سياسة

اللبنانيون يدفعون ثمن انتظار الحلول وتلاعب قوى السلطة

كتب زكــي طـه

    في موازاة الأوهام وإدمان انتظار الحلول من الخارج، اعتقاداً من اللبنانيين أن الجهات الدولية لن تتخلى عنهم ولن تسمح بزوال بلدهم الصغير. وهم في ذلك يكررون التهرب من مسؤولياتهم، ويرفضون التعامل مع أزماتهم في ضوء مراجعة تجاربهم السابقة، وعدم تكرار محاولاتهم الفاشلة للتغيير، ومتابعة بعضهم تسويق مشاريع الهيمنة الطائفية والفئوية المدمرة ومعها رهاناتهم الانتحارية.

    وبينما تواصل قوى المنظومة الحاكمة والمتحكمة بالبلد أداءها العبثي وغير المسؤول وطنياً وانسانياً. ووسط استغلال الانهيار المريع للوضعين الاقتصادي والمالي، ورفض ترشيد الدعم للسلع الضرورية ومتابعة هدر بقايا احتياط العملات الاجنبية وإباحة التهريب وحماية المهربين واحتكار التجار، وتجاهل تصاعد معدلات التضخم وانهيار قيمة العملة الوطنية ومعدلات الفقر والبطالة.

   تدخل البلاد  مرحلة شديدة الخطورة تتمثل بالفوضى الأهلية  الشاملة، وانفجار الشارع في مواجهة مضاعفات الانهيار وزحف المجاعة وسط سياسة الاغلاق وشدة البؤس على الصعيد الانساني، وتفاقم عجز القطاع الصحي عن مواجهة انتشار وباء كورونا، واستمرار خفة أهل الحكم في التعامل مع الأزمة، والاكتفاء باغلاق البلد والتسليم بفقدان الدواء والاسرة والمستلزمات من المستشفيات، ونثر الوعود بتامين اللقاح في الاشهر المقبلة.

وبذلك تتابع قوى السلطة فجورها وتتقاذف المسؤوليات حول مختلف ملفات الأزمة، والتوظيف السياسي لتحركات المحتجين والمتضررين في الشارع، واستغلال بعض الممارسات الخاطئة ومواجهتها بالقمع والعنف الدموي بذريعة تحميل اصحابها مسؤولية الأزمات وحالة الفوضى في البلاد. وبما أن أداء وممارسات قوى السلطة لا تنطوي على جديد، فإن سلوكها ليس عصياً على الفهم. فهي تستمد حصانتها ومبررات وجودها من الاستثمار في إشكالية الكيان المزمنة، والمتمثلة بالانقسام الأهلي الموروث حول موقعه وعلاقته بمحيطه وهويته الوطنية وتوازنات نظامه السياسي. وهذا ما يتيح لها إعادة انتاج وتجديد بُناها الطائفية وزعاماتها المناطقية، ويبقيها قادرة على الإمساك بمواقع السلطة والتحكم بمؤسسات الدولة ومقدراتها، واستغلالها لخدمة مصالحها.

    وفي امتداد ذلك تشكلت مناطق نفوذ وتكرست مجتمعات طائفية ومناطقية وفئوية، يُصادر النطق باسمها من يدعي تمثيلها وحماية حقوقها. وتحولت بالتدريج أوطان قائمة بذاتها، متجاورة من حيث المصالح المتداخلة التي تقررها عوامل الاتصال والانفصال في الداخل وتوازنات العلاقات مع الخارج.  وبذلك أصبح لكل منها هوية وسيادة وميليشيا وسياسات وعلاقات خارجية، وباتت “دويلات”، هي أشباه  دول تحظى باعتراف الداخل والخارج. أما قادتها وزعماؤها  الذين يشكلون حكام الأمر الواقع لها، وبصرف النظر عن علاقات التنافس والخصومة أو العداء، فقد تتشكلت منهم منظومة القوى السياسية التي تحكم البلد، التي تتشارك تقاسم مواقع الدولة العامة ومؤسساتها وأجهزتها ومواردها، وفق تراتبية احجامها ومصادر قوتها، كما تتصارع لضمان مصالحها وحماية مكتسباتها، باسم حقوق طوائفها لتحصين قاعدة ولاءاتها.

