زهير هواري
بيروت 22 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية
باتت الأزمة المالية – الاقتصادية الاجتماعية على مستوى خطير من الاحتدام، خصوصاً مع الارتفاع الجنوني في أسعار الغذاء وغيره من مستلزمات حياة المواطنين، ولا سيما الطبابة والتعليم، فكيف يعيش اللبنانيون وسط هذه الكارثة المطبقة برواتبهم المحدودة والعاجزة عن الإيفاء بتأمين مقومات البقاء؟
باديء ذي بدء يمكن القول إن اللبنانيين يتدبرون أمورهم من مصادر متعددة، لتأمين قوت يومهم، فالمعروف احصائياً أن عائلة لبنانية مؤلفة من أربعة أفراد تحتاج لتأمين قوتها اليومي إلى ما لايقل عن 45 مليون ليرة شهرياً. والمبلغ المذكور يشمل أيضاً إلى جانب الغذاء المواصلات والالبسة والمدرسة، ولا يدخل ضمنها كلفة الطبابة والاستشفاء التي تصاعدت إلى حدود مذهلة، فقد باتت زيارة الطبيب نادرة وتقتصر على الحالات الصحية المتفاقمة. أما الدخول إلى المستشفى فقد أصبح متعذراً بعد دولرة الاكلاف، وانهيار ما تقدمه الصناديق الضامنة المتنوعة، حتى باتت مساهماتها لا تتعدى الـ 10 – 15 % وبالعملة المحلية، بينما يتحمل المواطنون 85% وما فوق. هنا تقع الكارثة، ويتم مواجهتها عبر “دب الصوت” وأشكال من التضامن العائلي والاجتماعي، أو بيع ممتلكات عقارية ومصاغ وما شابه. ما يعني أنتقال الثروة من الطبقات المفقرة إلى الطبقة الميسورة. إنزياح الثروة على هذا النحو يعني أن من أفادوا من الانهيار يراكمون ثروات إضافية كانت لسواهم، إلى جانب ثرواتهم الاصلية.
وبات متوقعاً ايضاً أن يصبح إرسال الاولاد إلى المدرسة والجامعة من “الكماليات” في العام المقبل مع انهيار التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية، واقدام مؤسسات التعليم الخاصة عامة وعالية على دولرة أقساطها، خلاف ما كانت عليه العام الماضي، عندما كانت عملية الدولرة محدودة ولا تتعدى عدة مئات من الدولارات، بينما المبلغ الأساسي الذي تتقاضاه يتم دفعه بالليرة اللبنانية. معظم المؤسسات التعليمية الخاصة ضاعفت ما تتقاضاه من الاهل بالدولار، ووصل ارتفاع القسط لدى بعضها إلى حوالي 500 %، يضاف إليها كلفة المواصلات والثياب والمستلزمات التعليمية من أجهزة الكترونية وكتب ودفاتر وغيرها.
إذن تبدو الاوضاع مطبقة، ولعل ما تلجأ إليه الكثير من العائلات لجهة تحديد عدد وجباتها اليومية بوجبتين فقط أو واحدة حتى، هو بعض من السلوك العام المعتمد في ظل الاوضاع الراهنة. ينطبق ذلك على الأسر التي تتقاضى الحدود الدنيا من الدخل، وهو أشد انطباقاً على ما لايقل عن 30 إلى 35% من حجم العمال العاطلين عن العمل أو المزاولين لمهن هامشية لا تدر دخلاً مقبولاً.
رواتب متآكلة لدى القطاع العام
لنبدأ من موظفي القطاع العام. فقد قرر مجلس النواب تجاوز العقبات السياسية والقانونية والموافقة على فتح اعتمادات إضافية لتمويل رواتب ومستحقات موظّفي القطاع العام والمتقاعدين وأساتذة الجامعة اللبنانية، بعد أن كانت المستحقات المنتظرة عن الأشهر المقبلة، مهددة بفعل عدم توفُّر الاعتمادات اللازمة في وزارة المالية. أما التبرير الأكثر فصاحة عن هذه الموافقة فذلك الذي أدلى به رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان من أن “مصلحة الدولة العُليا تفرض إقرار المعاشات، أي لقمة عيش 400 ألف عائلة، والتي لا يجب أن تتحمَّل وِزرَ الخلافات السياسية والتفسيرات الدستورية المختلفة”. وكانت الأزمة قد أطلت برأسها عندما أعلنت وزارة المالية عدم توفُّر الاعتمادات لتمويل دفع الرواتب بعد شهر حزيران. فالتمويل الذي لديها خاضع للقاعدة الإثني عشرية التي تصرف الدولة وفقها في ظل غياب الموازنة. ولسدّ هذه الفجوة، أقرَّ مجلس النواب فتح اعتمادات إضافية بنحو 37000 مليار و400 مليون ليرة لتغطية المساعدة المؤقّتة للعاملين في القطاع العام والمتقاعدين، فضلاً عن زيادة بدل النقل للموظفين. وكذلك، تم فتح اعتماد بقيمة 265 مليار ليرة لتغطية نفقات بدل نقل لأساتذة الجامعة اللبنانية عن العام الجامعي 2022-2023.
