عمار ديوب
إذا كانت تشيلي أول دولة تُطبِق السياسات الليبرالية الجديدة، فهي ستكون أول مقبرة لها أيضاً؛ هكذا خُطّت لافتة تصدرت مشهد الانتفاضة في 2019. ليس فقط ذلك، بل تتجه الأوضاع بعد احتجاجات 2019 إلى تصفية إرث الجنرال بينوشيه بشكل كامل، وهذا ما بُدئ به مع انتخاب برلمان جديد في 2020، نصفه من النساء، وللسكان الأصليين 17 نائباً، وتترأسه سيدة منهم. السيدة هذه اعتُقلت في العقود السابقة؛ وهي لا تصدّق أن بلادها تتجه نحو ذلك، وهذا بسبب أن مناطق السكان الأصليين ما تزال محكومة بالجيش والشرطة وقانون الطوارئ بشكل مستمر، ومنذ انقلاب بينوشيه العسكري 1973. وذلك من أجل نهب الشركات الخاصة والخارجية ثرواتها. مع انتخاب الرئيس اليساري، غابرييل بوريك، تبدأ مرحلة التصالح المجتمعي العميقة، والتخلص من دستور بينوشيه الذي أُقرَّ في العام 1980، وإعادة الحقوق للشعب التشيلي، وهي مسألة في غاية الصعوبة؛ فهل سيتمكّن غابرييل من تحقيق وعوده؟
في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية 2021، فاز مرشّح اليمين، وواضع إرث بينوشيه على رأسه، خوسيه كاست، بينما جاءت الدورة الثانية بالشاب غابرييل بوريك؛ وفُسِر الأمر بأن الأوّل استَفز أغلبية الشعب التشيلي، والثاني وسّع من دائرة تحالفاته، فلم يكتف بأن يكون زعيماً لائتلاف اليسار المدعوم من الحزب الشيوعي التشيلي، فضمّ إليه قوى اشتراكية ومسيحية ديمقراطية ومن الطبقات المتوسطة. هذا يعني أن أوّل إشكالية ستواجه الرئيس لاحقاً كيفية التوفيق بين مصالح الطبقات المتناقضة. وتؤكد تقارير صحفية كثيرة أنَّ الإدارة الأميركية لن تترك تشيلي وحالها، كما كل التجارب اليسارية المستجدّة في القارة اللاتينية، والتي تعدّها تلك الإدارة حديقتها الخلفية.
أميركا والانقلاب العسكري
هل وصول غابرييل انتصار لليسار، أم للشعب التشيلي وضد حكم الأقلية؟ هنا القضية الأصلية. من الأفكار التي طُرحت في أثناء انتفاضة 2019، أنّها ليست ردّاً على رفع سعر تذكرة المواصلات في القطارات، بل هي من أجل الحقوق المغتصبة منذ وصول الجنرال بينوشيه والمجلس العسكري إلى السلطة؛ والذي أدّى إلى التضحية بحقوق ملايين التشيليين، وخصخصة التعليم والصحة ومؤسّسة المتقاعدين، وإلغاء عقود العمل الدائمة. ووضِعت ثروات التشيلي، باستثناء النحاس، لصالح الأغنياء والشركات متعددة الجنسيات الدولية. وتمّ الإشراف الأميركي عبر خبراء درسوا في أميركا (أولاد شيكاغو) وطُبِقت السياسات النيوليبرالية، وهناك الدعم العسكري. وتمّ ذلك كله، لإنهاء (وتفكيك) النظام اليساري بقيادة سلفادور الليندي، ولتصفية الحركة المجتمعية، العمالية والفلاحية، التي كانت سباقة، ومنذ أواسط الستينيات، وأدّت إلى وصول الليندي إلى الحكم في الانتخابات حينها.
