اقتصاد

بذر الاوهام بالخروج من معضلة الانهيار لا يطعم خبزاً: مراهنة النهوض تكذبه وقائع التأزم السياسي – الأمني

زهير هواري

بيروت 19 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية

دوماً يراهن معظم المسؤولين اللبنانيين على عامل خارجي ينقذ البلاد من هوة الاوضاع المالية – النقدية الاجتماعية التي تغرق بها البلاد. الآن يتركز هذا الوهم على عودة المغتربين اللبنانيين إلى ديارهم، وإنفاقهم على ذويهم أكثر مما سبق وأنفقوه العام الماضي من عملات صعبة. ويقدر البعض المبلغ الذي سيدخل إلى البلاد هذا الصيف بحوالي 8 مليارات دولار، بعد أن بلغ العام الماضي 6 مليارات.

راهن البعض في أن تؤمن عودة السائح العربي عموماً والخليجي خصوصاً، موسماً سياحياَ زاهراً ينتشل اليبلاد من انكماشها بعد الاتفاق السعودي – الايراني، لكن هذا الأمل تلاشى تقريباً بعد حادثي خطف المواطن السعودي رغم النجاح في اطلاقه سريعاً. ومن  ثم إعادة الاعلامية الكويتية من حيث أتت بعد تمضيتها يوماً ونصف اليوم جالسة على الكرسي في مطار بيروت، وفشل تدخل السفارة في أقناع أجهزة الأمن العام اللبنانية بتسليمها لها على أن تغادر على أول طائرة إلى الكويت، ما اعتبرته الدولة الكويتية بمثابة إهانة لها.

كلا الحادثين ودلالالتهما رفعا من بارومتر التشاؤم ليقتصر التوقع على عودة المغتربين اللبنانيين العاملين في دول الخليج لتمضية عطلهم الصيفية مع الأهل، وتحريك القطاع السياحي والفندقي بما يشمله من فنادق ومطاعم ومرابع سهر وما شابه. ويأمل المتفائلون أن يكون المبلغ المذكور أعلاه كفيلاً بعودة الحياة إلى القطاع الفندقي والسياحي الذي يحرك قطاعات أخرى كالتجارة والزراعة والنقل، ناهيك  عن تشغيل إضافي للأيدي العاملة وتوفير حوالي 25 ألف وظيفة يعمل بها طلاب جامعيون وعاطلون عن العمل. مما يساعد ذويهم على توفير الاقساط التعليمية لهم، وتحقيق دخول إضافية للعائلات اللبنانية قبل الشتاء. لذا لا يملك أرباب هذا القطاع الا مطالبة المسؤولين السياسيين بالابتعاد عن كل ما يمكن أن يكدر صفو هذا الأمل من تصعيد سياسي له انعكاساته الأمنية كما شهدت البلاد مؤخراً.

قبل هذه النسخة الأخيرة، كنا شهدنا العديد من موجات المراهنة. أبرزها دون منازع حول أموال صندوق النقد الدولي، التي قيل أنها ستتلاحق على لبنان خلال خمس سنوات بواقع 4 مليارات دولار، ستمكن من تحريك عجلة الدولة والاقتصاد التي علاها الصدأ. ولكن بعد أكثر من عامين من مجيء وعودة الوفود التي ارسلها الصندوق، تبيّن أن الطريق ليست آمنة أو سالكة للحصول على هذه المبالغ دون تجرع كأس الاصلاحات، التي عمدت كل من جمعية المصارف ومصرف لبنان والسلطات التشريعية والتنفيذية بالتكافل والتضامن إلى افراغها من مضمونها.

التعديلات التي أدخلت على قانون السرية المصرفية لم تكن كافية. ومشروع قانون الكابيتول كونترول لم يقّر. وإعادة هيكلة القطاع المصرفي  تراوح مكانها. في موازاة عدم الوصول إلى تحديد نسبة خسائر الدولة والقطاع المصرفي الرسمي والخاص، وبالتالي تعذر توزيع الخسائر عليها. كذلك لم يجر توحيد سعر الصرف لليرة إزاء الدولار الاميركي. وعليه تمت الاطاحة بإمكانية الوصول إلى نتائج ايجابية من عملية التفاوض مع صندوق النقد، للوصول إلى إمداد البلاد بالكمية الموعودة من الدولارات وعلى مدى سنوات ضمن الشروط المعروفة.