وخلال الجلسة وعد رئيس الحكومة أن ترسل الحكومة مشروع موازنة العام 2023 التي لم تحولها وزارة المال لمجلس الوزراء بعد ، وستعكف الحكومة على عقد جلسات متتالية لمناقشتها قبل نهاية حزيران الجاري، طالباً من المجلس عدم ردها. واجتماع المجلس دفع بـ 29 نائباً، إلى رفض عقد جلسة التشريع لأسباب لها علاقة بدور المجلس المحدد بانتخاب رئيس الجمهورية، لأنه “يعيدنا إلى المنطق نفسه الذي بدأ منذ اقرار سلسلة الرتب والرواتب غير المدروسة، التي سرّعت الانهيار، مروراً بالزيادات الأخيرة العشوائية غير الممولة على رواتب وأجور القطاع العام، والتي أدت إلى تضخّم كانت نتيجته تدني القيمة الشرائية لهذه الرواتب إلى أقل من النصف. هذا النهج الذي يفتقد إلى الجدية وإلى رؤية وخطة شاملة، لا يمكنه معالجة المشاكل، خصوصاً في غياب مصادر تمويل فعلية لهذه الاعتمادات، بل سيؤدي إلى تضخم جديد يقلص قيمة الزيادة”.
وبناءً على مخرجات الجلسة النيابية ودون التوقف عند الجوانب السياسية، سيقبض الموظّفون رواتبهم ومستحقاتهم، التي تصل إلى 7 معاشات شهرية، أي رُزِم من الليرات التي لا تدخل في صلب الراتب ويطبعها مصرف لبنان، مُفقِداً إيّاها قدرتها الشرائية، بعد تعزيز قوّة منصة صيرفة ودولار السوق على امتصاص قيمة أي زيادة. فارتفاع دولار المنصة يمتصّ قيمة الرواتب بعد تحويلها إلى دولار، ويتكفَّل دولار السوق في تقليص حجم الشراء المفترض لتلك الرواتب. علماً أن هذه الزيادة هي مجرد إضافات “دفترية” دون قيمة فعلية. أما ما يقبضه المتقاعدون عن 12 شهراً، فلا يساوي معاشاً واحداً أو حتى 3 معاشات، تبعاً لتغيُّر سعر دولار المنصّة”.
الواضح مما أقدمت عليه الحكومة والمجلس النيابي يعني أن البلاد في ظل انسداد الأفق السياسي تنحدر أكثر نحو محطة جديدة في الهاوية المستمرة منذ سنوات، والتي لا يمكن أن تعالج على النحو الذي تعتمده الحكومة، وترفض بموجبه أي نوع من أنواع الاصلاح المالي والنقدي والاقتصادي الشامل . ولعل مجرد عدم اقرار موازنة العام 2023 ىرغم مرور 6 أشهر على بدء العام هو أحد الأدلة على طبيعة المقاربة الرسمية التي تكتفي بتكديس أرقام الرواتب والاجور التي تتهاوى تباعاً، ولا تقدم أو تؤخر في العملية السياسية – الاصلاحية بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة اصلاحية وإقرار برنامج للتعافي يوزع الخسائر على الشرائح والفئات الاجتماعية تبعاً لمسؤولياتها وقدراتها.
موظّفو الدولة ممن يتقاضون أجوراً شهرية أو مياومين يدركون أن السلطتين التشريعية والتنفيذية تعتمدان سياسة أقل ما يقال فيها أنها تمارس الاحتيال على أوضاعهم المعيشية، فما يحصلون عليه لا يقدم، بل يفاقم أوضاعهم، طالما أنه لا يعالج جذر المشكلة بما هو الانهيار المالي الذي لا يمكن مقاربته عبر عمليات التصحيح، وتقديم المنح الاضافية الذي يبقى دون ما هو مطلوب في ظل الانهيار المتمادي للنقد الوطني. المقطع الذي أخذناه من النائب كنعان هو نموذج للمقاربة الرسمية التي توهم الناس بأنهم يحققون لهم مكاسب بصرف النظر عن توافر الاعتمادات المطلوبة، وانعكاس طبع المزيد من الاوراق النقدية على قيمة الليرة اللبنانية في السوق.