قضية دعم أميركا بينوشيه تتجاوز الليندي، حيث يشكّل انتصار الحركة المجتمعية اليسارية مشكلة كبرى، سيكون أثرها على كل القارّة اللاتينية، سيما أن تلك الحركة كانت تتبنّى الخيار الديمقراطي، وليس الطريق الكوبي عبر الصراع العسكري. الطريق الديمقراطي لليسار وإمكانية وصوله للحكم كان يجب إغلاقه إلى الأبد، وتجريب السياسات الليبرالية حينها، فكان الانقلاب المدعوم أميركياً.
ليست انتفاضة 2019 في تشيلي ضد الجنرال ودستوره فقط، بل تشمل أيضا ورثته من محافظين واشتراكيين، حيث لم تتغير أحوال تشيلي ما بعد حقبة الجنرال 1990. والأرقام عن نموٍ اقتصادي مخادعة وكاذبة، فقد استفادت من هذا النمو فئات محدّدة، ومناطق محدّدة، بينما كانت أغلبية أهل البلاد غارقة في الفقر ونقص الخدمات وتهميش السكان الأصليين، وتمّت خصخصة أغلبية موارد البلاد وشركاتها دستورياً. وبالتالي، انعدمت الحقوق الاجتماعية للأكثرية؛ لنتأمل شعاراً آخرَ للانتفاضة “ليست لسبب 30 بيزو، إنها 30 سنة”، والقصد هنا إن الانتفاضة كانت ضد أنظمة الحكم ومنذ 1990.
اللافت أن الرئيس الحالي كان زعيماً للانتفاضة الطلابية في 2011، التي طالبت بالتعليم المجاني، أي حينما حدثت الثورات العربية، وكذلك كان أحد المفاوضين للنظام القديم إثر انتفاضة 2019، وتركّزت مطالبها حول: تشكيل مجلس تأسيسي بمشاركة حقيقية لصياغة دستور جديد، وإعادة توزيع الثروة، ونظام تقاعدي مُنصف، وتأمين خدمات صحية واستشفاء مجاني وللجميع، وتعليم مجّاني، ومحاسبة الفاسدين من قيادات الجيش والشرطة، وتغيير النهج الاقتصادي القائم.
والآن أصبح غابرييل الشاب رئيساً للبلاد، وسيتم تنصيبه في مارس/ آذار المقبل. لم تستطع الثورات العربية إيصال زعمائها من الشباب إلى السلطة، ويراقب العالم ما يعانيه السودان من حكم الجنرالات، ولن نُسهب بالحديث عن سورية واليمن وليبيا والأزمة العميقة في تونس. لم يكن الأمر سهلاً في تشيلي، وسقط في انتفاضة 2019 أكثر من 20 وآلاف الجرحى، مع حالات اختفاء قسري واغتصاب عديدة. وقد وُوجِهت الثورة بفرض نظام الطوارئ ونزول الجيش والدبابات للشوارع. ويعدّ إصرار التشيليين على الاحتجاجات المتجدّدة استكمالا لحركات مطلبية واسعة، تعود بشكل رئيس إلى 2006، ولاحقاً. وكذلك تعود إلى ضغوط واسعة مورست ضد نظام بينوشيه ومنذ أواسط الثمانينيات، ونتيجة ملفّه الإجرامي، في تصفية أكثر من ثلاثة آلاف معارض، ونُفِي أكثر من نصف مليون شخص إلى الخارج، ودخلت البلاد في أزمة اقتصادية عنيفة حينها. الضغوط التي مورست خارجياً، من الإدارة الأميركية والكنيسة الكاثوليكية وتقارير المنظمات الحقوقية العالمية، ساهمت في إحداث تغييرات كبرى، وأهمها، وهذا ما حدث في 1983: السماح بعودة السياسيين المعارضين، والإعلان عن إجراء تحقيقات في حالات اختفاء قسري، والسماح لأحزاب المعارضة بممارسة نشاطها السياسي، وإصدار الصحف والمجلات المعارضة، وإقامة محطات تلفزيونية وإذاعية، والموافقة على استفتاء شعبي حول تجديد فترة حكم بينوشيه. تحققت الفكرة الأخيرة في نهاية الثمانينيات، وكانت الحصيلة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وإبعاده عن الرئاسة، ولكنه ظلّ قائداً للجيش إلى 1998.
