اقتصاد مجتمع

انهيار سعر صرف الليرة خطوة متقدمة نحو الانفجار الكبير

زهير هواري

المحطة التي بلغها سعر صرف الدولار في السوق السوداء والتي تجاوزت الـ 80 ألف ليرة، هي محطة مؤقتة، كما تشي كل المعطيات السياسية وغير السياسية. فالإنسداد السياسي ما زال سيد الموقف، حتى الحراك المحلي المتواضع سعياً إلى إملاء موقع رئيس الجمهورية الشاغر أخلى مكانه للجمود القاتل. والتحرك الخارجي الذي أعلنه سفراء الدول الخمسة التي اجتمعت في باريس امتصته المواقف التصعيدية، بعد أن أعادوا كرة النار إلى المسؤولين الذين التقوهم ، داعين إلى المبادرة إلى انتخاب رئيس للجمهورية دون المزيد من الإبطاء المدمر للبلاد، وتشكيل حكومة تباشر الاصلاحات التي جرى التوقيع عليها بالاحرف الاولى بين الحكومة ووفد صندوق النقد الدولي على مستوى الموظفين، والتي ذهبت بدورها أدراج الرياح. ولم ينفذ منها شيء بصرف النظر عن الموقف من هذه الاصلاحات لجهة قدرتها العجائبية على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وفي المقابل كانت الاوضاع المالية – النقدية وقيمة الليرة تشهد مزيداً من التراجع الذي لا يبشر بخير. ففي أعقاب الاحكام القضائية الصادرة على (مصرف فرنسبنك) باستعادة أموال مودعين لديه بالدولارالاميركي، رد القطاع المصرفي بإقفال أبوابه بناءً على قرار جمعيته مع إبقاء الصرافات الآلية قيد العمل، ما أثار غضبة متجددة للمودعين الذين بادر عدد منهم إلى إحراق خمسة فروع مصرفية في منطقتي بدارو وطرابلس. وبذلك ضاعت في خضم الاحداث نتائج الاحكام، وتلك المحاولة البائسة التي طاولت صغار المضاربين غير المرخصين، بينما ظل الكبار منهم محمِّيون بوقائع الانهيار العام.

جري كل ذلك وسط إلتهاب الأسعار، التي وصلت حدود أن سعر كيلو البصل الذي كان يُضرب المثل برخصه، بات خارج متناول وقدرات المواطنين على شرائه. على أن الأمر لم يقتصر على هذه السلعة، إذ تعداها إلى سائر السلع دون استثناء، حتى أن ارتفاع سعر صرف الدولار دفع بوزارة النفط إلى اصدار جدولين للاسعار في يوم واحد، وصل معه سعر صفيحة المحروقات إلى مليون ونصف المليون ليرة وأكثر، وقارورة الغاز إلى حوالي المليون ليرة. ومن المعروف أن أسعار المحروقات بحكم كلفة النقل والانتقال محركة لأسعار كل السلع دون استثناء. وقس على ذلك باقي أسعار المستهلكات التي باتت مسعرة بالدولار، بعد أن حازت على شرعية اعتماد هذا الإجراء من وزير الاقتصاد. وما لم يجر تسعيره بالدولار يسير حثيثاً على هذا الطريق بما فيه ربطة الخبز التي ارتفعت أسعارها، وتطالب الافران أن يتم اصدار تسعيرة يومية لها، تلحظ ما يطرأ على سعر صرف الدولار من ارتفاع، أسوة بما يجري في سوق المحروقات.

وهكذا دواليك. مجمل هذه التطورات التي عاناها المواطنون الذين يبحثون عما يقتاتون به من سلع أرخص، دفعت إلى ظهور فوضى أمنية في العديد من المناطق، تمثلت بقطع طرقات وإشعال حرائق هنا وهناك، فضلاً عن حالات تفلت وسرقات وما شابه، وهذه جميعاً قد تكون رأس جبل جليد الانفجار الاجتماعي المتوقع.

كل هذا والآتي أعظم في ظل غياب أي معالجة للحد من الاندفاع نحو ما يسمى “الارتطام أو الانفجار الكبير”، ما دامت الليرة باتت تفقد يوميا من قيمتها أمام الدولار عدة ألآف وليس مجرد مئات، كما كان يحدث قبلاً. وباتت أي شائعة مهما كان وزنها في ميزان الانتشار، كافية كي تُترجم مزيداً من انخفاض قيمة الليرة. وبديهي وفي ظل المضاربات المحتدمة أن تتلاحق حالة الانهيار عما هي عليه، نحو المزيد من التهاوي، كقاطرة فقدت مكابحها وأصبح سائقها – على افتراض وجود سائق – دون قدرات على لجم تسارعها إلى “جهنم” كما وُعدنا من الرئيس السابق ميشال عون قبل رحيله من بعبدا.

معارك المصارف وجبهاتها!!

