الدكتور بول طبر
دراسة أحوال اليسار من خلال تتبع سير ومواقف اليساريين بالعلاقة مع السياقات والأحداث السياسية التي كانوا يتفاعلون معها، هي دراسة مفيدة وكاشفة لحقائق وديناميات لا بد من كشفها لفهم وإدراك نشوء الأحزاب اليسارية (أساساً الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي) والمسارات التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه. ومن يريد/ تريد التأكد من هذا الإستنتاج، ما عليه/عليها سوى قراءة كتاب “يساريون لبنانيون في زمنهم” لكاتبته دلال البزري. وبهذا المعنى فهو كتاب مفيد وغني في المعلومات والتحاليل التي لا يمكن التغاضي عنها لمن يرغب يوماً ما في كتابة تاريخ اليسار اللبناني وفهم المآلات التي توصل إليها.
إلا أن ما أود الإشارة أليه في هذا المجال، هو ببساطة ما أعتقد أنه مغيَّب في سردية الكتاب حول اليسار في لبنان، خصوصاً إذا أردنا كشف العلاقة بين المواقف والسير الذاتية والمجتمع الذي ينتمي إليه أصحاب هذه السير: لم يتطرق الكتاب إلى علاقة اليسار واليساريين، نشأة ومسارات ومآلات، بلبنان ككيان سياسي واجتماعي وثقافي تبلورت معالمه الأساسية عام 1920 مع إعلان نشوء لبنان الكبير، ومن ثم مع حصوله على الإستقلال السياسي عام 1943.
تأسس لبنان ككيان سياسي بطريقة جعلتْ المشهد السياسي فيه محكوماً بتناقضين أساسيين: ألأول طائفي-سياسي، والثاني يتعلق بهوية الكيان وشرعيته. بالطبع هذا لا يعني أبداً انتفاء تناقضات ونزاعات من نوع آخر، كالتناقض المولِّد للنزاعات المطلبية على مختلف أنواعها، عمالية، فلاحية، مهنية، طلابية إلخ.، أو النزاعات العائلية والعشائرية والمناطقية. وشهد لبنان أيضاً في بعض الأحيان، نزاعات ذات طابع إيديولوجي ديني عابر للحدود الوطنية. إلا أنه غالباً ما كانت هذه التناقضات والنزاعات تعود لتتأطر ضمن التناقضين الرئيسيين المشار إليهما أعلاه:التناقض الطائفي-السياسي، وما أسميه اختصاراً بالتناقض الكياني. وإن التواتر في نهوض اليسار في لبنان وفي انكفائه لا يمكن فهمه بمعزل عن هذين التناقضين وتقاطعهما في أغلب الأحيان.
لقد تأسس الكيان اللبناني على قواعد طائفية، وعليه شكلتْ الهوية الطائفية ليس فقط الإطار الأوسع لتجميع وتعيين الهوية الجماعتية للفاعلين السياسيين، وإنما أيضاً الهوية الأكثر رسوخاً وحضوراً في المشهد السياسي العام في لبنان. وثانياً، نشأ الكيان اللبناني ولم تتوفر لدى المجموعات التي شملها هذا الكيان القناعة المشتركة في شرعية هذا الكيان. فمنهم من اعتبر أن الكيان المستجد تعبير شرعي عن تطلعات “شعب لبناني” لم ينقطع يوماً عن المطالبة بالإستقلال، ومنهم من اعتبر أن “لبنان الكبير” هو كيان اصطناعي فرضته القوى الفرنسية والبريطانية، وهو في حقيقته فعل تجزئة للأمة العربية أو للأمة السورية. أعود وأقول أن هذين التناقضين تحكما دائماً بالمشهد السياسي العام في لبنان، وكان نهوض اليسار واتساع نفوذه الشعبي والسياسي مرهونين باحتدام وتأزم هذين التناقضين. وكان هذا النهوض واتساع دائرة النفوذ نتيجة لتحالف هذا اليسار مع الطوائف المحرومة وتبني مطالبها أو مع الطوائف التي تحتل مواقع أدنى في النظام الطائفي التراتبي من جهة، ووقوفه إلى جانب المعسكر القومي العربي والمشكك بشرعية الكيان اللبناني وتحالفاته الجيو-سياسية، من جهة ثانية. وغالباً، ما كانت الحاجة تستدعي الإلتزام بهذين المعسكرين في الوقت نفسه، مما كان يقوي من اندفاعة اليسار ويعزز شعبيته.