باختصار لم تُقر بعد أي خطة عملية للتعافي الاقتصادي، واستمر تقاذف  كرة  المسؤولية بين اطراف السلطتين السياسية والمالية، نظراً لكلفتها العالية التي تفوق قدرتهما على احتمالها، باعتبارها ستقود إلى زعزعة هيمنتهما ونفوذهما على المستويين السياسي والمالي. ولذلك فإن أقصى ما يجودان به هو متابعة النهج الذي قاد إلى الكارثة مع عمليات “ماكياج” وتمويه متقنة من نوع الدعوة إلى تأسيس صندوق سيادي يضع في حسابه الاملاك العمومية للدولة اللبنانية كالعقارات والشواطيء البحرية والنهرية، والمؤسسات التي تدر ربحاً مثل كازينو لبنان وقطاع الاتصالات وطيران الميدل الايست وما شابه.

ويندرج ضمن هذا الاطار المشاريع التي تتناول الصندوق السيادي النفطي حيث يتم فيه وضع عوائد قطاع النفط والغاز لدى دخول البلاد حيز الاستثمار الفعلي.  علمأ أن الأخير مستأخر إلى ما بين 5 -8 سنوات في أفضل الأحوال. وقد تصل المدة الفعلية إلى 10 سنوات، اذا ما أظهرت أعمال الحفر التجريبي التي ستبدأ مطلع أيلول المقبل ثروة فعلية يمكن أن تدخل سوق التصدير الدولي، بعد أن تحصل شركات الحفر والتنقيب أولاً على الاكلاف التي دفعتها في عمليات الاستكشاف. وبعدها يمكن الشروع بالتصدير الذي يدرعلى البلد عوائد مالية، يصبح معها لبنان دولة نفطية. هذا مع افتراض أن البلوكات البحرية في كل من الجنوب والشمال ستدخل في عروض التنفيب المقبلة، باعتبارها تتطلب اتفاقات غير متوافرة مع سوريا وقبرص، ناهيك بالالغام التي اعتورت الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل.

المقصود من هذا العرض الانتقال إلى النقطة الأهم، وهي التي تتمثل بالسياسات الرسمية تنفيذياً والنيابية تشريعياً، التي لا تضع في حساباتها البدء بمعالجة الأعطاب البنيوية في الاقتصاد اللبناني  التي قادته إلى كوارث، دفع ثمنها المواطنون العاديون،  من مودعين لمدخراتهم في المصارف، وموظفين وأجراء وذوي دخول محدودة ومتقاعدين وعاطلين عن العمل. فيما المجلس النيابي شبه مشلول تشريعياً باعتباره هيئة ناخبة للرئيس العتيد.

صحيح القول إن هناك حالة ثبات مقبولة في سعر صرف الليرة تجاه الدولار راهناً. وأن هامش التلاعب بات محدوداً. لكن الصحيح أيضاً عدم وجود أي ضمانات لاستمرار الوضع على ما هو عليه. والدليل الابرز يتمثل في الانسداد السياسي الذي حال على امتداد 12 جلسة نيابية دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبقاء الموقع شاغراً مع مترتباته على انتظام سير الدولة ومؤسساتها.  لكن الأخطر هو الانقسام الطائفي العمودي  الذي تجلى على نحو سافر في المبارزة التي جرت مؤخراً والتي لا يعلم أحد مآلاتها النهائية. ومعه بالطبع استمرار حكومة تصريف الاعمال بالتهرب من اتخاذ قرارات واعتماد سياسات تمس  مصالح القطاع المصرفي وهيمنة منظومة السلطة على قطاعات الدولة ومؤسساتها. وهي التي تحدث تغييراً ولو طفيفاً في بنية وهياكل النظام الاقتصادي الحر، كما تتم ممارسته والتي جعلته بشهادة أممية اقتصاد  احتيالي “بونزي” مافياوي يتشكل في قرابة 50% منه من اقتصاد موازٍ للاقتصاد الشرعي. أكثر من ذلك بات التبادل النقدي هو المهيمن بعد أن فقد القطاع المصرفي الثقة الداخلية والخارجية به، ما يتيح جعل لبنان أحد المراكز الاساسية لاقتصاد تبييض الاموال وتجارة المخدرات والتهريب وما شابه مما يدخل في باب التجارة غير المشروعة. وهو أمر قاد إلى قطع العديد من الدول العربية سلاسل توريد السلع والمنتجات اللبنانية إلى أسواقها، الامر الذي دفعت ثمنه القطاعات الصناعية والزراعية المنتجة.