ومن المعروف أن الدولة بررت رفع قيمة الدولار الجمركي إلى 86 ألفاً من أجل دفع الزيادات على الرواتب، كما فعلت لدى إقرار سلسلة الرتب والرواتب قبل الانهيار. وتبين عندها والآن، مدى خطأ حساباتها التي لا تستند على أرقام ودراسات موثوقة. ومن المعروف أن الانفاق على القاعدة الإثني عشرية الذي تلتزم بها الوزارة لصرف الرواتب والمستحقّات، لا يقدم رؤية دقيقة حول حقيقة الاوضاع الإدارية وانعكاساتها المتحركة على مجمل الحياة الاقتصادية والمعيشية والوظيفية. فقد ثبت بالملموس أن هكذا مقاربة لا تنتج مفاعيل إيجابية بدليل استمرار القطاعات المهنية في اضراباتها، ما يعبر عن نوايا مبيتة لدى الممسكين بزمام الامور بالوصول إلى إلغاء الوظيفة العامة وبالتالي الرواتب والاجور واستبدالها بما يسمى “بدل الإنتاجية”.
ما يجدرذكره أن موظّفي الملاك والمتقاعدين، يقبضون رواتبهم ومستحقاتهم، مطلع كل شهر وليس في نهايته، فيما المتعاقدون والأجراء يقبضونه في نهاية الشهر. وكانت رواتب موظّفي الملاك والمتقاعدين لشهر تموز المقبل مهدَّدة. ما دفع إلى مسارعة مجلس النواب إلى التشريع وإضافة اعتمادات إلى موازنة العام 2022 التي يتم الإنفاق على أساسها، أو مبادرة السلطة السياسية ككل إلى ابتداع مخرج مناسب، وهو ما حصل، ستكون هذه َالرواتب ومستحقات الأشهر الأخرى مهددة.
ويصل عدد الرواتب المقرر دفعها إلى سبعة، وتنقسم بين الراتب الأساسي وحقٌّ الراتبين الإضافيين اللذين ُأقِرّاَ في نهاية العام 2022، ثم أربعة رواتب أُقِرَّت في نيسان الماضي. إلاّ أن الحقوق، وإن دُفِعَت، فستبقى بلا قيمة فعلية “لأنها زيادات وهمية. فهي تخضع لحسومات الصناديق الضامنة وضريبة الدخل التي باتت بشطور أعلى، فضلاً عن تأثير دفعها على منصة صيرفة بسعر 86300 ليرة بدلاً من 60000 ليرة. والاحتمال الأخطر هو الاقدام على طباعة المزيد من العملة الوطنية ما يطلق موجة إضافية من انهيار سعر صرفها، ناهيك عن “امتصاص قيمة الزيادة من خلال ارتفاع مستويات الفواتير في الكهرباء والاتصالات وأسعار السلع”.
وتشير رئيسة رابطة موظفي الإدارات العامة، نوال نصر، إلى أن ممارسات السلطة السياسية لم تقف عند حدّ عدم توفير الرواتب العادلة، بل ذهبت إلى خلق تفاوت بين موظّفي الإدارات والمؤسسات العامة لناحية قبض الرواتب. “ففي شهر أيار الماضي، قَبَضَ موظّفو الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومؤسسة كهرباء لبنان وهيئة أوجيرو ومجلس النواب، رواتبهم على دولار 60 ألف ليرة، فيما قَبَضَ موظّفو الإدارات العامة رواتبهم وفق دولار 86300 ليرة”. وتستغرب نصر كيف تتباطأ الدولة في إيجاد حلول لموظفي الإدارات العامة، وتسارع إلى “التجاوب مع مطالب موظّفي المؤسسات العامة مثل كهرباء لبنان وأوجيرو، بالإضافة إلى موظفي قطاع الخليوي، ذلك أن المستفيد الأبرز من تلك المؤسسات ليس الدولة، فوَجَبَ عليها بالتالي تأمين مصالح المستفيدين. والمشكلة أن تأمين المصالح يأتي على حساب الدولة ومالها العام. لكن في إدارات الدولة، المستفيد هو المالية العامة والموظّف والمواطن، وهذا ليس مهمّاً بالنسبة للمسؤولين”.
على أي حال، الواضح أن معضلة الوضع الاقتصادي المعيشي ودور الراتب والاجر في تأمين عيش الموظفين والعمال بات خارج الإمكان في ظل استمرار نهب مقدرات الدولة من جهة، وارتفاع أسعار السلع الغذائية على نحو ما كشفته التقارير الدولية والمحلية، مع سائر مقومات العيش. وعليه يستمر العاملون في القطاعين العام والخاص في الدوران في الحلقة المفرغة التي تضعهم بين فكي كماشة الانهيار الفعلي في قيمة مداخيلهم، وفرض المزيد من الارتفاعات في أسعار السلع والخدمات، التي تكاد تصل إلى الهواء، بعد أن انتهت من مرحلة الماء والكهرباء والصحة والمدرسة.
Leave a Comment