابات التي نشرها إشهاراً ودفاعاً عن مواقفه، واستضافته لجميع المناضلين من العالم العربي أو المتواجدين في أستراليا. وأخيراً، لقد جسَّد مبادئه في تقديمه للدعم المادي السخي، وهنا أقصد، آلاف الدولارات، لكل من حمل المثل والمباديء التي كان يدافع عنها.

وفي سياق متصل، أنهي كلامي بالقول بأن جون بشارة كان له الفضل في أنه حفَّزني لأتعرف على كتابات كارل ماركس، وعلى أثرها إلتحقت بمنظمة العمل الشيوعي وكنت من المساهمين في تأسيس فرعٍ لها في سيدني، دام فاعلاً حتى عام 1992، وكان جون من الداعمين الماليين الأساسيين لهذا الفرع.

وداعاً جون بشارة، يا رفيقي وصديق العمر. رحيلك الجسدي لا يلغي أبداً التأثير الروحي الذي تركته عليَّ شخصياً وعلى من رافقوك وعلى الأجيال القادمة. وأنا على يقين أنك ستبتسم كلما نجحنا في تحقيق المزيد من العدالة والمساواة والحرية على هذه الأرض.

Leave a Comment