وفي موازاة ارتطام الواقع الوهمي  بالواقع السياسي بمراتبه المختلفة، وتعطيل القوانين والأنظمة من أن تكون المقياس، يستمر المأزق والتدهور.  ومن دون سيطرة الدولة على مواردها  التي تتعرض لمحاصصات معلومة يتشاركها “كبار السحرة” مع  قادة السلطة السياسية، يظل الحديث عن توازن مالي مجرد سراب.  يعزز ذلك عدم ضبط الدولة لحدودها البرية والبحرية والجوية، وامتناعها عن اعتماد سياسة فعالة لمكافحة التهرب الضريبي، وإعادة النظر بالنظام الضرائبي باتجاه جعله أكثر عدالة.

ولأن الوضع على هذا النحو يبقى أمام السلطة التنفيذية باب واحد، هو فرض ضرائب تطال الفئات الدنيا من المجتمع، إلى جانب رفع سعر الدولار الجمركي، وأسعار الخدمات التي تقدمها من مياه وكهرباء وهاتف وانترنت وما شابه. وهذا ما يلمسه المواطنون في يومياتهم. بعد أن تجاوزت الدولة بأشواط ما كان يعرف بأموال الدعم للطحين والمحروقات والأدوية. وجملة الإجراءات المعتمدة من جانب السلطة التنفيذية التي لا يتحمل مسؤوليتها رئيس حكومة تصريف الاعمال منفرداً، بل مجمل “الاوليغارشية” – الأقلية الحاكمة – المنتدبة من رؤوس السلطة الفعلية  التي تتولى مهام الوزارات المعنية.

إن  جميع الصيغ الترقيعية المعتمدة من حكومة تصريف الاعمال لم تقد الا إلى تسعير الأزمة المالية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، على نحو تصاعدي. ما ادى تباعاً إلى تهاوي مختلف مواقع ومؤسسات القطاع العام. إذ بات متعذراً على  المواطنين معرفة متى يبدأ الاضراب عن العمل في هذا المرفق أوذاك، ومتى يتوقف أو يتجدد ثانية. باعتبار ما تقرره الحكومة من زيادات اضطرارية لم تحقق التهدئة المفترضة، لأنها تأخذ أكثر منها باليد الاخرى مباشرة. هكذا جرى مع الزيادات التي تقرر صرفها على سعر منصة صيرفة، الذي يبلغ 86 ليرة للدولار بعد أن كانت 60 ألفاً، ما قاد إلى تآكلها قبل الحصول عليها. بينما البنوك لا تزال تحاسب المودعين على سعر صرف 15 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد.

وهنا لا بد من القول إن ثبات سعر صرف الليرة لم ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين سواء أكانوا يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية أو الدولار الاميركي. والسبب غياب أي شكل من أشكال الرقابة على الاسعار، حيث يمارس التجار ما يشهده المواطنون من عشوائية تصاعدية في تحديد اسعار السلع والحاجيات، ما يعني أن الليرة اللبنانية تتابع عملياً انخفاضها، رغم أنها في سوق الصرف ثابتة أو شبه ثابتة مع فارق ضئيل، يُفترض أن يكون هامشياً ولا يذكر في أسعار السلع.

اختصاراً يمكن القول إن السلطة التنفيذية والتشريعية تعالجان واقع الحال بالتفاؤل الساذج والمزيد من الاوهام والسياسات التي يدفع ثمنها المواطن دون سواه. وهما ترفضان حتى اللحظة، القيام بأي إجراء ولو متواضع، يستهدف تحميل الفئات التي استثمرت بالانهيار وراكمت ملايين الدولارات، عبء ما وصلت إليه أوضاع البلاد من واقع مظلم. أما  سلسلة الترسيمات، التي لا تعدو سوى مسكنات، فإنها أعجز ما تكون عن علاج المعضلات المستحكمة.

Leave a Comment