ليس طريق الرئيس اليساري مفروشاً بالورود، ولكن أيضاً تصطف خلفه أغلبية كبيرة من الشعب التشيلي، والسكان الأصليين
الديمقراطية والاحتجاجات
لم تكن انتفاضة 2019 من العدم، كما لم تأتِ الديمقراطية في تشيلي بطيب خاطرٍ من الجنرالات أو الطبقة البرجوازية الحاكمة، بل تحقّقت بسبب الاحتجاجات والمظاهرات المستمرة. سبقت الانتفاضة الأخيرة انتفاضات سابقة، كانت قد حققت إنجازاتٍ عديدة، وبدأت بتكنيس إرث بينوشيه. ويمكن إجمالها بـ: أولاً، احتجاجات طلابية قوية في 2011، وقبل ذلك في 2006. وثانياً، ظهرت حركات مناهضة للشركات الخاصة بإدارة صناديق التقاعد وضرورة أن تنصف كبار السن 2016. ثالثاً، هناك حركة الشعب في مقاطعة أروكانيا في الجنوب، وهم من السكان الأصليين ويعرفون بقومية “المابوشي”. ورابعاً، الحركات النسوية القوية، وكانت بعض مطالبها تخصّ إنهاء تجريم الإجهاض ومحاربة العنف الجندري، وفضح الأبوية في الجامعات. وخامساً مظاهرات 1983، وفي 1989.
مهمات الرئيس اليساري
يضع غابرييل أمامه مهمات كبرى، في إطار تصفية عدم المساواة الكبيرة، واستمرار المراتب الطبقية الحادّة “أبيض، هجين، وفي الأسفل الخلاسيون والشعوب الأصلية”. علماً أن قطاعات من الشعب التشيلي لا توافقه، بل إن منافسه، خوسيه كاست، ظهر مدافعاً عن إرث الجنرال. وللرئيس الحالي الملياردير سبيستيان بينيرا أيضاً أنصاره. وهناك العداء الأميركي لليسار بعامة. وبالتالي ليس طريق الرئيس اليساري مفروشاً بالورود، ولكن أيضاً تصطف خلفه أغلبية كبيرة من الشعب التشيلي، والسكان الأصليين، ورغبة دفينة، “للانقلاب” الكامل نحو النظام الديمقراطي، وعدم الاكتفاء بما تمَّ منذ 1990، حيث قيل حينها إن تشيلي اختارت الانتقال الديمقراطي.
تتحدّد مهمات غابرييل المستقبلية بما وَعد به التشيليين: إصلاح نظام التقاعد، وتحقيق خدمات صحية شاملة، ولا تميز بين الفقراء والأغنياء، وتوزيع أفضل للثروة. ويشار هنا إلى أن 1% يحوز 27% من الثروة القومية، وأن تسعة ملايين تشيلي تنقص حصتها من هذه الثروة عن 3%. وهناك مسألة الإسكان، وهي قضية قديمة في ذلك البلد، وتعزيز التعليم العام، وزيادة أجور العمال، ومكافحة المخدّرات، والدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك وعوده المتعلقة بتأسيس ديمقراطية مستدامة، وبمشاركة الشعوب الأصلية، وقضية استحواذ الشركات الخارجية والرأسمال الخاص المحلي على معظم الثروة. ويضاف هنا مطالب انتفاضة 2019. وبالتالي، كيف سيتمكّن الرئيس وائتلاف اليسار والأحلاف السياسية التي عقدها من تجاوز كل تلك القضايا، والتي تشمل الاقتصاد، والنظام السياسي وإرث بينوشيه، والقضايا الاجتماعية.
