امطانس شحادة*
يكثر الحديث في الأسابيع الأخيرة في إسرائيل حول تقدم المشروع النووي الإيراني، واقتراب إيران من تخصيب اليورانيوم إلى درجة تسمح بتصنيع قنبلة نووية، وأن تتحول إلى دولة عتبة نووية (يشتبه بامتلاكها أو تتطلع إلى حيازة أسلحة نووية ولا تندرج ضمن “الدول الحائزة للأسلحة النووية”).
ويختلف الحديث الحالي عن لغة ونبرة إسرائيل في سنوات سابقة، إذ هناك شبه تسليم، على الأقل في الإعلام الإسرائيلي، باقتراب إيران من حافة العتبة النووية، والاعتراف بأن إمكانيات تعامل إسرائيل مع هذا الواقع محدودة. كذلك هناك اعتراف ضمني بأن ضربة عسكرية إسرائيلية لا تستطيع أن تجهز على المشروع النووي، بل ربما تبطئه أو تؤجله لسنوات عدة إضافية، في أفضل الحالات.
تغيرات استراتيجية في إسرائيل
هذه التحولات تأتي في بيئة استراتيجية إسرائيلية متغيرة ومختلفة بعض الشيء عن السابق. فالمناعة الإسرائيلية الداخلية تراجعت في العام الأخير، إذ تبرز انتقادات علنية في الإعلام الإسرائيلي للسياسات الحكومية تجاه الملف النووي وإهماله مقابل اهتمام الحكومة بملف التعديلات القضائية، واهتمام رئيسها بنيامين نتنياهو بالنجاة من ملفاته الجنائية، أكثر من معالجته للملف النووي الايراني.
تقول إسرائيل إن جبهة “حزب الله” وغزة وإيران متداخلة
كما يمكن ملاحظة تغير سلبي في المشهد الاستراتيجي الأمني الإسرائيلي أمام “حزب الله” والفصائل الفلسطينية في غزة، إذ باتت الجبهات أكثر ترابطاً، في وقت تقول إسرائيل إن جبهة “حزب الله” وغزة وإيران متداخلة بشكل بنيوي، ولا يمكن التعامل مع كل واحدة على حدة. هذا ما وضحه التمرين العسكري السنوي الكبير “اللكمة القاضية” الذي أجراه الجيش الإسرائيلي أخيراً (انتهى يوم الأحد الماضي)، والذي يحاكي ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية تؤدي إلى اندلاع حرب في عدة جبهات.
وهناك تحول سلبي آخر من منظار إسرائيل، يتمثل بعدم نجاحها في محاصرة إيران خليجياً. فلم تؤد اتفاقيات “أبراهام” والتطبيع مع بعض دول الخليج، إلى جانب محاولات التقارب من السعودية إلى النتيجة المرجوة.
فقد تفاخر نتنياهو وكل وزرائه، قبل ثلاثة أعوام، بأن اتفاقيات “أبراهام” ستؤدي إلى محاصرة إيران وإلى بناء تحالف بين إسرائيل ودول عربية “معتدلة” لمواجهة إيران، إضافة إلى التصدي لمحاولة سيطرتها على المنطقة.
لكن في المحصلة لم تغير هذه الاتفاقيات من الحالة الاستراتيجية الإسرائيلية بشكل جذري، ولم تؤد إلى بناء تحالف إسرائيلي خليجي ضد إيران، ولم توقف مشروع إيران النووي. وسجل في الأشهر الأخيرة تقارب وتفاهمات بين إيران وعدد من دول الخليج.
الإعلام الإسرائيلي: إيران في وضع أفضل
ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية، يوم السبت الماضي، خبراً حول سعي إيران وعدد من دول الخليج، أبرزها السعودية والإمارات، إلى إقامة تحالف بحري لحماية الملاحة في مياه الخليج. وهو ما يمكن اعتباره انتكاسة لمشاريع إسرائيل، ناهيك عن الاتفاق الإيراني السعودي الذي تم التوصل إليه أخيراً بوساطة صينية.
رون بن يشاي: إيران بحاجة إلى عام أو عامين لتصنيع سلاح نووي
وفي مقال موسع لمحلل الشؤون الأمنية الاستراتيجية في موقع “يديعوت” رون بن يشاي، قال إن إيران باتت دولة عتبة نووية، لكنها بعيدة عن تصنيع قنبلة، وها هي تجني ثمار ذلك. وأضاف أن إيران بحاجة إلى عام أو عامين إضافيين لتصنيع سلاح نووي. إلا أن مجرد التقدم في تخصيب اليورانيوم لهذه المرحلة يخدم مصالحها بشكل جدي، إذ يمكّنها من الضغط على الولايات المتحدة، من التوصل إلى اتفاق مريح وإلى منع هجوم عسكري إسرائيلي وإلى تشكيل ضغط على دول الخليج بغية تحسين العلاقات معها.
من جهته، توصل المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل إلى استنتاج شبيه بأن إيران في وضع أفضل من السابق، ولديها روافع قوة جديدة بعد أن اقتربت من عتبة تخصيب اليورانيوم إلى درجة عسكرية، وباتت دولة عتبة نووية.