إذن لا النضال الإجتماعي أو رفع المطالب الإجتماعية الساعية لتحسين أجور العمال والمزارعين وصغار الموظفين، ولا السعي للتقليل من التفاوت الاجتماعي عن طريق تأمين الخدمات الأساسية لعامة الشعب، كانت كافية في حالة لبنان لنهوض اليسار لو لم تتلازم هذه المطالب وتلك المساعي مع رفع “حقوق” الطوائف المحرومة والأقل حظوة في تركيبة النظام الطائفي التراتبي، وتبني الأهداف التي أطلقتها القومية العربية ومستلزماتها السياسية في وجه دعاة “القومية اللبنانية”. تجلى ذلك بوضوح في حالة الخطاب اليساري الذي تبنته منظمة العمل الشيوعي منذ نشأتها (1971) ولغاية انكفائها عن النشاط السياسي في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي. أما بالنسبة إلى الحزب الشيوعي، فكان لانعقاد مؤتمره الثاني عام 1968 وما نتج عنه من قرارت لجهة تبني البُعد العربي القومي وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية تحرير فلسطين، الدور الحاسم في إطلاق عملية توسيع شعبية ونفوذ هذا الحزب.
أما الأمر الذي أدى إلى ضمور شعبية ونفوذ اليسار اللبناني فكان أولاً تبلور الذراع السياسي والتنظيمي للطوائف التي كان يتحالف معها (في حال السنة، الحريرية وتيار المستقبل، وفي حالة الشيعة، حركة أمل وحزب الله)، وظهور ما أسميه ب “المتحوِّر الإسلامي الأصولي للقومية العربية” بعدما تجسدت أولاً في الناصرية والبعثية ولاحقاً في الكفاح المسلح الذي رفعت لواءه منظمة التحرير الفلسطينية لغاية بداية الثمانينات في القرن الماضي.
في ضوء هذا التحليل، يجوز طرح السؤال حول ما الذي كان في استطاعة اليسار اللبناني أن يفعله لكي يمنع أو يقلل من حدة ووقع الأزمة التي يجد نفسه في وسطها، والسؤال بالطبع يتناول البُعد الداخلي اللبناني لتلك الأزمة ودوره في توليدها. جواباً على هذا التساؤل، أجد أن الأزمة والتشرذم التي يعاني منها اليسار اللبناني كان من الممكن أن يتفاداهما إلى حد ما لو أنه أولى قضية بناء دولة مواطنين المكانة المركزية التي تستحق في السياق اللبناني، ولم يتقيّد كما فعل بالمدخل الطائفي في طرحه لهذه القضية، وثانياً، واجه أصحاب الطرح اللبناني الملتبس طائفياً ليس من منطلق العروبة الرسمية الوافدة بشكليها السياسي الرسمي (الناصرية والبعثية) والسياسي العسكري (مثال منظمة التحرير والكفاح المسلح على الساحة اللبنانية)، وبشكلها الراهن المتحور طائفياً ودينياً (مثال حزب الله ومحور الممانعة)، وإنما من منطلق مفهوم شامل (غير طائفي) للوطنية اللبنانية، منفتح ومتفاعل مع محيطه العربي مع الإصرار على إعطاء الأولية للمصلحة الوطنية اللبنانية المستقلة.
بكل تأكيد كان ذلك غائباً في خطاب وممارسة اليسار منذ نشأته، الأمر الذي عجَّل في دخوله الأزمة التي يعيشها بأشكال متعددة، وكان كتاب دلال البزري قد نجح في الإشارة إلى معظمها.
كلمة أخيرة، وفي ضوء الفرضية المطروحة أعلاه لوضع أزمة اليسار اللبناني في إطارها اللبناني الداخلي، لم يعدْ مستغرباً أن تستنتج الكاتبة في الفقرة الأخيرة من كتابها: ” بين الإنفصال السوري – المصري عام 1961 وانعقاد المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني عام 1992 ،وسوف تجد أنه خلال ثلاثة عقود من الزمن، سبح اليسار في بحور القومية والناصرية والشيوعية والفلسطينية والإسلامية، من دون أن يغرق تماماً.” (ص. 327) في الحقيقة، أن اليسار يسبح الآن في بحر الطوائف المتناحرة ولو تحت عناوين إسلامية وممانعة من جهة، مقابل عنوان سيادي ذي جذر طائفي وامتدادات غربية وعربية حليفة.
Leave a Comment