    وفي هذا الإطار تقع صعوبة بناء البدائل والتحديات التي تواجه الغالبية الساحقة من اللبنانيين المتضررين من هذا الواقع، ومن أداء وسياسات سلطات الأمر الواقع. أما تهرب غالبية قوى الاعتراض من مراجعة تجاربها الفاشلة، فمرده أكلاف المعارضة المستقلة وتحدياتها، لذا نجدها توغل في استسهال مهام التغيير وتبسيط مساراته المعقدة والصعبة، كما جرى خلال ومع انتفاضة 17 تشرين المجيدة. الأمر الذي اتاح لقوى المنظومة الحاكمة، محاصرة الانتفاضة واستغلالها وتبديد زخمها والاستثمار فيها لشرذمتها، ونشر اليأس بين اللبنانيين المتضررين الحالمين بالتغيير والذين أنكفأوا إلى ما كانوا عليه قبلاً. ولأن حركة معارضة فعلية لم تتشكل، فإن تكرارالاخطاء والاستمرار بطرح الشعارات والبرامج ومطالبة قوى السلطة بتنفيذها، كما يفعل بعض الناشطين والناطقين باسم الانتفاضة، أمرٌ لا يُحرجها  ولا يشكل مصدر قلق لها، حيث يصح فيها ومعها القول: “وداوني بالتي كانت هي الداء”. ولا يختلف الأمر مع  دول الخارج الباحثة عن ضمانات لمصالحها، التي تحمّل قوى السلطة مسؤولية الأزمات، ثم تدعوها لتجديد دورها وتعديل أدائها لتنفيذ الاصلاحات المطلوبة  التي قررتها مؤتمرات الدعم الدولية وتضمنتها المبادرة الفرنسية.

    ولذلك فلا شيء يدعو للاستغراب في أداء قوى السلطة وممارساتها، وفي استغلال بؤس اللبنانيين لتزخيم طموحاتها الفئوية، والاستقواء بعلاقاتها الخارجية. مما يجد ترجمته في استسهال إبقاء حبل أزمات البلد على غاربها، والتشبث بمواقعها ومكتسباتها، والسعي لتحصينها ضماناً لوجودها وأدوارها عند الاستحقاقات القادمة، ما جعل تشكيل الحكومة رهن طموحات ومخططات وحسابات تلك الأطراف، بعيداً عن حقوق وحاجات اللبنانيين ومصالحهم ومصيرهم الوطني.

   ورغم أن كل طرف ينطلق من قاعدة “أنا أولاً”، فإن إلغاء أو شطب أي طرف من المعادلة شبه مستحيل،  ولذلك فإنهم جميعاً وتبعاً لتوازنات الداخل والخارج، محكومين للتسويات المؤقته لحظة توافر شروط انعقادها. وإلى ذاك الحين سيستمر شد الحبال والصراع وفق المتاح والمسموح به من وسائل وأدوات. ولا يُقرأ تفاقم الانهيار المتمادي واتساع حالة الفوضى واستطالة استعصاء تشكيل الحكومة، بمعزل عن هيمنة حزب الله وتحكمه بأوضاع البلد من جميع جوانبها وفق معادلته الذهبية القائمة على حماية العهد وتياره، اللذين يؤمنان للحزب غطاءً يحتاجه بشدة لوضعه ودوره وسياساته، ما يجعله يرفض الاختلاف معهما، كي لا يزيد من ضعفهما الناجم عن محاصرة بيئتهما الطائفية وعزلتهما اللبنانية والخارجية. ولأنه يرفض تشكيل حكومة أكثرية مع حلفائه كي لا يُحمّل مسؤولية خياراته وسياساته ونتائجها، فإنه يُفضل عودة الحريري لرئاسة الحكومة واستغلال حاجة الأخير للموقع واخضاعه لشروطه، كما جرى سابقاً، بما يتجاوب مع حسابات العهد في استكمال ولايته وضمان موقع رئيس التيار في الاستحقاقات المقبلة. بينما يأمل الحريري تشكيل حكومة لا يتمثل فيها حزب الله، علّه يستعيد علاقاته الخليجية والدولية، واعتقاداً منه وفي حالة تأجيل الانتخابات النيابية القادمة وتعطيل الاستحقاق الرئاسي المرجحان، فإن رئاسته لحكومة ملء الفراغ تصبح أمراً واقعاً. أما حسابات حزب الله فسياقها مختلف، فهو ينطلق من  قدراته على التحكم بتشكيل الحكومة وفق الصيغة والشروط الملائمة لوضعه، والتي تحفظ تحكمه بقرار وموقع البلد وواقعه السياسي، وإضافته للموقع الايراني الساعي لتكريس مكاسبه وتجميع اوراقه بانتظار المفاوضات الاميركية والدولية المحتملة معه مستقبلاً.  بين انتظارية اللبنانيين ومآسيهم  والانقاذ المفقود، وفي ظل عبث قوى السلطة واستعصاء تشكيل الحكومة، تتراكم التحديات والمخاطر ويتضاعف شلل وانهيار الدولة ومؤسساتها ومعهما مقومات عيش وصحة الناس، بالتوازي مع الحصارالخانق والعقوبات الجائرة والتهديدات الاسرائيلية.         

Leave a Comment