انتقادات يسارية
هناك تيارات يسارية لا تميل إلى تصنيف غابرييل باليسارية الجذرية، وتفضل أن تطلق عليه تسمية اليساري الإصلاحي أو الديمقراطي، لأنّه وآخرين وافقوا على صفقة سياسية أنهت انتفاضة 2019، سيما أنه أَدخل في حلفه فئات ستعارض أيّة تغييرات جديّة في الاقتصاد والمجتمع لصالح الطبقات المفقرة. وبالتالي من الخطأ تحميل الرجل أبعاداً “ماركسية، أو اشتراكية”. وقد لا يبتعد كثيراً عما قام به رؤساء سابقون “اشتراكيون”، سيما الرئيسة ميشال باشيليه التي حكمت تشيلي بين 2006 و2010، ولاحقاً بين 2014 و2018. يريد غابرييل ضبط الفساد، وتعزيز النظام الديمقراطي، والتخفيف من الفقر، وإخراج البلاد من وضع اقتصادي معقد، وإنهاء التهرّب الضريبي، وخفض تدريجي ومستدام للعجز المالي الهيكلي. وبالتالي، لن يوقف النهج الاقتصادي القائم، وهو ما صمتت عنه القيادات التي وصلت إلى البلاد منذ 1990، أي لحظة التحوّل الديمقراطي.
لا يمكن مقارنة غابرييل بسلفادور الليندي، فالأخير قاد تحولاتٍ عميقة في الاقتصاد والقضايا الاجتماعية، حيث أجرى تأميم البنوك والمناجم، وألغى سيطرة الشركات الخارجية على الاقتصاد، وقام بأكبر إصلاحٍ زراعي في هذا البلد، ووضع دستوراً يضمن حقوق الناس في العمل والإسكان والتعليم المجاني. لا يمتلك غابرييل أية رؤية نحو ذلك، على الرغم من حدّة الأزمة الاقتصادية والتفاوت في الدخل واحتكار القلة أغلبية اقتصاد البلد. لهذا، نميل للتحليل أن تشيلي لا تذهب نحو نظام سياسي يساري، بل سيتعزّز النظام الديمقراطي، وقد يساعد في التخفيف من حدّة الفقر، وطيِّ مشكلات كثيرة عالقة منذ 1973. وكانت الرئيسة ميشال، أيضاً قد وعدت بذلك الطي، لكنها فشلت، وهي التي وصلت إلى الحكم مرّتين، وكانت قد اعتقلت من قبل، وتعرف جيداً مشكلات تشيلي العميقة.
أزمات تشيلي والمستقبل
الأزمات التي لم تتوقف عن التفجر في هذا البلد، ستعاود أغلب الظن إلى عهدها، وحينما يستلم غابرييل الحكم، وتبدأ حكومته مباشرة عملها. صحيحٌ أن أغلبية الدول تعاني أزمات اقتصادية حادّة، وهناك الأزمات التي سببها كوفيد – 19، وإغلاق البلاد، ولكن ليس في الأفق بدائل اجتماعية واقتصادية عن الاقتصاد الحر. وفي بلادٍ كتشيلي، هناك تأسيسٍ كبيرٍ لهذا الاقتصاد، وجاء إثر الانقلاب، وقبل وصول الليندي إلى الحكم، وبسبب غياب طبقة برجوازية صناعية وصاحبة مشروع للتحديث والنهوض الصناعي. ولهذا تتبوأ مطالب انتفاضة 2019 مسائل تعدُّ هامشيةً في الدول الديمقراطية، بينما “الدعاية” الإعلامية تؤكد أن تشيلي دولةٌ ديمقراطية منذ 1990. وهنا يميز المفكرون بين ديمقراطية ضعيفة وأخرى راسخة، ولا يجوز مقارنة تشيلي بفرنسا مثلاً أو أيّة دولة أوروبية.
