كتب الدكتور بول طبر
في التقليد الماركسي الذي يختزل غالباً كل العلاقات والبنى الاجتماعية والثقافية والرمزية والسياسية إلى العلاقات والبنية الإقتصادية، وبكلام أوضح، إلى مصالح الطبقة المسيطرة (باستثناء المراحل التي تواجه خلالها الطبقات المستَغَلة الطبقة المسيْطِرة وصولاً إلى إعلان الثورة عليها، فتتغلب عندئذ التمثّلات ومصالح الطبقة المستَغَلة )، يفوت هذا التقليد أن يظهر التأثير الخاص للعلاقات والبنى غير الاقتصادية والمصالح التي تتشكل من خلال الإستثمار بمواردها (المكانة الاجتماعية والتحكم بمصير وحرية الآخرين) على سلوك الأفراد والجماعات وممارستهم وقيَمَهم الإجتماعية، ومنها ما يتعلق بممارساتهم الإقتصادية أيضاً.
أركز في ما يلي على ترجمة هذا التقليد في مجال تفسير وتحليل الظاهرة الطائفية في لبنان. في إحدى تجلياته المبكرة، يقوم هذا التقليد على اعتبار الطائفية وعياً زائفاً تقف الطبقة المسيطرة وراء نشره في صفوف الطبقات الفقيرة لمنعها من أن تعي مصالحها الطبقية المشتركة فتتوحد على أساسها وتطلق معركتها الحقيقية ضد فئات الطبقة المستغِّلة وصولاً ألى إزالة الإستغلال الطبقي بالكامل وبناء المجتمع الشيوعي اللاطبقي. وفي نسخة لاحقة لهذا التقليد، يتم الاعتراف بأن الطائفية أبعد من أن تكون مجرد وعي زائف ونتاج لفعل إرادوي لتصبح ذات بنية موضوعية متكاملة لها مؤسساتها وأجهزتها تتمثل أساساً في المثال اللبناني بالنظام السياسي الطائفي ومجمل مؤسسات الدولة والقوانين التي تكرس وجودها وتعيد انتاجها بصورة دائمة. تتميز هذه المقاربة عن سابقتها باعترافها بالواقع الموضوعي للطائفية المتجسد في مؤسسات مختلفة، وبالتالي بعدم ارتهانها بفعل إرادوي لممثلي الطبقة المسيطرة. إلا أنها تعود وتؤكد على النظرة الإختزالية للطائفية ولو بصفتها الموضوعية وامتداداتها المؤسساتية، لتحصر الأدوار المتعددة التي تقوم بها في مهمة أساسية وهي خدمة مصالح الطبقة المسيطرة. وحتى عندما يقر أصحاب “الرؤية الجدلية” بالتأثير المتبادل بين الطائفية والمصالح الطبقية، فإن الدور المؤثر للطائفية لا يتعدى مقتضيات تلك المصالح وضرورة خدمتها بالتمام والكمال. وفق هذا المنظور، إنها مصالح طبقية واضحة ومكتملة سلفاً، أما تجلياتها الملموسة في سياق التطورات والصراعات، فما هي سوى تمثّلات وتأثيرات في امتداد تلك المصالح.
يفضي هذا التحليل إلى إبطال أي صفة مميَّزة للظاهرة الطائفية، وبالتالي أي تأثير خاص بها على ما دونها من الظواهر، ومن ضمنها المصالح الطبقية في واقعها الملموس والمعاش. تقوم الطائفية على رؤية يتم بموجبها تقسيم المجتمع اللبناني إلى طوائف متفارقة وذات مصالح حصرية تمنع انتاج وحدات إجتماعية موحدة، وعلى رأسها وحدات طبقية، ووحدات وطنية على مستوى القانون وفي المجال السياسي الوطني. وعلى هذا الأساس، تصيغ الرؤية الطائفية في الواقع الملموس والعياني للمجتمع اللبناني، قواعد الممارسة الإقتصادية والممارسة السياسية (والثقافية)، بما ينسجم مع ديمومتها وديمومة المصالح والقوى المستمدة منها.
عدم إدراك هذه الحقيقة العيانية للواقع اللبناني له تداعيات كثيرة، أكان في مجال تفسير وتحليل المجتمع اللبناني أو الإنخراط في النشاط السياسي المرتبط فيه.
ما أريده هنا، هو إظهار العلاقة بين هذا التقليد “الماركسي” في مقاربة المجتمع والسياسة في لبنان، وبين موقف بعض اليساريين من ظاهرة حزب الله ودوره السياسي. يؤيد هؤلاء “اليساريون” حزب الله لسبب أساسي وهو وقوفه العلني والمعلن ضد المصالح “الغربية” في لبنان والمنطقة، وعلى رأسها مصلحة الولايات الأمريكية المتحدة، وضد الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين وشعبها. بغض النظر عن صوابية هذا التوصيف لموقف حزب الله ودوره الفعلي في هذا المجال، وحتى لو سلمنا جدلاً به واسقطنا التعديلات التي طرأت على مواقف حزب الله منذ تأسيسه لغاية اليوم (وهي تعديلات مهمة جداً لجهة ارتهانه للأجندة الأيرانية الأقليمية). يستمد هذا الموقف اليساري “شرعيته” النظرية من التقليد “الماركسي” في مقاربته الإختزالية للظاهرة الطائفية في لبنان. فتماشياً مع هذا التقليد، يرى هؤلاء “اليساريون” أن موقف حزب الله المعلن والمشار إليه سابقاً هو محدِداً “جوهرياً” لمجمل دوره ووجوده الإديولوجي والسياسي والعسكري. لا بل يتم وفق هذه النظرة الإختزالية في التحليل “الماركسي”، إسقاط أي تأثير ذي أهمية للهوية الثقافية والفكرية والسياسية لحزب الله، و لمواقفه داخل وخارج السلطة في لبنان. باختصار، يتم تحليل هذه المواقف أساساً وبصورة إختزالية كاريكاتورية بصفتها داعمة أساسية لموقف الحزب في “معركته” في وجه الإمبرالية وإسرائيل وحلفائهما اللبنانيين والعرب. وفي هذا المجال، لا داعٍ للتذكير باحتكام هذا التحليل لحزب الله بـ “الترسيمة الطبقية” الإختزالية للتقليد “الماركسي” المشار أليه أعلاه، والمتمثل هنا باعتباره مجسداً لمصالح “البرجوازية الوطنية” في التحرر من سيطرة “الإمبريالية وحلفائها المحليين”.
وعلى صعيد آخر، يؤدي هذا التطبيق الإختزالي للماركسية إلى طغيان المطالب والنضالات ذات الطابع الإقتصادي (على أهميتها دون أدنى شك)، والتقليل من شأن المطالب والنضالات التي تستهدف تفكيك النظام الطائفي وبناء دولة المواطنة والمواطنين (لاحظ طغيان التركيز على استهداف المصارف لدى غالبية المجموعات الشيوعية خلال انتفاضة 17 تشرين).
بكلام مختصر ومباشر، إن الأحزاب والقوى الطائفية هي بحكم تكويناتها وممارستها ومصالحها، معيقة للمسارات الملموسة والتاريخية لتبلور القوى السياسية التي تدافع عن مصالح المستَغلين، وتقف حكماً و”موضوعياً” في وجه كل المحاولات والقوى التى تسعى إلى بناء دولة مواطنة ومواطنين ومؤسسات وقوانين ديموقراطية.
Leave a Comment