المؤكد أن المصارف سواء أكانت منخرطة أو غير منخرطة في المضاربات المالية هي من أطلق الشرارة، فبدلاً من أن تواجه الاحكام القضائية بالوسائل القانونية عبر المحاكم، عمدت إلى إقفال أبوابها كخطوة أولى مع إبقاء التحويلات إلى الخارج وماكنات الصراف الآلية في الخدمة. لكن في الوقت نفسه كانت أوساط جمعية المصارف تتحدث عن تصعيد أشد قسوة، يقضى بوقف العمل بالآت السحب، وهو ما يعني بصريح العبارة وقف عمليّات تحويل الرواتب إلى حسابات التوطين، وبالتالي تعذر حصول موظفي القطاعين العام والخاص على أجورهم. وبالتالي،  وضع كل محدودي الدخل، الذين لا يملكون مدخرات في بيوتهم في حال من المجاعة الكاملة. وفي باب التلويح الذي تسرَّب عن الجمعية أنها ستعمد إلى وقف العمل بأجهزة الصراف الآلي الذي يستطيع توفير المبالغ الصغيرة للزبائن وترفض الشيكات المسحوبة عليها. وأيضاً كانت هناك أحاديث متواترة عن وقف المشاركة في بيع الدولارات عبر منصة الصيرفة، ما يترجم فوراً بزيادة الضغط على الليرة، إذ سيعمد معها التجار والمستوردون إلى التوجه نحو الحصول على الدولار من الصرافين شرعيين وغير شرعيين للحصول على العملة الاميركية لدفع فواتيرهم. وبالطبع، فتوقف أعمال التحاويل إلى الخارج يعني تعذر الحصول على سلع مستوردة، ما يقود إلى أزمة تموين حادة في بلد يعتمد اقتصاده على الدولرة والاستيراد على نحو شبه كامل كلياً أو جزئياً، بما فيه المنتجات الزراعية (الأسمدة والادوية والآليات والبذور والاعلاف وغيرها كلها مستوردة بالدولار)، وهو ما يصيب أكثر ما يصيب السلع الاساسية، وهنا نتحدث عن المحروقات والقمح والأدوية وما شابه. ومن شأن وضع على هذا النحو أن يزيد إلتهاب أسعار كل الاصناف. كل هذا ولم نتحدث عن الطبابة والاستشفاء التي باتت بشهادة نقيب أصحاب المستشفيات خارج قدرة المتمولين فكيف بمن تبقى من طبقة وسطى وفقراء. وخطوة إقفال المصارف قادت إلى حجز إمكانية سحب الدولار “الفريش” الوارد من مصادره الخارجية التي يرسلها اللبنانيون إلى ذويهم في البلاد ما ساهم في حدة وتعقيد الأزمة.

الثابت أن الهدف الأساسي للمصارف إلى جانب التمرد على الحكم القضائي، فرض إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول في اجتماع “جلسة تشريع الضرورة” التي تعذر عقدها الاسبوع الماضي، رغم حرص هيئة مكتب المجلس على تقديمها في جدول الاعمال، لذا كان الاضراب من باب المزيد من الضغط على النواب لتمرير المشروع كما هو معروض ودون أدنى تعديل. وهو مشروع أقل ما يقال عنه أنه يبرئ المصارف من الارتكابات التي مارستها على امتداد السنوات الثلاث الماضية، خصوصاً لجهة التحويلات الخارجية ومصير أموال المودعين. وهذا كله يرتبط بالتوجه الحاسم الذي تضغط المصارف لبلوغه والمتمثل بوضع اليد على الاملاك العامة، وبيع ما تبقى من موجودات القطاع العام بعد أن تتنصل هي من الخسائر، وتلقي بالأعباء على الدولة، ما يفتح الباب على تصفية الاملاك العامة ونهبها بـ “تراب المصاري” من جانب المافيات السياسية – المالية، وضمن الأخيرة بطبيعة الحال أرباب القطاع المصرفي.

الخسارة والزمن الضائع

لكن اضراب القطاع المصرفي وإن كان قد ذكّر كثيرين بالاضراب الذي نفذته في العام 2019، الا أنه يختلف عنه بالكثير، فهو وإن كان موجها في جانب منه ضد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، الا أنه موجه أيضاً ضد صندوق النقد الدولي الذي لم يشترط فقط، إلغاء السرية المصرفية وإقرار قانون الكابيتال كونترول وإعادة توزيع الخسائر على الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، وإعادة هيكلة القطاع، بل أيضاً القيام بتحقيق جنائي في موازنة أكبر 14 مصرفاً في البلاد… وهذا كله من شأنه كشف المستور في سياساتها، ومَنْ وقف وراءها من سياسيين قاموا عن سابق تصور وتصميم بإفراغ البلاد من ملاءتها المالية، بعد استكمال نهب ماليتها العامة من خلال ما أُنفق على الكهرباء والفوائد العالية والدعم وشبكات الازلام المستفيدين  في جميع الحالات، خصوصاً وأن  مشروع قانون الكابيتال كونترول المطروح أمام مجلس النواب في ضوء التعديلات المتلاحقة التي أُدخلت عليه بات تصويبه الأساسي على تشريع حجز أموال “الودائع القديمة”، مقابل تحرير “الأموال الطازجة” بشكل تام، وهو ما يناقض فكرة الكابيتال كونترول نفسها كما أشار إليها صندوق النقد عدّة مرّات. كما أرجأ المصرف المركزي فكرة توحيد وضبط أسعار الصرف المتعددة، مقابل تبنّي أسعار صرف متعددة، وهو ما يصب في مصلحة المصارف التي باتت تشتري الدولارات من المودعين بـ 15000 ليرة وتبيعه للمنصة بسعر 43000 ليرة، وكله يصب الماء في طاحونة تأجيل استحقاق الكشف عن الخسائر المحققة في موازنات المصارف. أمّا الحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي فقد طوته التطورات والمناورات التي اعتمدتها الجمعية بالتواطوء مع أكثرية النواب.