الأكيد أن شعوب القارة اللاتينية تتجه دول كثير فيها نحو اليسار، وهذه ليست المرّة الأولى، وهناك أنظمة يسارية فيها حالياً، ولكنها غير قادرة على إخراج بلادها من أزماتها. وإذا كان صحيحاً أن تجاوز الأزمات مسألة في غاية التعقيد، ولا تنتهي بسيطرة كاملة للدولة على الاقتصاد مثلاً، وقد فعلها الزعيم الروسي لينين بعد 1917، ولكنه اضطر إلى تطبيق سياسة إشراك الرأسمال الخاص بالاقتصاد. وهناك تجربة الصين، والتي يُجمع محللون كثر أنّها أصبحت دولة رأسمالية، بغطاء من الحزب الشيوعي الصيني. الممكن يساريّاً أن تفرض الدولة سيطرتها أكثر فأكثر على موارد البلاد وتوجيه القطاع الخاص نحو قطاعاتٍ اقتصاديةٍ أساسية، كالزراعة مثلاً أو الصناعات الإلكترونية. وهناك وعد من غابرييل بالاستثمار في صناعاتٍ غير مؤذية للبيئة، سيما أن هناك تلوثاً كبيراً في التربة والمياه بسبب الاستخدام الجائر من الشركات الخاصة. وبالتالي، هناك تحدّيات تضع الرئيس اليساري أمام خيارات صعبة، وسيطاِلب شركاؤُه البرجوازيون والطبقة البرجوازية بأكملها بإغماض العين عن الوضع المتردّي، وعن أوضاع الفئات المفقرة.
موارد تشيلي وإعادة توزيع الثروة
هناك موارد كبيرة في تشيلي، النحاس والحديد وسواهما ومناطق زراعية واسعة، وهناك نمو اقتصادي لصالح الطبقة الثرية، ولكن السياسات الاقتصادية المُتبعة تؤدّي إلى مزيد من الإفقار والتلوث والاضطرابات الاجتماعية. هنا المشكلة الكبرى أمام الرئيس الحالي. ربما كثرة التجارب الديمقراطية والمعاناة الشديدة للتشيليين، إثر الانقلاب العسكري، ستساعد الرئيس للقيام بخطوات جادّة نحو تحسين أحوال الطبقات المفقرة، وعدم الاكتفاء بتركز الثروات والنمو بيد الأثرياء. تقف أمام الرئيس وحلفائه من اليساريين مهمات كبرى، كما أشير أعلاه، وتخفيض “طوباوية” الوعود من غابرييل نفسه يوضح شكل سيطرته المستقبلية؛ فلم يتكلّم عن التأميم من جديد، أو تمليك السكان الأصليين ثرواتهم وحكم أنفسهم، وكذلك لم يتجه نحو سياسات جذرية ضد تدخل الإدارة الأميركية في هذا البلد، وأيضاً لم نقرأ عن خطة مناهضة للانفتاح الاقتصادي، وتحرير السوق منذ الانقلاب العسكري.
أمراض اليسار
ليس اليسار في تشيلي بوضعية مقيّدة ومكبلة، بل في كل العالم، فهو رهين تجارب اشتراكية عالمية، غاية في السوء لجهة الحريات السياسية، ولجهة الركود الاقتصادي. وتجربة الصين، اقتصادية بامتياز، وتفتقد إلى كل أشكال الحريات السياسية. وبالتأكيد لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد، وتجارب أميركا اللاتينية أيضاً غير مشجّعة، كحالة كوبا، وقد قمع نظامها الاحتجاجات أخيرا، وفنزويلا تسير نحو تعقيدات كبيرة، وتتعاون مع الإدارة الروسية، الأسوأ في الداخل الروسي ومحيطها ومنه تدخلها في سورية.
انتصار اليسار الإصلاحي (غابرييل وحلفه) ممرٌّ إجباري لدى حكوماتٍ كثيرة، حيث أفلست أنظمتها الرأسمالية، سيما إثر اعتمادها السياسات الليبرالية الجديدة، ومنذ التسعينيات، وفي تشيلي منذ الانقلاب الذي بدوره لم يستطع إنقاذ تشيلي من التضخّم، فوقعت به في 1975، وفي 1983، ووصلت الأزمة الاقتصادية إلى أوجها. المقصد من الإسهاب أن اليسار هذا ليس بديلاً حقيقياً، ولا يشبه التجربة الصينية أو الروسية، ولا حتى الكوبية أو الفيتنامية، وقد ينتكس من جديد.