كما طوّرت إيران علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا بعد الحرب على أوكرانيا، وعززت علاقاتها مع الصين وحسنت علاقاتها مع دول الخليج. وأضاف أن “الحقيقة هي أن نتنياهو فشل في خطته لوقف المشروع النووي الإيراني، بواسطة إقناع (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب بالانسحاب من الاتفاق” النووي مع إيران في 2018. ولفت هرئيل إلى أنه “الآن، وفي حال توصل الرئيس (الأميركي جو) بايدن إلى اتفاقات مع الإيرانيين، فقد يكون هذا إخفاقاً آخر لسياسة نتنياهو”.
التوتر والقلق الإسرائيلي ازداد في الأسبوع الأخير بعد نشر تقرير وكالة الطاقة الذرية بأن إيران تتقدم في تخصيب اليورانيوم. هذا التقرير وفقاً لبن يشاي يجب ألا يدخل إسرائيل في حالة هلع، والاهتمام الإعلامي المبالغ فيه، كما حصل في الأسبوع الأخير، لا يفيد أحداً.
غالانت: التهديدات أمام إسرائيل تتزايد وتتعاظم
بعد نشر التقرير حذر وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت من أن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة للدفاع عن وحدة أراضيها وعن نفسها. وقال إن “التهديدات القائمة أمام دولة إسرائيل تتزايد وتتعاظم، وقد يتطلب الأمر منّا القيام بواجبنا للدفاع عن مستقبل الشعب اليهودي”.
اخيتار غالانت للكلمات لم يكن صدفة، فقد استعمل الدفاع عن مستقبل الشعب اليهودي ولم يكتف بالدفاع عن دولة إسرائيل. بهذا يعود ليلمّح إلى أن إسرائيل تتعامل مع الملف النووي الإيراني كخطر وجودي على مستقبل الشعب اليهودي وليس فقط دولة إسرائيل، ويذكر بالمحرقة النازية وهواجس إسرائيل من ذلك لغاية الآن.
في ظل هذه المتغيرات تبدي إسرائيل قلقاً من إمكانية التوصل إلى اتفاق مرحلي بين الولايات المتحدة وإيران، تحافظ فيه الأخيرة على إنجازاتها لغاية الآن التي تتضمن الحفاظ على كميات اليورانيوم المخصب بدرجات عالية، وعلى أجهزة الطرد المركزي الحديثة، وإزالة العقوبات الأميركية التي أقرّها ترامب عن إيران، والتي من المفروض أن تنتهي بعد عدة أشهر. ويأتي ذلك مقابل التزام إيراني بتجميد تخصيب اليورانيوم والامتناع عن إضافة أنظمة طرد مركزي جديدة. وتعارض إسرائيل هذا السيناريو مما يضيف إلى التوتر القائم بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية.
استراتيجية التهديد العسكري
على ضوء هذه التغيرات، اختارت إسرائيل استراتيجية التهديد العسكري والتلميح الصريح بتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية. وبرز ذلك في التصريحات التي رافقت تمرين “اللكمة القاضية”، بعد أسابيع من تهديدات القيادات الأمنية والسياسية كافة لإيران و”حزب الله” في مؤتمر هرتسليا الأمني الأخير.
افتتح التمرين بمحاكاة ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية يليها اشتعال عدة جبهات في آن واحد، من الشمال لغاية الجنوب. وتخللها فحص قدرات وتصرف الجيش والقيادة العسكرية والحكومة المصغرة في هذا السيناريو. وانتهى في جلسة خاصة للحكومة المصغرة يوم الأحد الماضي لمحاكاة إدارة المعارك.
التغيرات كافة وفشل إسرائيل في وقف أو تأجيل حقيقي لمشروع إيران النووي، يوضح مرة أخرى حاجة إسرائيل لدعم ومساعدة الولايات المتحدة العسكرية والدبلوماسية، ولو ادعت إسرائيل بعكس ذلك، ولمحت إلى قدرتها على شن هجوم منفرد على إيران. وهو ما صرّح به نتنياهو في جلسة الحكومة المصغرة الخاصة بالتمرين العسكري الضخم.
فمن دون تنسيق عملياتي وتعاون، بل مشاركة الولايات المتحدة الفعلية، لا تستطيع إسرائيل القضاء على مشروع إيران النووي. مع العلم أنها قد لا تنجح بذلك أيضاً بمساعدة الولايات المتحدة، كما يصرح خبراء الأمن في إسرائيل. كل هذا يأتي في وقت تتراجع فيه العلاقات بين حكومة إسرائيل والإدارة الأميركية وتتوتر نتيجة خطة الإصلاح القضائي للحكومة الحالية، مما يقلل أكثر احتمال الخيار العسكري.
التفاوض الأميركي مع إيران
في هذا الواقع، يبقى السيناريو المرجح هو المسار التفاوضي بين الولايات المتحدة وإيران، والتوصل إلى اتفاقيات ولو مرحلية، لتفادي عمل عسكري غير مضمون النتائج. هذا السيناريو، ولو أبعد شبح الحرب بين إسرائيل وإيران، لا يلغي إمكانية اشتعال جبهات محلية، مثل جبهة الشمال مع “حزب الله”، كحرب إسرائيلية استباقية لتقليم قدرات إيران، وتقليص روافع قوتها في المنطقة. بالإضافة إلى ترويض قدرات “حزب الله” المستقبلية، في حال اضطرت إسرائيل إلى قبول اتفاق لا يشبع شروطها بشكل كاف. إذ من الصعوبة تخيّل قبول إسرائيل تعاظم قوة “حزب الله” تحت مظلة نووية إيرانية، ولو كانت دولة عتبة نووية.
*نشرت في العربي الجديد في 06 حزيران / يونيو 2023
Leave a Comment