إذن أضاعت السلطة في غضون السنوات المنصرمة فرصة لتأمين استقرار سياسي، والشروع في خطط اصلاحية للاقتصاد والمالية العامة والنقد والوضع المصرفي. وكان واضحاً أن جمعية المصارف تريد إبقاء القديم على قدمه بصرف النظر عن قدرة البلد على احتمال واحتساب ما طرأ من تطورات. بالطبع لم يتحرك المودعون “بكبسة زر” من بعض الجهات كما قال الرئيس نجيب ميقاتي في اجتماع مجلس الأمن المركزي في السراي، وإن كان هناك من يحاولون الضغط من خلالهم، بل جاء تتويجاً لسياسات التسويف والتأجيل التي مارستها الحكومات المتعاقبة وما تزال، والتي لعبت المصارف خلالها دوراً أساسياً في استنزاف المودعين وتصفية حساباتهم وتقطيع الوقت ما فاقم الأزمة وزادها تعقيداً على تعقيد.

ولذلك لم تُجدٍ المناشدات والنداءات الدولية والعربية في الشروع في مقاربات جدية لعلاج الوضع وتلافي تطوره على النحو السلبي. أكثر من ذلك تشير الارقام المتداولة إلى تفاقم  عجز ميزان المدفوعات، الذي يلخّص الفارق بين السيولة الواردة والخارجة من النظام المالي اللبناني، والذي بلغ 3.2 مليار دولار في نهاية العام 2022. وهو الذي سجّل خلال العام الماضي ارتفاعًا بنسبة 62%، مقارنة بالعجز المسجّل في نهاية العام 2021، والذي لم يتجاوز يومها حدود 1.97 مليار دولار. هذه الارقام تعبر عن تواصل نزيف الدولارات ما ينعكس على قيمة العملة المحليّة المتراجعة، والذي لا بد وإن يحد من إنفاق الدولارات على المستوردات نتيجة ارتفاع أسعارها. وهو أمر من شأنه أن يثير أسئلة كبرى حول المكان الذي تتوجه إليه هذه المستوردات المدفوعة الثمن بالعملة الاميركية في ظل تراجع القدرة الشرائية للبنانيين عموماً وكل ذوي الدخول المحدودة بالليرة.

بالطبع في غضون السياسات المعتمدة جرى استنزاف موجودات البلاد من العملات الاجنبية في مقدمها أموال المودعين الذين يبحثون عن أموالهم  دون أن يعثروا لها على أثر. بينما يستمر المصرف المركزي في تمويل عجز الدولة من خلال طبع كميات إضافية من النقد الوطني، وفي تأمين الدولار عبر المنصة للتجار وللمستوردات الاساسية وغيرها، ما قاد إلى خسارة الليرة 95% من قيمتها، وإلى تراجع موجودات المصرف المركزي  من العملات الصعبة خلال العام الحالي بحدود 3.04 مليار دولار، كما انخفضت موجودات المصارف التجارية بحوالي 152.9 مليون دولار.

باختصار يمكن القول إن الليرة باتت تفتقد إلى أي نوع من أنواع الحمايات التي تحفظ استمرارها كمخزن قيمة، فالحماية السياسة غير متوافرة في ظل الفراغ الرئاسي والعجز الحكومي عن الاجتماع، ناهيك بمشاريع حلول من شأنها تحريك الدولاب رغم كل ما عليه من صدأ متراكم، بدليل الجدل المحتدم حول دستورية اجتماعها، وكذلك من مجلس النواب الذي يغرق في تفسير تشريع الضرورة وعدم الضرورة على حد سواء، كما ساهم بدوره من خلال المتاهة التي خاض فيها قانون الكابيتال كونترول ورفع السرية المصرفية ومساعيه لإرضاء مافيات السياسة والمصارف معاً في بلوغ ما بلغناه …

وهكذا ليس أمام اللبنانيين سوى تحمل الخسائر في مداخيلهم يومياً، ومعاناة ارتفاع معدلات الضغط لدى كل صعود في سعر صرف الدولار دون توقع ورود أي شكل من أشكال النجدة داخلياً أو خارجياً و التي يراهن عليها المسؤولون لإعادة تدويرها في حساباتهم وإنفاقها بالطريقة السابقة إياها.

Leave a Comment