تخوّفَ مثقفون عرب وسوريون من أن ينتهج غابرييل مسار قادة يساريين في قارّته، ويدعمون النظام السوري أو المقاومة الطائفية كحزب الله. التحليل أعلاه، وتجربة الديكتاتورية في هذا البلد، ووجوده في حلفٍ، فيه فئات طبقية برجوازية سيمنع الرجل، وهو القائد الطلابي لاحتجاجات طلابية وشعبية، في 2011 و2019، عن انتهاج سياساتٍ مهذه. صحيح أن الرجل من المؤيدين الأشداء للقضية الفلسطينية، ولكن هناك فئات واسعة في كل جهات الأرض مؤيدة لحقوق الفلسطينيين ومناهضة للصهيونية، وبالتالي من الخطأ تصوير كل مؤيدٍ للقضية الفلسطينية مؤيداً للنظام السوري أو المقاومة الطائفية. هذا خلطٌ في فهم التمايزات بين هذه الفئات أو تلك. بكل الأحوال، من أيّد النظام السوري من اليسار، أنظمة وحركات، لم يكونوا أوفياء لشعوبهم، فكيف سينصفون الشعب السوري، والكلام ذاته ينطبق على غابرييل في حال التُبست عليه الأمور.
غياب تصوّر متكامل
المشكلة الكبرى التي واجهت الانتفاضات العربية هي في غياب تصوّر متكامل عن المستقبل، والأمر ذاته ينطبق على غابرييل هذا. وفي حال حقق ما وضعها مهمات له، وما طرحته انتفاضة 2019، فلن يشتمه أهل بلاده. أمّا إذا تخلى عن مصالح الفئات الأفقر في هذا البلد، وهو ما فعلته التجارب الاشتراكية السابقة، باستثناء الفترة القصيرة لحكم سلفادور الليندي، فإن الاحتجاجات ستعود.
إنقاذ الشعوب من أزماتها العميقة، وتطوير احتجاجاتها وثورتها، التقدم فيها غير ممكن خارج الانتقال الديمقراطي العميق، وتحييد الجيوش عن السلطة، وتقييد الاقتصاديات الحرّة، ورفض أيّة قروض دولية غير مشروطة باستنهاض قطاعات اقتصادية صناعية أو تصنيع كبير للزراعة المحلية، ورفض السياسات الليبرالية، والثرثرات القائلة إن الانفتاح سيؤدّي آلياً إلى الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وفي تشيلي بالذات، ارتبط الأمر بالانقلاب العسكري والتبعية للولايات المتحدة، هناك ضرورة لإعطاء أوسع الحريات للشعوب.
لا يمكن إغلاق البلاد، أو فكّ ارتباطها عن الخارج حالياً؛ فالتداخل العالمي العولمي هائل، وإمكانية حصار أيّ دولة في غاية السهولة. ولنلاحظ كوبا، فهي محاصرة منذ 1958، وهناك الحصار على روسيا مثلاً، أو إيران. المقصد إن إمكانية شلّ الدول الضعيفة، والمتواضعة اقتصادياً، وتأزيمها، قضية محسومة. وبالتالي، من أكبر الأخطاء وضع “روشيتة عامة” للنهوض، لا تقرأ جيداً الوضع العالمي والقدرات المحلية. أنظمة ما بعد الثورات لم تستطع النهوض بدولها سريعاً، ولهذا فشلت في مصر، وفي تونس، وتعاني ليبيا الأمرّين. وتشيلي الآن في عين العاصفة، فهل يدفع بها إرثها، منذ بداية القرن العشرين، وكان تاريخ صراعٍ نقابي وسياسي كبير واحتلالات، نحو تجربةٍ يسارية جديدة، تنهض بكل أحوال هذا البلد؟ هذا متروكٌ لما بعد استلام غابرييل الحكم، وكيف سيتمكّن من تشكيل حكومة يسارية، ويأخذ دعماً من برلمانٍ ليس كل أعضائه يساريين، وهناك مشكلات كبرى، حاولت هذه المطالعة تحليلها أعلاه.
*نشرت في جريدة العربي الجديد في 3 كانون الثاني / يناير 2022
Leave a Comment