رندة حيدر*
من يتابع التحليلات الإسرائيلية بشان قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، أخيراً، يلاحظ أنّ النقاش لم يعد يدور بشأن ماهية الرد الإسرائيلي على المقترح اللبناني الذي نقله الوسيط الأميركي، عاموس هوكشتاين، إلى الإسرائيليين، والذي يطالب فيه لبنان بالسيادة الكاملة على حقل قانا مقابل احتفاظ إسرائيل بحقل كاريش، بل يتركّز بصورة أساسية على تهدديات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وتحليل لنياته والحديث المتزايد عن الاستعدادات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي لمواجهة نشوب مواجهة عسكرية جديدة مع حزب الله، مع تشديد المسؤولين الإسرائيليين على الدوام على أنّهم لا يرغبون في هذه الحرب، وأنّ نصر الله هو الذي يسعى إليها.
في المقلب الثاني، من يتابع خطابات الأمين العام لحزب الله وما تنشره وسائل إعلام الحزب يلاحظ أيضاً ارتفاع وتيرة شحذ الهمم وإعداد الأجواء لإمكانية نشوب حرب، مع الكلام عن الجهوزية الكاملة لدى مقاتلي الحزب لخوض حرب شاملة، وليس “أيام قتال” كما ألمح إلى ذلك وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس أخيراً.
أسلوب التهديدات الإسرائيلية والتصعيد الكلامي من الأمين العام لحزب الله ضد إسرائيل أمر شائع ومعروف منذ حرب تموز (يوليو) 2006. وعموماً يستخدمه كل من إسرائيل وحزب الله أداة ضغط للمحافظة على معادلة “توازن الرعب” التي أرساها الحزب في السنوات الأخيرة، وتقضي برد حزب الله مباشرة على أي اعتداء إسرائيلي على لبنان. لكن موضوع التهديدات الإسرائيلية هذه المرّة ليس أمنياً، ولا يتعلق بصواريخ حزب الله الدقيقة ولا بمسيّراته، بل بنزاع على ترسيم الحدود البحرية جرت بِشأنه مفاوضات ووساطات، وهو الآن يكاد يبلغ مرحلة النضج والتوصل إلى تسوية ليست واضحة بعد. لكن هناك مؤشّرات إيجابية من أكثر من طرف تشير إلى احتمال التوصل إلى حل يرضي الطرفين. لماذا والحال هذه ترفع إسرائيل وتيرة التوتر بالحديث عن الجهوزية للحرب؟
من الواضح وجود توجّه إسرائيلي نحو تعظيم تهديدات نصر الله أخيرا، وتصويرها مؤشّرا على تغير في نظرته وموقفه المعروفين، ونيّته الجدّية هذه المرّة في خوض مواجهة عسكرية وتبنّيه “استراتيجية السير حتى النهاية”. ولقد تكرّرت هذه العبارة على لسان أكثر من محلل إسرائيلي هذه الأيام، ومؤدّاها أن الأمين العام لحزب الله ينوي الذهاب حتى النهاية، ولا يتورّع أبداَ عن خوض مواجهة عسكرية واسعة النطاق، يمكن أن تتدهور إلى حربٍ شاملة، اذا لم تتحقق المطالب اللبنانية، وبدأت إسرائيل باستخراج الغاز من حقل كاريش قبل توقيع اتفاق مع لبنان على ترسيم الحدود البحرية. ويشبّه بعض الإسرائيليين الوضع إزاء حزب الله اليوم بالوضع الذي سبق حرب 2006. ويستغل الإسرائيليون تهديدات نصر الله لتأليب الرأي العام الدولي ضد الحزب وإظهار أنفسهم في موقع الدفاع عن النفس في وجه الخطر الذي يتهدّد حقول الغاز التي هي من أهم أرصدتهم الوطنية.
في المقابل، يتصرّف حزب الله انطلاقاً من اعتبار نفسه “حامياً” لحقوق لبنان البحرية، ويحاول إقناع الرأي العام اللبناني بأن سلاحه وحده قادرٌ على استرجاع حقوق لبنان وثروته البحرية، وأن إسرائيل لا تفهم سوى بلغة القوة. لكن ليس خافياً على أحد أنّ رفع سقف التهديدات من حزب الله وضعه أمام مأزق مزدوج، فهو لا يمكنه التراجع عنها إذا بدأت إسرائيل في استخراج الغاز في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول) من دون توقيع اتفاق مع لبنان. وهو، من ناحية أخرى، يعرف حجم المخاطرة، لو أقدم على تنفيذ تهديداته، على حزبه، وعلى لبنان كله دولة وشعباً.
من ناحية أخرى، تبدو المماطلة الإسرائيلية في الرد على المقترح اللبناني والغموض السائد منذ زيارة الوسيط الأميركي إلى إسرائيل، محاولة إسرائيلية من أجل عدم منح حزب الله صورة “نصر” إذا جرى التوصل إلى اتفاق انطوى على تنازلاتٍ إسرائيلية للبنان، يمكن أن يفسّرها الحزب انتصاراً له، ذلك كله يُنتج وضعاً حساساً ودقيقاً مرشّحاً للانفجار في أيّ لحظة.
يجري هذا كله في ظروف داخلية لبنانية دراماتيكية مع أزمات سياسية واقتصادية ومعيشية واجتماعية خانقة؛ وظروف عدم استقرار سياسي في داخل إسرائيل نفسها مع حكومة تصريف أعمال وبدء معركة جديدة لانتخابات الكنيست، ومزايدات سياسية من معسكر المعارضة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، الذي دخل أخيراً إلى معترك النقاش على ترسيم الحدود، واعتبر أنّ حكومة تصريف الأعمال في إسرائيل، برئاسة يئير لبيد، غير مخوّلة التوقيع على اتفاقات ترسيم للحدود تنطوي على تنازلات إقليمية، وأنّ هذا الأمر بحاجةٍ إلى الحصول على أغلبية مطلقة في الكنيست، وذلك كلّه لوضع العصيّ في دواليب أيّ تسويةٍ محتملة.
تُدخل إيرادات حقول الغاز في إسرائيل إلى الخزينة مليارات الدولارات سنوياً، والاستقرار الأمني ضروري وحيوي لاستمرار عمل الشركات الأجنبية في التنقيب واستخراج الغاز. وثمّة مصلحة دولية في السعي إلى تأمين حلّ دبلوماسي للنزاع بين إسرائيل ولبنان على ترسيم الحدود وتقاسم الغاز. وهنا يبرز دور الولايات المتحدة من خلال وسيطها، الذي يبدو أنّه سيحمل في مطلع الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول) حلاً يساعد حزب الله على النزول عن الشجرة العالية التي صعد إليها، ويقنع الإسرائيليين بأهمية توقيع اتفاق مع لبنان، وإن بعد الانتخابات الرئاسية في لبنان أو انتخابات الكنيست. وفي هذه الأثناء، من الضروري المحافظة على الاستقرار في حوض البحر المتوسط في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها المنطقة مع قرب توقيع الاتفاق النووي الجديد بين إيران والدول الكبرى.
*نشرت في العربي الجديد في 28 آب/ اغسطس 2022
Leave a Comment